أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
Uncategorised

ما مكونات الجاذبية؟

إذا كانت قوة الجاذبية Gravity في جسيمات تحملها يجب أن تكون تلك الجسيمات قابلة للاكتشاف... من الناحية النظرية

ماركوس تشاون Marcus Chown

الجاذبية Gravity هي إحدى القوى الأربع الأساسية التي تربط مواد الكون بعضها ببعض. ولأن القوى الثلاث الأخرى غير الجاذبية (الكهرومغناطيسيةَ Electromagnetism، والقوتين النوويتين الضعيفة والقوية Weak and strong nuclear forces) عُرِّفت بنجاح على أنها ناشئة عن تبادل الجسيمات تحت (دون) الذرية الحاملة للقوة Force-carrying subatomic particles، يرى المنظرون أنه لا بد من وجود وصف ”كمّيّ“ (كمومي) Quantum مماثل للجاذبية أيضاً.

إن حامل قوة القوة الكهرومغناطيسية التي تربط الذرات في جسمنا هو الفوتون. ولدى القوة النووية الضعيفة التي تعمل داخل نوى الذرات ثلاثة حوامل للقوة هي البوزونات -W، و+W، وZ0؛ وللقوة النووية الشديدة ثمانية أنواع من الغلوونات Gluons. يُطلق على حامل القوة الافتراضي للجاذبية اسم ”الغرافيتون“ Graviton. وليس من الصعب استنتاج خصائص الغرافيتون. في نظرية الكم Quantum theory، كلما زادت الطاقة اللازمة لاستحضار جسيم يحمل القوة من الفراغ Vacum، تعيَّن التعويض عن تلك الطاقة على نحو أسرع. وهذا يعني أن جسيماً ثقيلاً مثل البوزون -W الذي يتطلب تكوينه كثيراً من الطاقة يوجَد فترةً قصيرة، بالكاد يستطيع خلالها الانتقال على الإطلاق، وهذا ما يفسر النطاق الصغير للقوة الضعيفة. وعلى النقيض من ذلك فإن نطاق الجاذبية لا نهائي، مما يعني عدم الحاجة إلى طاقة لصنع الغرافيتون. ولذلك يجب أن تكون كتلته صفراً.

خاصية الغرافيتون الثانية التي يمكن استنتاجها هي ”التدويم“ Spin. في العالم الكمّيّ، ترتبط خاصية التدويم بدورانات الجسيم أو كيف يدور في الفضاء. إن اللبنات الأساسية للمادة – الكواركات واللبتونات – لها نصف لفة Spin-½، وهذا يعني أنها لا تعود إلى ما كانت عليه بعد دورانها بمقدار 360 درجة، وإنما يحتاج الجسيم إلى أن يدور دورتين كاملتين أي بمقدار 720 درجة قبل أن يعود إلى وضعيته السابقة. جميع حاملات القوة للقوى الثلاث غير الجاذبية تحتاج إلى لفة واحدة Spin-1 مما يعني أنها تتصرف بالطريقة نفسها بعد الدوران بمقدار 360 درجة. ومع ذلك يجب أن يدور الغرافيتون لفّتين Spin-2، لأنه لا يمكن أن يتفاعل جسيم مع كل المادة إلا إذا كانت له دورتان، وهي سمة أساسية للجاذبية العامة Universal gravity. يستغرق الأمر دوراناً قدرُه 180 درجة لإعادته إلى الحالة نفسها.

بالطبع من الممكن أنه لا يوجد وصف للجاذبية من حيث تبادل الغرافيتونات. ومع ذلك يعتقد معظم الفيزيائيين أن الجاذبية يمكن قياسها كمياً. المشكلة هي أن تقنيات الرياضيات المستخدمة لقياس القوى الأخرى تفشل في حالة الجاذبية. والإطار الوحيد الذي ينطوي على بعض الأمل هو نظرية الأوتار String theory. في هذه الحالة، لا يوضع تصورٌ للجسيمات الأساسية على أنها نقطة، بل اهتزازات مختلفة لأوتار من الطاقة-الكتلة.

إحدى نقاط قوة نظرية الأوتار هي أن مثل هذا الوتر المهتز له خصائص الغرافيتون. ولكن، للأسف، تنطوي هذه النظرية على مشكلات جِدية. لا يقتصر الأمر على أن الأوتار يُفترَض أنها أصغر بكثير من الذرة (ومن ثمّ غير قابلة للاكتشاف)، ولكن من أجل إعادة إنتاج جميع القوى الأساسية، يجب أن تهتز الأوتار في 10 أبعاد من الزمكان Space-time، أي أكثر بستة من الأبعاد التي نرصدها في الواقع. والأكثر صعوبة هو أن رياضيات نظرية الأوتار معقدة جداً إلى درجة أنها لم تقدم بعد أي تنبؤات قابلة للاختبار.

صعوبة الكشف عنها

”عدم وجود نظرية كمّيّة للجاذبية، لا يعني أن الغرافيتونات غير موجودة“

لكن عدَم امتلاكنا نظرية كمّيّة للجاذبية لا يعني أن الغرافيتونات غير موجودة. نحن نعلم أن موجة الضوء تتكون من فوتونات تنتقل معاً. وبالمقارنة يظن بعض المنظرين أن موجة الجاذبية Gravitational wave، وهي تموج في نسيج الزمكان واكتُشفت لأول مرة في العام 2015 آتية من اندماج ثقوب سوداء Black holes، لا بد أنها تتكون من غرافيتونات تنتقل معاً. يمكننا أن نُخفت مصدراً للضوء حتى يسجل كاشفٌ حساس تتابعَ الفوتونات الفردية. لكن اكتشاف الغرافيتونات الفردية أمر في منتهى الصعوبة. والسبب هو أن الجاذبية ضعيفة جداً أضعف بمقدار 10,000 بليون بليون بليون بليون مرة من القوة الكهرومغناطيسية – وفي نظرية الكم، الضعف Weakness مرادف للتفاعل النادر مع المادة.

بعبارة أخرى: نادراً ما توقف الذراتُ الغرافيتونات، وهذا يجعل رصدَها في منتهى الصعوبة.

لإعطاء فكرة ما عن مراوغة الغرافيتونات، يمكن أن نفكر في النيوترينوات Neutrinos التي تنشأ من التفاعلات النووية المولدة لضوء الشمس داخل الشمس، وتمر عبرنا نحو تريليون منها كل ثانية من دون أن يوقفها شيء. تتفاعل الغرافيتونات مع المادة بمعدل 1,000 مليون، أو تريليون مرة أقل من تفاعل النيوترينوات. يمكننا زيادة فرص إيقاف النيوترينو  بواسطة جسيم ما عن طريق وضع كثير منها في طريقه، باستخدام كاشف ذي كتلة كبيرة. وستكون هذه أيضاً هي استراتيجية اكتشاف الغرافيتون. ومع ذلك، بسبب تفاعله الضعيف جداً مع المادة، فإننا نتحدث عن كاشف عملاق مقارنةً بكاشف النيوترينو.

أكبر كاشف للنيوترينو هو IceCube الموجود في القطب الجنوبي، ويتكون من كيلومتر مكعب واحد من جليد القارة القطبية الجنوبية أنتاركتيكا. ولكن، لكي تكون لدينا فرصة لاكتشاف الغرافيتون، سنحتاج إلى كاشف كتلته مماثلة لكتلة كوكب المشتري (لأنه عندما يزيد الكاشف على ذلك الحجم سينكمش تحت وطأة جاذبيته، ويصير قَزماً بنياً Brown dwarf – أو نجماً فاشلاً ساخناً Hot failed star).

في العام 2008، فحص توني روثمان Tony Rothman من جامعة برينستون Princeton University وستيفن بون Stephen Boughn من كلية هافرفورد Haverford College إمكانية استخدام كاشف بمثل كتلة المشتري. كان أقوى مصدر للغرافيتونات أرادوا إجراء التجربة عليه هو إشعاع هوكينغ الناتج عن تبخر الثقوب السوداء والذي يُتوقع أن تشكل الجسيمات نحو 1% منه. تبيَّن أن إشعاع هوكينغ لا يكاد يُذكَر في حالة الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية، وليس ذا أهمية سوى نسبة إلى الثقوب السوداء الصغيرة.

”إن أفضل مصادر الغرافيتونات هي الثقوب السوداء الصغيرة الافتراضية التي نشأت في الظروف القاسية والعنيفة للانفجار الكبير“

ومن ثمّ فإن أفضل مصادر الغرافيتونات هي الثقوب السوداء المصغرة الافتراضية التي نشأت في الظروف القاسية والعنيفة للانفجار الكبير وما زالت موجودة حتى يومنا هذا. قدَّم روثمان وبوغن افتراضاً متفائلاً جداً مُفاده أن كتلة الثقوب السوداء الصغيرة في مجرة درب التبانة تعادل كتلة النجوم، وأن متوسط المسافة مع كل هذه الثقوب السوداء يعادل المسافة من الأرض إلى مركز المجرة. وخلصا إلى أن كاشفاً بكتلة المشتري سيستغرق أكثر من عمر الكون لتسجيل غرافيتون واحد.

يُعتقَد أن سرب الزرازير التي تطير متناغمةً يتصرف بطريقة مشابهة لجسيم يدور دورتين

خطوات في الاتجاه الصحيح

سيبحث مثل هذا الكاشف عن الإلكترونات التي أخرجتها الغرافيتونات من الذرات، وهو التناظرية الجاذبية Gravitational analogue لما يُسمى ”التأثير الكهروضوئي“ Photoelectric effect الذي يطرد فيه فوتون إلكتروناً من داخل الذرة. ولكن المشكلة الكبيرة تتمثل في التمييز بين هذه الإلكترونات وتلك التي تُنتجها النيوترينوات. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال إحاطة الكاشف بدرع يبلغ سُمكها سنةً ضوئية، وهو أمر غير ممكن. يقول روثمان: ”أراهن بمنزلي على أنه لن يتمكن أحد في هذا الكون من اكتشاف الغرافيتون. ربما ينبغي اعتبار الغرافيتون كياناً ميتافيزيقياً، وليس كياناً مادياً“.

ولكن في الآونة الأخيرة زاد الأمل في أننا قد نكون قادرين على استكشاف خصائص الغرافيتونات تجريبياً. في السابق بنى الباحثون في المختبر نظائر سائلة للثقوب السوداء بحثوا فيها عن إشعاع هوكينغ الافتراضي. وحالياً يقول فريق دولي من العلماء، بقيادة البروفيسور جيهوي ليانغ Jiehui Liang من جامعة نانجينغ Nanjing University في الصين، إنهم عثروا على نظير جسيم يدور دورتين Spin-2 في سائل ”تأثير هول الكمي الجزئي“ Fractional quantum Hall effect.

في هذا النظام فائق البرودة، المحصور في بُعدين بواسطة مجال مغناطيسي قوي، تتصرف الإلكترونات بطريقة جماعية، مثل سرب كبير من الزرازير يطير ويغير اتجاهه كأنه كتلة واحدة. والأهم في الأمر أن هذا السرب المتناغم لديه خاصية جسيم يدور دورتين.

ولكن هذا، بالطبع، ليس غرافيتون حقيقياً. ومع ذلك قد يعزز فهمنا لهذه الجسيمات. ومثل هذا الفهم قد يساعد الفيزيائيين على اختراق الحاجز الذي يعيق حالياً محاولاتهم للعثور على نظرية الجاذبية الكمّيّة المراوِغة والتي من شأنها توحيد القوى الأساسية في نظرية واحدة لكل شيء.


ماركوس تشاون Marcus Chown
ماركوس كاتب حائزٌ لجوائز وعالم فلك راديوي سابق في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا California Institute of Technology. كتابه الأخير صدر بعنوان: صدوع في كل شيء A Crack in Everything (منشورات: Head of Zeus)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى