أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم البيئيةالفيزياء التطبيقيةفيزياء

نظرية فيزيائية لأصل الحياة

بقلم: برايان كليغ

تنحيْ جانباً، أيّتها البيولوجيا. هناك نظرية جديدة حول كيفية ظهورالحياة لأول مرة من عصيدة بدائية، وتؤديالفيزياء فيها دور البطولة.

من توسّع الكون إلى حركات أصغر الجسيمات تحت الذرية، يمكن للفيزياء المعاصرة أن تساعدنا على تفسير عدد مذهل من الظواهر الطبيعية. ولكن هل يمكنها تفسير ما يعتبره البعض أكبر لغز بينها جميعاً: كيف بدأت الحياة كما نعرفها؟ د. جيريمي إنغلاند Jeremy England، وهو أستاذ مساعد في الفيزياء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، يعتقد أن ذلك ممكن. وهو يعمل حاليّاً على وضع نظرية جريئة تأمل بالكشف عن كيفية ظهور سلوكيات واقعية من مجموعة من المواد الكيميائية الخاملة.
يقول إنغلاند: «كنت مهتماً دائماً بالكيفية التي يمكن بها للخصائص الفيزيائية للتجمعات الكبيرة والفوضوية من الجزيئات أن تكون شبيهة بالكائنات الحية Life-like، منذ أن كنت أُجري أبحاثي حول تطوّي البروتينات كطالب جامعي. وكانت تلك هي الطريقة التي مكنتني من النجاح في رفض الاختيار بين الفيزياء النظرية والبيولوجيا اللذين كانا حقلين رائعين بالنسبة إليّ».
تستند أبحاث إنغلاند إلى المبادئ الفيزيائية الراسخة للديناميكا الحرارية Thermodynamics- وهي العلم الذي يصف كيفية انتقال الحرارة من مكان إلى آخر، ولها أهمية حيوية في العديد من العمليات الطبيعية. ويصف نظريته بـ«التكيف التبديدي» Dissipative adaptation؛ لأنها تهدف إلى وصف كيفية ظهور البنى وتغيرها من خلال تبديد الطاقة، وخصوصاً الحرارة، إلى بيئتها. وتزيد هذه العملية من الإنتروبية Entropy (مقدار الاضطراب) في المناطق المحيطة، التي رأى فيزيائي الكم النمساوي إرفين شرودنغر Erwin Schrodinger أنها ضرورية لكي تعمل الكائنات الحية. ومن الأهمية بمكان أن زيادة الإنتروبية تتيح للبنى المتطورة البقاء فيما تعرف بـ«حالة اللا توازن» Non-equilibrium state.
عادة ما يكون النظام (الذي يمكن أن يعني أي شيء من صندوق من الغازات إلى أي بنية معقدة) في حالة توازن مع بيئته. ويعني هذا أنه ليس هناك تدفق صرف للحرارة بين النظام والمناطق المحيطة به. فمثلاً، إذا تركت كوباً من الشاي الساخن على الطاولة؛ فسيصل في نهاية المطاف إلى درجة حرارة الغرفة نفسها، إلى حد يغضب مُحب الشاي الذي كان يتطلع إلى ارتشاف كوبه ساخنا. ولكن الكائنات الحية توجد في حالة لا متوازنة، فهي تستهلك الطاقة من مصادر مثل أشعة الشمس والطعام وتدفع تلك الطاقة إلى الخارج- أي «تبددها»- إلى المناطق المحيطة بها. وهذا الأمر يمكّن الكائن الحي من تقليل الإنتروبية الخاصة به، حتى يتمكن من النمو وتشكيل بنية. وتلك الخصائص الفيزيائية لهذا اللاتوازن هي ما يسعى إنغلاند وفريقه إلى دراسته باستخدام المحاكاة الحاسوبية للبحث عن الحالات التي تظهر فيها السلوكيات الشبيهة بالحياة تلقائيّاً.

ما وراء البيولوجيا
ليست هذه هي المرة الأولى التي يحاول فيها أحد علماء الفيزياء تناول أعمق الأسئلة في البيولوجيا. في عام 1944، نشر شرودنغر كتاباً بناء على سلسلة من المحاضرات التي ألقاها في مدينته الثانية، دبلن. وأكد كتاب «ما الحياة؟» What Is Life? على الأهمية المحورية لتدفقات الطاقة والإنتروبية. وفي الكتاب، اقترح أيضاً أن الوراثة البيولوجية تعتمد على ما أسماه «البلورة اللا دورية» Aperiodic crystal – وهو جزيء قد يحمل المعلومات في بنيته- وهي نبوءة تحققت مع اكتشاف بنية الحمض النووي DNA.
ويقول إنغلاند: «كانت نقطة البداية في خط بحثي الحالي- الذي ابتعد عن البيولوجيا بالفعل، عند تلك النقطة- تدرك أنه للتفكير في الفيزياء، عليك أن تأخذ ما هو مثير للاهتمام حول الحياة ومن ثم تقسيمه إلى ظواهر فيزيائية محددة جيداً، يمكنك الحديث عنها بمصطلحات الديناميكا الحرارية. وهكذا، مثلاً، تصنع الكائنات الحية نسخاً من أنفسها، ولكن ليس كل ما ينسخ نفسه تلقائيّاً كائنا حيا».
تشمل السلوكيات التي يستهدفها إنغلاند: التكاثر، وجني الطاقة، والأنتخاب الطبيعي والقدرة على التنبؤ بالمستقبل. وفي بعض الأحيان يمكنك رؤية هذه الآثار في ظواهر بسيطة مألوفة لا تشبه الحياة على الإطلاق، مثل ندف الثلج والكثبان الرملية، كما يقول. ولكن في كلتا الحالتين، يمكن لهذه الهياكل أن تتشكّل نتيجة لإطلاق الطاقة إلى محيطها. في حالة ندفة الثلج، «إنها الحرارة المنبعثة من التبلور الطارد للحرارة Exothermic لتحوّل الماء السائل إلى جليد صلب. ففي حالة الكثبان الرملية، يدفع الهواء المتدفق حبيبات الرمال إلى التحرك، لكنها بعد ذلك تتوقف مرة أخرى وهي تضرب بعضها البعض بصوت مرتفع، وتفقد هذه الطاقة كحرارة في الهواء المحيط».

الإنتروبية والتطور
يخزّن التاريخ التطوري للكائن الحي في حمضه النووي، لصياغة شكله الحالي. ويعتقد إنغلاند أن تاريخ الكائن الحي من حيث تبديد الحرارة، ومن ثمَّ زيادة الإنتروبية، يساعد أيضاً على تشكيل بنيته. ومن دون عمل الحمض النووي كسجل للتغيرات، يعتقد إنغلاند أن الشكل المادي للبنى يمكنه الاحتفاظ بالمعلومات.
«فكر في كأس تصدح مغنية أوبرا، بصوتها نحوها فيحدث فيها رنين ويتغير شكلها ومن ثم تتحطم بعنف. وبمجرد أن تتحطم، تصير أسوأ بكثير في امتصاص الطاقة من الأغنية؛ لأنها صارت كومة من الشظايا. وهذه الكأس تغير شكلها بدرجة أقل بكثير، فقد صارت أكثر استقراراً. ولكن تلك الشظايا ليست ترتيباً عشوائيّاً للزجاج، فهي تحتوي على كثير من المعلومات عن الشكل الذي كان عليه الزجاج عندما تحطم. ولذلك، فعلى الرغم من رداءة الزجاج في امتصاص الطاقة، فهو يحمل بصمة لتلك اللحظة في التاريخ عندما كان العكس هو الحال، والتي يمكن إعادة بنائها عن طريق العمل الاستكشافي الصحيح».
في بعض الأحيان، في عمليات المحاكاة التي أجراها الفريق، ظهر مستوى مفاجئ من التنظيم الذاتي. فمثلاً، عندما تبدأ بحساء افتراضي يتفاعل فيه مختلف المركبات الكيميائية المحاكاة، يبدأ بعضها بالتوسع على حساب الأخرى، ثم تبدأ هيمنتها، فتثبت أنها أفضل في جني الطاقة المتاحة.
ويقول إنغلاند: «هناك كثير من الأشياء التي نعتقد أن الحياة تتسم فيها بمهارة متميزة، مثل جني الطاقة والحوسبة التنبؤية Predictive computation [التكهن بالمستقبل] والإصلاح الذاتي، التي قد نتمكن من تنظيمها ذاتيّاً حتى في غياب التطور الدارويني، وذلك عن طريق النسخ الذاتي والأنتخاب الطبيعي».
وعلى الرغم من أنها لا تزال في مراحلها المبكرة، فإن النظرية لا تخلو من المنتقدين، كما يوافق إنغلاند نفسه على وجود فجوة كبيرة بين مجرد ملاحظة السلوك الشبيه بالحياة وبين الحياة نفسها. ويقول: «كل أشكال الحياة التي نراها هي نتاج منافسة لا تحصى من قبل الأجيال الماضية ضد الأشياء التي كانت على قيد الحياة بالفعل، كما أنها تشاركت في التطور معا لفترة طويلة». إضافة إلى ذلك، فأي شيء حي هو توليفة من العديد من السلوكيات المميزة للحياة، وهي لا تأتي جميعها بالضرورة جنباً إلى جنب في البداية. فمثلاً، قد يكون هناك شيء جيد جدا في جني الطاقة ولا يكون بالضرورة قادراً على النسخ الذاتي، ولا أدعي معرفة أي شيء عن كيفية تجمّع الحزمة المجمّعة التي نسميها الحياة معاً لأول مرة». ومع ذلك، فهو يعتقد أن أبحاث فريقه تثري ما يسميه «عدة أدوات المبتدئين» Starting toolbox اللازمة لتشكّل الحياة. في الوقت الحالي، تعتمد أبحاثهم على المحاكاة الحاسوبية، على الرغم من أن باحثين آخرين بدؤوا بتناول الفكرة والعمل على استكشاف التأثيرات الديناميكية الحرارية المماثلة في تجارب فيزيائية. ربما لا تكون لدينا إجابة بعد عن الكيفية التي بدأت بها الحياة، لكن التكيف التبديدي يعطينا صورة أوضح لأحد المبادئ الأساسية التي شجعت على ظهور الكائنات الحية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى