أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقال اليوم

مواسم الجسد

نشهد خلال السنة التقويمية أربعة فصول متعاقبة هي: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء. ولكن ربما لا ينبغي أن يحدث ذلك...

سوزان داغوستينو Susan D’Agostino

قسّمَ المصريون القدماء السنة إلى ثلاثة مواسم بناءً على دورات نهر النيل هي: الغمر، والظهور، والحصاد. ففي البلدان الاستوائية، يميل المطر إلى تقسيم العام إلى قسمين: موسم رطب، وموسم جاف. وفي أماكن أخرى يحدد التقويم أربعة فصول: الخريف، والشتاء، والربيع، والصيف.
ولكن حالياً، وجد باحثون من جامعة ستانفورد Stanford University أنه يمكن لتحديد الفصول استخدام علم الأحياء البشري، بدلاً من الأنهار أو هطول الأمطار أو التقويمات. في دراستهم، التي نُشرت في مجلة نيتشر كوميونيكيشنز Nature Communications في أكتوبر 2020، اكتشف باحثو ستانفورد أن أجسامنا تحدد على ما يبدو إيقاعها الخاص وتقسم العام إلى فترتين زمنيتين موسميتين. أو على الأقل هذه هي الحال إذا كنت تعيش في كاليفورنيا، حيث أجريت الدراسة. ونظراً لأن كل موقع جغرافي له ظروف بيئية فريدة، يمكن استخدام منهجهم لحساب الفصول في أجزاء أخرى من العالم أيضاً.
إذ يتساءل البروفيسور مايكل سنايدر Michael Snyder، الباحث الرئيسي في الدراسة: “يقول الناس إن هناك أربعة مواسم كل منها مدته ثلاثة أشهر. لكن لماذا أربعة؟ يمكن أن يكون هناك 15 أو إثنان. لماذا لا ندع علم الأحياء يخبرنا بذلك؟”
لتحديد المواسم البشرية، فقد حدّد فريق سنايدر السمات الحيوية لدى
105 متطوعين في منطقة خليج سان فرانسيسكو على مدى أربع سنوات. وعملوا بانتظام على أخذ عينات وقياس عشرات الآلاف من الجزيئات والميكروبات من دم المشاركين وأنوفهم وأحشائهم. ويُطلق على هذا النوع من الدراسة “التنميط الطولي العميق متعدد الحقول البيولوجية أو متعدد الأوميكس” Deep longitudinal multiomics profiling.
في أيام أخذ العينات جمع الباحثون أيضاً بيانات الأرصاد الجوية (مثل درجة حرارة الهواء والإشعاع الشمسي) وتعداد حبوب اللقاح المحمولة جواً.
لقد بُذِلَ هذا الجهد الهائل لتكوين صورة أفضل عن الكيفية التي تؤثر بها الفصول المتغيرة في وظائف أعضائنا وصحتنا.

فهم الفصول
بعد أربع سنوات من اختبار البراز وأخذ عينات الدم وتسجيل بيانات الطقس، استخدم الفريق أدوات إحصائية قوية لمحاولة العثور على أنماط بين بيولوجيا المتطوعين وبيئتهم. فكان ما وجدوه مفاجأة لهم.
كانت هناك إشارتان. إحداهما عبارة عن مجموعة من الجزيئات التي بدا أنها تبلغ ذروتها في ديسمبر – وهو موسم أطلق عليه الباحثون اسم أواخر الخريف/أوائل الشتاء. وشمل ذلك العلامات المتعلقة بالاستجابات المناعية مثل النظام المتمم Complement system، وهو مجموعة من البروتينات التي تعمل معاً للقضاء على الكائنات الحية الدقيقة المعدية والتي بلغت ذروتها خلال هذا الوقت. وعلى نحو لا يثير الاستغراب، فقد ترافق هذا مع الفترة التي نعلم أن العدوى الفيروسية تكون فيها مرتفعة أيضاً. غير أن الإشارة الثانية كانت مفاجئة.
يقول سنايدر: “ظننتُ أن الموسم الآخر سيكون في يونيو أو يوليو عندما يكون الجو حاراً جداً، لكن هذا لم يكن صحيحاً”. وبدلاً من ذلك، فقد بلغ الموسم الثاني ذروته في أواخر أبريل، وهو موسم أطلقوا عليه اسم “أواخر الربيع”. وبدت ذروة هذا الموسم منطقية لاحقاً نظراً لأن أواخر أبريل ترافق أيضاً مع ارتفاع أعداد حبوب اللقاح في نهاية موسم الأمطار في كاليفورنيا. وأحدثت حبوب اللقاح ردة فعل لدى مجموعة فرعية كبيرة بما يكفي للمساهمة في الذروة الموسمية بالاستجابة المناعية.
أضافت النتائج فارقاً بسيطاً إلى المعارف السابقة المتعلقة بالكيفية التي تتفاعل بها البيولوجيا البشرية مع الأنماط الموسمية في حال وجود المرض أو عدمه.
على سبيل المثال، كان العلماء يعرفون أن مؤشر خطر الإصابة بالمرض أو تحليل السكر التراكمي HbA1c (وهو مؤشر على متوسط مستويات السكر في الدم قبل فترة وجيزة) كان في كثير من الأحيان أعلى في الشتاء منه في الصيف لدى مرضى داء السكري.
ما لم يعرفوه هو الكيفية التي تتباين بها المستويات على مدار العام لدى المرضى غير المصابين بداء السكري. وكشفت هذه الدراسة أن المشاركين بشكل عام، مرضى داء السكري أو غيرهم، شهدوا ذروة في مستويات السكر التراكمي HbA1c في أواخر أبريل. وفسر سنايدر ذلك من خلال ملاحظة أن أواخر أبريل هو الوقت الذي يخرج فيه الناس من فترة خمول لا يمارسون فيها التمارين البدنية بالقدر نفسه.
لاحظ الفريق أيضاً أن الجين PER1، المسؤول عن إيقاعات الساعة البيولوجية، له نمط موسمي، إذْ سُجل أعلى تعبير له في الربيع. وإضافة إلى ذلك، فقد وجدت دراسات أخرى أن الجين PER1 قد يؤدي دوراً في تطور السرطان وأن حالات الإصابة بالأورام الموضعية تبدو أعلى في الربيع. ويقترح فريق سنايدر أن ملاحظتهم لذروة الربيع للجين PER1 تقدم دليلاً إضافياً على أن الجين قد يساهم بطريقة ما في نمو السرطان.

نهج فردي
إذن، كيف يمكن أن يكون هذا البحث مفيداً؟ كبداية، سيساعدنا ذلك على فهم التقلبات في جسم الإنسان من مريض إلى آخر، وهي تغيرات لا يمكن أن تقيسها الاختبارات التي نحصل عليها عادةً عند زيارة الطبيب العام. ولكن أيضاً، المقياس المستقل، مثل درجة حرارة الجسم، غالباً ما يُفسّر مقابل معدله بين السكان، من دون أن يؤخذ بالاعتبار سياق خط الأساس الصحي الطبيعي للفرد. فعلى سبيل المثال، يبلغ متوسط درجة حرارة جسم الإنسان °36.5س، مع أن ذلك يختلف حسب الجنس والعمر وعلى امتداد اليوم، وفقاً لدراسة نشرتها دورية الطب الداخلي Journal Of Internal Medicine. ولكن درجة الحرارة “العادية” لفرد ما قد تتراوح من 36.1 إلى °37.2س. فمريض لديه خط أساس منخفض يسجل درجة حرارة تقترب من الحد الأقصى للنطاق الطبيعي قد يعاني الحمى، مع أن الطبيب الذي يقيس درجة حرارة ذلك المريض ربما لا يدرك ذلك.
يقول سنايدر: “يذهب الناس عادة إلى الطبيب عندما يمرضون. أما عندما يكونون بصحة جيدة، فإنهم لا يفعلون ذلك في أكثر الأحيان. لا نستفيد أبداً من طبيعة البيانات الطولية – أو البيانات التي تُجمع بمرور الوقت. فهذا هو جوهر ما نحاول أن نفعله”.
إلى جانب ذلك، قد تختلف درجة حرارة الفرد أو المقاييس الصحية الأخرى على مدار عام معين، حتى عندما يكون بصحة جيدة. وقد تختلف أيضاً علامات المرض لحالات مثل التهاب المفاصل واضطرابات النوم والعديد من الأمراض العصبية والنفسية على مدار العام. وكل هذا يثير أسئلة حول التأثيرات الموسمية على الصحة.
تسأل د. لورا كوكس Laura Cox، أستاذة الطب الجزيئي من كلية ويك فورست للطب Wake Forest School of Medicine، والتي لم تشارك في الدراسة: “إذا كان مستوى الكوليسترول لديك أعلى في الشتاء منه في الصيف، فهل يعد هذا تبايناً بيولوجياً طبيعياً أم يدل على مشكلة صحية محتملة؟”

الصحة الشخصية
حتى نهاية القرن العشرين تقريباً، لم يدرك الباحثون وجود أو فائدة النهج متعدد الأوميكس في علم الأحياء البشري. وبدلاً من ذلك، أجروا دراسات هادفة نظرت في تأثير جين واحد أو بروتين واحد على الصحة أو المرض.
ولكن، في العقدين الأخيرين، سمحت دراسة الحقول البيولوجية المتعددة مثل الجينوميات والبروتيوميات (مجموعات من الجينات أو البروتينات، على التوالي) للباحثين باكتساب فهم أكثر تكاملاً للتأثيرات البيولوجية في الصحة والمرض. (انظر: الصفحة 59 لتفسيرات موجزة لهذه الأوميكس وغيرها).
توضح كوكس: “إن الجينات والبروتينات والمستقلبات والدهون كلها تتحدث مع بعضها البعض طوال الوقت”.
من خلال قياس عشرات الآلاف من هذه القياسات في تنميط طولي عميق متعدد الأوميكس، يمكن للباحثين تحديد ما هو مهم بيولوجياً على الأرجح وما هو غير ذلك.
تقدم دراسة سنايدر نمذجات صحية شخصية Personalised health models، نمذجة واحدة لكل مشارك في الدراسة، تتبع وتتنبأ بالمسارات الصحية. وترسم النمذجات صورة للتغير البيولوجي الطبيعي في مجموعات الأوميكس المختلفة للمريض على مدار العام، وهو أمر أساسي للكشف عن المرض في مراحله المبكرة.
إن الأدلة التي تدعم هذا النهج مقنعة. فقد أفاد سنايدر أن التنميطات الطولية العميقة متعددة الأوميكس سمحت بتحقيق اكتشافات صحية كبيرة لدى نحو نصف المشاركين، بما في ذلك التشخيص المبكر للورم الليمفاوي ومشكلات القلب وطفرة الجين BRCA التي تشير إلى ارتفاع خطر الإصابة بسرطان الثدي.
سنايدر نفسه حريص كل الحرص على تتبع قياساته الصحية. حتى أنه نشر نتائج من ملفه الشخصي متعدد الأوميكس في ورقة بحثية عام 2012 في دورية نيتشر ريفيوز جينيتكس Nature Reviews Genetics (كان أحد مؤلفي الدراسة والمشارك الوحيد فيها). وهو يرتدي حالياً ثمانية أجهزة محمولة لتتبع صحته اليومية، بما في ذلك أربع ساعات ذكية، وجهاز مراقبة الغلوكوز المستمرة، ومقياس يقيس التعرض البيئي، وخاتم تعقب الصحة، ومقياس التأكسج النبضي Pulse oximeter. وفي الآونة الأخيرة أشارت ساعته الذكية ومقياس التأكسج النبضي إلى أن مستوى الأكسجين في دمه قد انخفض في الوقت نفسه الذي ارتفع فيه معدل ضربات قلبه، وتبين أنه أول مؤشر على التشخيص الوشيك لمرض لايم Lyme disease.
الدراسة الموسمية التي أجراها سنايدر وفريقه هي نسخة بحثية من الطب الصحي الشخصي الذي يمثل التنميط العميق، لكنه يتقبل بأنه سيكون من الصعب إجراء ذلك لمجمل السكان. ويقول: “لن تفعل ذلك للجميع. لكن يمكننا أن نحاول اكتشاف ما هو أكثر فائدة ثم نحاول طرح أداة أرخص وأكثر نفعاً، بمعنى الحصول على نسخة تحقق فائدة أكبر بكلفة أقل”. ويذكر أيضاً أن هدفه النهائي هو استخدام البيانات الضخمة لبناء نمذجات صحية شخصية تصور المسارات لكل شخص على هذا الكوكب.
كوكس التي لا تعمل مع بسنايدر، تصف الدراسة بأنها “إنجاز مذهل” إذ إن قلة غيره درسوا هذا القدر من البيانات متعددة الأوميكس على امتداد مثل هذه الفترة الزمنية الطويلة. وتقول: “في كثير من الأحيان، نرى لقطة سريعة جداً في وقت ما ونستنتج خطاً زمنياً كاملاً ومستمراً بناءً على تلك اللقطة الموجزة…. هنا يحضرني سؤال: ما هو كم المعلومات التي لا تتوفر لنا؟”

الرعاية الوقائية
نرى بوضوح كيف أن تتبع كل سوائل جسم شخص ما وميكروباته وجزيئاته على مدى أربع سنوات يمكن أن يعطينا صورة عالية الدقة عن صحته، ويسمح للأطباء باتخاذ تدابير وقائية لحمايته من المرض. للأسف، لن يكون تنفيذ هذا ممكناً على أرض الواقع. ففي البدء، ستحتاج ثقافة الطب إلى تحويل تركيزها من النموذج الحالي لتشخيص ما يعانيه شخص ما وعلاجه بناء على ما لديه من أعراض، إلى التركيز على التشخيص المبكر والوقاية. وهذا يفترض أنه يمكن معالجة التكلفة العالية للتتبع الشامل للمقاييس الصحية للجميع، ناهيك عن أي مخاوف تتعلق بالخصوصية.
ومع ذلك، فإن الكشف عن أنه وفقاً لمعلوماتهم البيولوجية، يختبر سكان شمال كاليفورنيا موسمين بدلاً من الفصول الأربعة التقليدية التي نربطها بالتقويم السنوي، يشير إلى أنه يجب مراعاة التأثيرات الموسمية عند معالجة صحة الإنسان وإدارة الأمراض. وإضافة إلى ذلك، تقدم الدراسة نموذجاً لتحديد القياسات والتأثيرات الموسمية في أجزاء أخرى من العالم التي قد يكون لها تأثير في فهمنا لصحة الإنسان وإدارة الأمراض في تلك المناطق.
إذن، كم هو عدد مواسمنا؟ حسناً، من الصعب تحديد ذلك على وجه اليقين، ولكن من المحتمل أن تعتمد صحتك على الإجابة. “ومع ذلك”، يشير سنايدر قائلا٬ “أتوقع أنه لن تكون هناك أربعة مواسم كل منها من ثلاثة أشهر”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى