مفارقةُ المهرج الحزين: لماذا تختبئ الدموع في كثير من الأحيان خلفَ الضحكات
تُعَد مشكلات الصحة العقلية شائعةً بين الكوميديين، والأداء ليس سوى مجرد طريقة يمكنهم من خلالها توفيرُ العلاج الذاتي
عندما انتشر في 28 أكتوبر 2023 نبأ وفاة الكوميدي ماثيو بيري Matthew Perry (إلى اليسار)، الممثل الساخر المفضل في مسلسل الأصدقاء Friends، لم تركز المقالات التي كُتبت تكريماً له فقط على موهبته في إضحاك الناس. بل سلط من كتبوا ينعَونه ويتحدثون عن مسيرته الضوءَ على صراعه مع مشكلات الصحة العقلية وإدمانه على الكحول ومسكنات الألم، وهو أمر كان الرجل نفسه سيقره بلا شك نظراً إلى انفتاحه حول الموضوع.
”يدرك الخبراء الموثوق بهم والمتعاطفون حالياً أن أهم ما يحتاج إليه المصابون باضطراب الشخصية الحدية، هو الحب والدعم أكثر من أي شيء آخر“
بيري لم يكن حالة فريدة في هذا. عديد من كبار ممثلي الكوميديا – يتبادر بسهولة إلى الذهن هنا روبن ويليامز Robin Williams وسبايك ميليغان Spike Milligan – معروفون بمعاناتهم مشكلاتِ الصحة العقلية.
وتتبادر إلى الذهن كذلك مع مثل هذه المواهب الكبيرة عبارة ”دموع المهرج“ Tears of a clown المألوفة، وهو مفهوم يتضح على نحو أفضل من خلال النكتة القديمة التي تُلقى عندما يذهب مريض مكتئب لرؤية الطبيب. ينصحه الطبيب بالذهاب لمشاهدة المهرج الشهير بالياتشي Pagliacci لرفع معنوياته، وهنا ينفجر المريض في البكاء ويجيب: ”لكن يا دكتور، أنا بالياتشي“.
لماذا يكون الموهوبون في إضحاك الآخرين غيرَ قادرين على إسعاد أنفسهم؟ يمكن تقديم بعض التفسيرات المنطقية المدهشة من خلال طريقة عمل الدماغ البشري.
البشر مخلوقات اجتماعية جداً: أدمغتُنا تشعر بالمتعة عند نيل رضا الآخرين وتقبُّلهم لنا، وتشعر بالألم إذا رُفضنا اجتماعياً. يرتبط تدني المكانة الاجتماعية على نحو منتظم بمشكلات الصحة العقلية، مثل الاكتئاب والقلق.
قد يكون تحديد السبب والنتيجة أمراً صعباً، لذلك من الصعب القول بأن الأشخاص الذين يعانون ضعفَ الصحة العقلية يجدون صعوبة في أكثر الأحيان من أجل جعل الآخرين يتقبلونهم. لكن أحد العوامل المتشابكة بنحو أساسي مع التفاعل البشري والقبول هو الفكاهة. إن جعل الآخرين يضحكون هو وسيلة موثوق بها وفعالة لجعل الناس يحبونك.
ومن الناحية المنطقية، قد يعني هذا أنه لنيل قبول الآخرين، فإن أولئك الذين يعانون مشكلات صحية عقلية يكونون أكثر ميلاً للجوء إلى الفكاهة، ويصيرون ماهرين في ذلك.
تستند المواقف الكوميدية إلى حد كبير إلى ملاحظة الجوانب غير المنطقية للثقافة والسلوك البشري والتعليق عليها. من غير المرجح أن يلاحظ معظم الناس مثل هذه الأشياء، لأنه إذا كان الجميع يميلون إلى الاتفاق على أن شيئاً ما طبيعيٌ، فإن أدمغتنا سوف تتقبله بسهولة أكبر. أولئك الذين لديهم منظور ”خارجي“ هم الذين لديهم القدرة على النظر إلى شيء مشترك، ومن ثم أن يقولوا: ”هذا مضحك حقاً، وهذا هو السبب“.
الأمر لا يقتصر على كليشيه ”دموع المهرج“ فقط. فهناك أيضاً ”الفنان المعذب“ Tortured artist: وهو من النوع المبدع الموهوب القادر على [ص 39] أداء أعمال في منتهى الجمال، ولكنه مُبتلًى بعذاباته الداخلية وصراعاته النفسية. سيكون فنسنت فان غوخ Vincent van Gogh الشخصية المثالية في هذا السياق، لكن الفنانين الآخرين الذين يمكن أن تنطبق هذه العبارة جيداً عليهم هم إدوارد مونك Edvard Munch، وجاكسون بولاك Jackson Pollack، وكورت كوبيْن Kurt Cobain. في حين أن هناك عديداً من العوامل التي تساهم في أن يصبح الفنان ”فناناً مُعذباً“، تشير الأبحاث إلى وجود ارتباط بين اضطرابات المزاج والإبداع.
ولعل الاضطراب الداخلي الذي يعكر المزاج ويكدر العواطف في الدماغ يمتد إلى الآليات التي تنظم الإنتاج الإبداعي. أو ربما تجبر المشاعر الشديدة وغير النمطية الناجمة عن مشكلة الصحة العقلية الفردَ على إيجاد طريقة للتعبير عنها بأي وسيلة ضرورية. وفي نهاية المطاف، فإن توصيل المشاعر هو أمرٌ أدمغتُنا مُجهزة لأن تفعله.
ولكن ليس كل فرد يعاني مشكلاتِ الصحة العقلية هو انطوائياً لا يجيد التفاعل على المستوى الاجتماعي. يستطيع كثيرون التفاعل بحماس مع الآخرين من حولهم، وهم يفعلون ذلك بالفعل. إذا دمجت ذلك مع الحس الإبداعي والمنظور ”البديل“، فستحصل على الأساسيات التي يصير بفضلها هذا الشخص ممثلاً كوميدياً رائعاً.
وربما الأهم من ذلك كله، إذا كان الشخص يعاني مشكلات الصحة العقلية، فإن الكوميديا والفكاهة يمكن أن تساعده على الشعور بالتحسن. وفي حين أنه قد يبدو الأمر للفرد العادي بمنزلة كابوس، فإن شخصاً يشعر بالفعل بأنه منبوذ ومرفوض، قد يشعر عندما يؤدي أمام الجمهور بالتقدير والقبول، بل حتى بأنه قادر على التحكم في الأمور.
هذه كلها أمور تستجيب لها أدمغتنا على نحو إيجابي، ومن السهل جداً أن نرى كيف يمكن أن يكون هذا أمراً جذاباً ومثيراً لأولئك الذين يجدون صعوبة في نيل قبول الآخرين لهم.
للأسف، على عكس العلاقات الشخصية ”العادية“، فإن العلاقة الإيجابية التي تنشأ بين الكوميدي وجمهوره هي تبادلية وتفاعلية وعابرة على حدٍّ سواء، مما يعني أنهم سيحتاجون إلى الاستمرار في الأداء للحفاظ عليها.
إضافةً إلى ذلك فإن هذا ”التطبيب الذاتي“ Self-medication يمكن أن يظهر بطرق أكثر قتامة. عالَم الكوميديا، في النهاية، يدور في أكثر الأحيان في الليل والسهر حتى وقت متأخر مع آخرين يعانون حالات عقلية ونفسية مماثلة. وفي هذه الأوساط يسهل الإغراء بتناول الممنوعات، وهو ما يساعد على تفسير سبب معاناة عديد من الكوميديين مثلَ هذه الأمور.
هذا لا يعني أن جميع فناني الكوميديا منبوذون اجتماعياً ويصارعون باستمرارٍ مشكلات الصحة العقلية. يمكن أن نجد كوميديين ناجحين من دون أيٍّ من هذه الأشياء. لكن عالَم الكوميديا أكثر تقبلاً لهؤلاء الأشخاص مقارنةً بالسواد الأعظم من الناس. في الواقع يمكن القول إنه يكافئهم. ونتيجة لذلك يمكن أن نتوقع منطقياً رؤيةَ مزيد من المهرجين الذين يبكون في دواخلهم.
دين عالم أعصاب وممثل كوميدي في بعض الأحيان. صدر له كتاب بعنوان الجهل العاطفي Emotional Ignorance (منشورات: Guardian Faber)