أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تكنولوجياذكاء اصطناعي

أسراب ذكـــــــيـــــة

يجري تطوير أقمار اصطناعية صغيرة وبسيطة ورخيصة التكلفة لاستكشاف الفضاء ودراسته بطرق جديدة. إذا نشرنا أسراب كبيرة منها، يمكن لهذه الأقمار المكعبة أو “كيوبسات” CubeSat أن تغير الطريقة التي نرى بها كوكبنا ونحميه.

د. ستيوارت كلارك Dr Stuart Clark

اخترق هدير محركات مركبة الإطلاق روكوت Rockot الهواء عند انطلاقها من منصة بليسيتسك كوزمودروم Plesetsk Cosmodrome في شمال روسيا في 30 يونيو 2003. فقد كانت شركة يوروكوت لانش سيرفسيس Eurockot Launch Services الألمانية قد استأجرت الصاروخ البالغ ارتفاعه 30 متراً. ولكن بدلاً من حمل قمر اصطناعي كبير واحد إلى المدار، حملت روكوت ثمانية أقمار أصغر حجماً.
في ذلك الوقت، لم يعرها أحد اهتماماً كبيراً. ففي النهاية لم يكن الأمر يتعلق بإطلاق بعثة رائدة تكلفتها بليون دولار. ولكن، بالنظر إلى الوراء، يمكننا أن نرى أن هذا هو بالضبط ما جعل الإطلاق مهماً جداً، وربما حتى نقطة تحول في طريقة استخدامنا للفضاء واستكشافه.
كانت بعض الأقمار الاصطناعية التي رُفعت إلى المدار في ذلك اليوم عبارة عن أقمار مكعبة “كيوبسات” CubeSat صغيرة الحجم، لا يتجاوز طول ضلعها 10 سم، مصنوعة من أجزاء قياسية، يمكن تركيبها بسرعة وبسهولة نسبياً. وعندما صُممت في أواخر تسعينات القرن الماضي، كانت تعد أدوات تعليمية لتعليم الطلبة أساسيات بناء الأقمار الاصطناعية. واعتمدت الفكرة على أن يأخذ الطلبةُ المعرفةَ التي اكتسبوها مما تعلموه من الأقمار المكعبة ويطبقوها على المركبات الفضائية الكبيرة لدى قطاع صناعة الأقمار الاصطناعية التقليدية. وبينما فعل البعض ذلك بالضبط، استخدم البعض الآخر تجربتهم لمواجهة تحدٍ مختلف تماماً: استخدام الأقمار الاصطناعية الصغيرة لما هو أكثر من مجرد التعلُّم.
يقول روجر ووكر Roger Walker من وكالة الفضاء الأوروبية European Space Agency (اختصارا: الوكالة إيسا ESA) “يوجد حالياً بعض الأذكياء جداً في أوروبا وحول العالم ممن وضعوا أنفسهم أمام تحدي تصغير التكنولوجيا، بحيث يمكن أن تتناسب مع حجم صغير جداً يشير إليه الناس على أنه تفكير داخل الصندوق”.
بدأ هذا النوع من التفكير يؤتي ثماره: تصميم الأقمار المكعبة رخيص التكلفة ويسمح بالتخطيط لعدد كبير من البعثات أكثر من أي وقت مضى. ومع استمرار تصغير التكنولوجيا وتطوير تقنيات جديدة، فقد صار من الممكن العمل بأنواع إضافية من البعثات كان بعضها يعد بعيد المنال عملياً إلى وقت قريب، مثل إطلاق أسراب من الأقمار الاصطناعية في الفضاء.
تتكون أسراب الأقمار الاصطناعية من العشرات أو المئات أو حتى الآلاف من المركبات الفضائية الصغيرة التي تعمل جميعها معاً لأداء شيء يستحيل، أو أنه من غير العملي، تنفيذه باستخدام المركبات الفضائية التقليدية. ويمكن تصور بناء أسراب تحتوي على مثل هذه الكميات الضخمة من الأقمار الاصطناعية المكعبة نظراً لتدني تكلفة بناء كل واحد منها.
سكوت وليامز Scott Williams هو مدير برنامج في معهد ستانفورد الدولي للأبحاث SRI International وقد شارك في مراحل تطوير الأقمار المكعبة المبكرة. يتذكر مُفكراً حسناً، كم واحداً يمكننا أن نرسل منها إلى الفضاء؟ ماذا يمكننا أن نفعل بفضلها؟ إذا تمكنا من الحصول على الكثير من نقاط القياس في الفضاء، ألا ننشئ كفاءة مماثلة، أو ربما أفضل من بعض النواحي، من قياس واحد متقن نحصل عليه بفضل قمر اصطناعي تكلفته تريليون دولار؟”
أدرك وليامز أن الإجابة كانت بنعم وعلى نحو قوي بالنسبة إلى العديد من التطبيقات. ولكن كيف يمكن التحكم في سرب يضم 1,000 قمر مكعب، على سبيل المثال؟
يقول: “ما ليس ممكناً هو أن يكون لديك 1,000 عامل في المحطات الأرضية، يدخل كل منهم على حدة أوامر لكل قمر في السرب. الأمر غير مربح مالياً؛ يجب أن تكون قادراً على التعامل مع الشبكة ككيان واحد. بمجرد أن يكون لديك عامل تشغيل واحد يدير مجموعتك التي قد تبلغ تكلفتها مئة مليون دولار، عندها تحقق اقتصاد الحجم الحقيقي وتحصل على ميزة اقتصادية ممتازة”. ففي الممارسة العملية يعني هذا تزويد الأقمار المكعبة بمستوى معين من الذكاء الاصطناعي يمكنها من توجيه نفسها بنفسها.

أقمار اصطناعية صغيرة وإمكانيات كبيرة
لم يلحظ الجمهور حقاً أسراب الأقمار الاصطناعية، أو “المجموعات الضخمة” Megaconstellations كما يُطلق عليها في كثير من الأحيان، سوى في عام 2020 نظراً لعمليات الإطلاق العديدة لأقمار شبكة ستارلنك التي يمتلكها إيلون ماسك. فقد أُطلقت الأقمار على دفعات من 60 قمراً وحظيت باهتمام شعبي لأنه وبعد فترة وجيزة من بلوغها المدار، صارت مرئية كما لو أنها “قطارات” لامعة تطوف عبر السماء. ويدور نحو 800 منها حالياً حول الأرض، مع خطط تشمل إطلاق نحو 12 ألفاً منها من أجل توفير إنترنت سريعة في كل مكان على الكوكب. فعلى الرغم من أن أقمار ستارلنك ليست أقماراً مكعبة، إلا أنها تطبق العديد من المبادئ نفسها، مثل التصغير والإنتاج الضخم حرصاً على خفض التكلفة.
تعتبر الوكالة إيسا الأقمارَ المكعبة طريقة واعدة للمضي قدماً إذ أنشأت جزءاً مخصصاً من الوكالة لتطويرها وإثبات قدرتها ووضع خريطة طريق للأمور التي يمكن أن تجعلها ممكنة فيما يتعلق بالبعثات الفضائية.
يقول روجر ووكر، رئيس وحدة أنظمة كيوبسات: “مهمتنا هي تنسيق التطورات التكنولوجية اللازمة لتزويد هذه الأقمار الاصطناعية الصغيرة جداً بقدرات جديدة”.
تدور العديد من التطبيقات حول مراقبة الأرض. فعلى سبيل المثال، أدركت وحدة ووكر أن أسطولاً صغيراً من الأقمار الاصطناعية المكعبة يمكنه أن يقيس بدقة انبعاثات ثاني أكسيد النتروجين الناتجة من حركة المرور على الطرق وحرق الوقود الأحفوري في المدن والتجمعات الأصغر.
وهناك تطبيق آخر يُدعى “التصوير الفائق الطيفي” Hyperspectral imaging للأرض. ويتولى ذلك أسطولً من الأقمار المكعبة التي تلتقط باستمرار صوراً للأرض بعشرات الألوان ونطاقات طيفية أخرى، مثل الأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية. يقول ووكر: “سيسمح هذا بتتبع التغيرات في الغطاء النباتي على سبيل المثال، أو الرطوبة والفيضانات على سطح الأرض”.
وفي تطبيق ثالث يلتقط أسطول من الأقمار المكعبة الانعكاس الشارد لإشارات الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية Sat-nav signals من سطح الأرض لقياس حركة الجليد في القطبين وتيارات المحيط حول العالم.

الاقتراب من الكويكبات
إضافة إلى الاتصالات والاستشعار عن بعد، هناك أيضاً جوانب عملية أخرى وأنواع جديدة من الاستكشافات يمكن العمل بها باستخدام الأقمار المكعبة. باتريك ميشال Patrick Michel، مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي CNRS في مرصد لا كوت دازور Observatoire de la Côte d’Azur في نيس، بفرنسا، هو الباحث الرئيسي في NEO-MAPP (أو نمذجة الأجسام القريبة من الأرض والحمولة للحماية Near Earth Object Modelling And Payload for Protection)، وهو مشروع ترعاه المفوضية الأوروبية لدراسة تقنيات حرف مسار الكويكبات وإجراء أبحاث لإيجاد طرق أخرى لمنع اصطدام كويكب بالأرض.
أحد أكبر الأشياء المجهولة في هذا البحث هي خصائص سطح الكويكبات وتركيباتها. فمن دون معرفة الخصائص الفيزيائية والكيميائية للكويكب، لا يمكننا أن نتنبأ بدقة كيف سيستجيب لتأثير قذيفة مصممة لدفعه بعيداً عن مسار تصادمه مع الأرض. كما لا يمكننا الحصول على هذه المعلومات من الأرض لأن الكويكبات صغيرة جداً لدرجة أن المراصد الأرضية لا تستطيع رصد تفاصيلها بدقة كافية. يقول ميشال: “هذا مثال على المجال الذي يمكن أن تكون فيه الأقمار المكعبة مفيدة جداً”.
فكرة ميشال بسيطة. وتعتمد على إرسال أسطول من الأقمار المكعبة إلى الفضاء؛ كل واحد منها مصمم للالتقاء بكويكب مختلف قريب من الأرض. حتى وإن زُوِّد كل قمر مكعب بكاميرا فقط، سيتمكن الباحثون من البدء بالنظر إلى أسطح الكويكبات المختلفة وتصنيفها. ويقول عن ذلك “قد نجد بعض القواسم المشتركة لبعض أنواع الكويكبات. ومن ثم يمكننا تصنيفها. لذلك أعتقد أنه نهج جيد جداً”.
من الممكن أيضاً تحليل التشوه في الإشارة اللاسلكية لكل قمر مكعب والناتج من جاذبية الكويكب لاحتساب كتلة كل كويكب. ولكن هذا ليس كل شيء؛ إذ يعمل وليامز على فكرة تحليل التشوهات الأخرى في إشارات الراديو الصادرة من قمر مكعب للتنبؤ على نحو أدق ببيئة الإشعاع المتغيرة في الفضاء. ويأتي الإشعاع، المعروف بطقس الفضاء Space weather، على شكل جسيمات تحت ذريةSubatomic تنبعث من الشمس. ويمكن أن يتسبب الإشعاع في إحداث خلل في الإلكترونيات، وفي أخطر حالاته، يمكن أن يعرض صحة رواد الفضاء للخطر.
استوحى وليامز وزملاؤه الفكرة من طريقة استخدام الهواتف المحمولة لتحسين التنبؤ بالطقس الأرضي. فقد بدأ علماء الأرصاد الجوية على الأرض في قياس “الضوضاء” في الإشارات المَيكروية الفردية التي تُرسل عبر شبكات الهاتف المحمول، لأن الضوضاء تُحدّد من خلال الظروف الجوية التي تنتقل عبرها الموجة المَيكروية.
يقول وليامز:“كل ما كان عليهم فعله هو جمع البيانات عن الضوضاء وفجأة حصلوا على معلومات عن الطقس، وهم يضعون تنبؤات جوية أكثر دقة من خلال فعل ذلك… سنفعل الشيء نفسه في الفضاء”.

الخطوات التالية
إضافة إلى كون تكلفة صنعها متدنية، فإن إطلاق الأقمار المكعبة رخيص التكلفة أيضاً لأنها صغيرة جداً وهذا يقود إلى ظهور قطاع جديد من شركات الصواريخ التجارية.
ليس لمجالات استخدام أسراب الأقمار الاصطناعية من حدود سوى حدود خيال المهندسين والعلماء، وقوة الحوسبة التي يمكن تجميعها في هذه المركبات الفضائية الصغيرة.
سامسون فان Samson Phan هو كبير المهندسين الباحثين في مختبر الإشارات وتكنولوجيا الفضاء Signals and Space Technology Laboratory، في معهد ستانفورد الدولي للأبحاث. وظيفته تطوير الجيل القادم من الأقمار المكعبة بما في ذلك الأسراب، ولديه أفكار كبيرة. يقول: “بالنسبة إلي، الأمر كله يتعلق بالروبوتات والمناورة”.
ولا ينظر فان إلى الأقمار المكعبة على أنها مجرد جامعة سلبية للبيانات؛ وإنما يرى أنها ستكون روبوتات فردية قادرة على العمل مع الذكاء الاصطناعي لبناء معدات وأجهزة فضائية جديدة، مثل التلسكوبات العملاقة التي هي أكبر من أن يتسنى إطلاقها من الأرض بتركيبتها الكاملة. يقول مبتسماً: “رؤيتي تعتمد على استخدام أسراب كبيرة من الروبوتات الصغيرة داخل أقمار اصطناعية تتولى جمع مصفوفة بطول 5,000 كم حتى نتمكن من تصور شكل كواكب ألفا سنتوري”، قبل أن يوضح أن رؤيته هي هدف لاحِق وليست مشروعاً يعمل عليه حالياً. ولكن مثل هذه الرؤى هي التي تدفع الابتكار قدماً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى