أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقابلات

أشـــيــاء عــــلـــمـــــــني إيـاهـا العِلمُ

عندما تُعلّم أجهزة الحاسوب حل المعادلات المعقدة أو تشغيل الخوارزميات، تحاكي عملياتها الطرق التي يعمل بها العقل البشري. ومن ثم، يمكننا أن نتعلم مزيداً عن أنفسنا من الآلات.
تتحدث الدكتورة كاميلا بانغ Camilla Pang مع إيمي باريت Amy Barrett عن الكيفية التي تستخدم بها العلم لفهم العالم من حولها …

تصوير: ستيف سايرز Steve Sayers

شُخِّص اضطراب طيف التوحد Autism spectrum disorder لدى الدكتورة كاميلا بانغ عندما كانت في الثامنة من عمرها. وقد كافحت من أجل فهم العالم من حولها، وسألت والدتها ذات مرة عما إذا كان هناك ‘دليل إرشادي للبشر’. كتابها الأول تفسير البشر Explaining Humans، كان دليلاً لفهم الحياة والحب والعلاقات باستخدام الدروس التي تعلمتها خلال مسيرتها العلمية وحتى وقتنا الحاضر، بالاعتماد على أمثلة من الكيفية التي يمكن للبروتينات المختلفة في جسم الإنسان أن تعكس من خلالها الأدوار المختلفة في المجموعة الاجتماعية، إلى طريقة انكسار الضوء من خلال منشور لمساعدتها على تفكيك الخوف إلى شيء يمكن التعامل معه.

ما هي التحديات التي تواجهينها من أجل التواصل؟
حسناً، أولاً الإجابة عن الأسئلة المفتوحة ليست موطن قوتي. أعتقد أنه من المهم جداً معرفة ذلك. يُسلط هذا الكتاب بمجمله الضوء على الأسباب التي تجعل الأسئلة المفتوحة صعبة. أنا مصابة بطيف التوحد ولدي اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط ADHD أيضاً، لكن هذا لا يحدد من أكون. أنا لا أقع ضحية كوني ؛متنوعة’ عصبياً Neurodiversities. لقد مكنتني حالتي ولم أكن لأتمكن من نيل شهادة الدكتوراه أو تأليف كتابي، تفسير البشر، بمعزل عنها.

ما هو أكثر شيء علمك إياه العِلم عن البشر؟
العلم ما زال يعلمني. إنه ليس شيئاً ملموساً وهذا أحد الأسباب التي تجعلني أحبه. إنه شيء يتطور باستمرار، وكذلك هم البشر. إنه مرن جداً، وهذا أحد الدروس التي علمني إياها. أحب أن أواكب آخر ما توصل إليه العلم، وأعتقد أن ذلك يجعلني عن غير قصد أكثر سلاسة كشخص وأقل جموداً.

أين يتقاطع العلم مع الكيفية التي نتخذ بها قراراتنا؟
لنأخذ تعلم الآلة Machine learning [باستخدام الأنماط في البيانات لإنشاء خوارزميات يمكنها التنبؤ بالنتائج المستقبلية]؛ إنه يستند في جوهره إلى علم النفس. هذا ما نحاول فعله، تقليد دماغ الإنسان ثم استخدام ذلك على مستوى أعم لكي نتمكن من تطوير بصيرتنا وحدسنا.
يستخدم تعلم الآلة ما نعرفه لتوقع ما يتوجب علينا فعله في ظروف غير معروفة في المستقبل. إنه يهدف إلى تكرار المنطق المعقد وعمليات صنع القرار التي تحدث على نطاقات أصغر -ولكن بدقة فائقة- في الدماغ البشري.
لكن في الوقت الحالي، وبقدر ما يمكن للذكاء الاصطناعي AI تكرار البيانات إلى ما لا نهاية، فإن البشر أكثر تفوقاً بكثير، وإن كانوا أبطأ، في اتخاذ القرار.
قراراتنا هي أكثر تعقيداً بقليل وتجري على مستوى عدة طبقات مقارنة بأجهزة الحاسوب. وبصورة عصبية اعتيادية، نحن لا نقوم بتحديث تحيزاتنا في كل مرة بشكل عشوائي. بل نجمعها من خلال التجارب والأخطاء والنجاحات التي نستخدمها لمعايرة حدسنا لاستخلاص النتائج.

كيف تساعدك معرفتك بتعلم الآلة في اتخاذ القرارات؟
تخيَّلي أنني مستخدمة منتظمة لمنصة أوبر إيتس Uber Eats ولدي حسٌّ قوي بالروتين (وهذا ليس غريبا علي). قد يتنبأ التطبيق المعني باقتراح احتياجاتي ويلبيها تماماً – حرفياً – في المساء قبل أن أفتح التطبيق. يمكن تطبيق المنطق نفسه على محاولة توقع أهواء ومخاوف الأصدقاء أو الشركاء المقربين، وهنا أكثر من عملية مجرَّبة ومعقدة ومكررة. أو لدى اتخاذ قرارات تهم الكثير من الناس. أشياء من مثل؛ هل أرد أو لا أرد على شخص ما يزعجني حقاً؟ أو ما هي الكلمات التي يتعين علي قولها عندما يحتاج شخص ما إلى أن أتعاطف معه؟ هذه القرارات دقيقة وتتطلب مستوى من الخبرة المكتسبة، وبعض التعلم من الأخطاء وقدرا من التمعن.
هذا يقلد نسخة أكثر أناقة من الذكاء الاصطناعي: إنه التعلّم العميق Deep learning. التعلم العميق هو تدريب متكيِّف ومعزز، وخبرة مكتسبة حصرياً من خلال حريته وقدرته على التعلم من أخطائه. على الرغم من أن التعلم العميق يعمل في بيئة متسارعة حيث الضغوط متدنية ولا يعيقه الأعمال المنزلية والخوف من أحكام البشر.

حسناً، هل هناك حقاً أي علم وراء علاقاتي الفاشلة؟
لا أحب كلمة “فشل”. أعتقد أنها طريقة في التفكير تفترض أن هناك فقط أبيض أو أسود. أذكر هذا في الفصل الأول من كتابي تفسير البشر، إنه تفكير مقيَّد، وأنتِ إما هذا أو ذاك. تفشلين أو تنجحين. لكن التطور أكثر مرونة بقليل من ذلك، لذا فإن الفشل في سياق ما غالباً ما يكون بمثابة نعمة في السياق التالي. هذا في الواقع مفيد نوعاً ما، لأنه يمنحنا تلك المساحة من المناورة التي نحتاجها وتلك العقلية المنفتحة للقول: دعونا لا نقسو على أنفسنا. إذا لم ينجح الأمر، فليكن.
كلنا نتطور، والقدرة على التطور معاً أمر رائع، ولكن التطور بشكل منفصل ومن خلال وسائل مختلفة أمر رائع أيضاً. إنها إمكاناتنا الحية كأشخاص.

لقد ذكرتِ التنوع العصبي، والذي غالباً ما يُقارن بالنمط العصبي الاعتيادي. هل يمكنك شرح ما تعنيه هذه المصطلحات؟
يُشار عادةً إلى الشخص ذو ‘النمط العصبي الاعتيادي’ ‘Neurotypical’ على أنه لم يُشخَّص لديه بعد تباين في الصحة النفسية. أنا لا أسميه اضطراباً، لأنني أعتقد أن البيئة هي التي تفرضه بوضوح.
التنوع العصبي Neurodiversity مصطلح يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوحّد واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط ADHD وثنائية القطب Bipolar والفصام Schizophrenia؛ كل هذه الأنواع المختلفة من الإملاءات النفسية يمكن أن تؤثر فيك. ما تجدينه مع هذه التباينات في الصحة النفسية هو أن الكثير مما يكابده الناس، يرجع بشكل رئيسي إلى عدم تحمل بيئتهم.
إذا تُركت لوحدي، فأنا طبيعية. أنا بخير. وفي منتهى السعادة. ولكن إذا اضطررت للجلوس خلف مكتبي بطريقة معينة طوال اليوم، فسأُصاب بالجنون. أنا أجلس بالفعل تحت مكتبي – لديّ مكتب أعمل عليه وأنا واقفة – وهناك أقرأ. الناس في مكان عملي يتقبلون ذلك تماماً. لذا، ما أريد أن يعرفه الجميع عن التنوع العصبي، هو مجرد قبوله وتقبله.
بصراحة، أعتقد أن كل شخص لديه تنوع عصبي. على الرغم من محاولتك أن تكوني مثل الآخرين، فأنت لست كذلك. يؤسفني أن أخبركِ أن هذا غير موجود. أنتِ أحد هذه الأنواع التي على هذا الكوكب وتتعرضين للتطور. سوف تتطورين ولكن القبول بذلك والتصرف على سجيتك يكون في بعض الأحيان صعباً جداً مع كل تلك القيود الاجتماعية.
لذا، فإن التنوع العصبي هو شيء نواجهه جميعاً. بعضنا يعرف فقط كيف يخفيه بشكل أفضل، إما لأنهم يشعرون أقل به، أو ربما لأنهم أكثر خوفاً. أن تكوني متنوعة عصبياً وأن تظهري ذلك، فهذه شجاعة كبيرة وتتطلب الكثير من الجرأة.
علينا أن نعرف كيف ندربه ونستخدمه، وألا يعيقنا أن شكلنا مختلف. من السهل أن نشعر بالضغط وبأننا محاصرون. أنا أتحدث من تجربتي الشخصية وكل شخص يُشخّص على أنه مختلف نفسياً ستكون لديه تجربته الخاصة.
لكن أن يكون الإنسان قابلاً للتكيف مع احتياجاته الخاصة هو أمر أساسي، وأعتقد أن هذا يمكن أن ينطبق على الجميع، وليس فقط على أولئك الذين هم متنوعون عصبياً.

لماذا يرتبط التوحد ارتباطاً وثيقاً باضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط؟
إنهما متوافقان تماماً لكنهما معاً أشبه بالجحيم. إنهما نظيران. الحقيقة أن اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط يشبه حريقاً فوضوياً لا يمكن التنبؤ به ومبعثراً ودواراً، وهو كل شيء يجعلك تشعرين بالحياة. إنه يتسم بالفوضى وليس روتينياً. إنه مائع.
اضطراب طيف التوحد أكثر جموداً. أكثر تركيزاً. إنه مثل الروتين. وهو باطني جداً. من تجربتي، هذا هو.
إنهما يوفران على بعضهما بعضاً الكثير من الوقت لأنهما مثل الين واليانغ. أشعر في معظم الأوقات أنني سائق ثالث. حقا. أنا أتفاوض مع كل من هاتين الحالتين النفسيتين في الوقت نفسه، وحالي يقول “كل ما أريده هو أن أعد كوباً من الشاي”.
لكن الجيد في الأمر أنهما يكملان بعضهما بعضاً. أدخل في وضع شديد التركيز، ولدي أيضاً متلازمة أسبرغر Asperger’s التي تدفع الأمر أبعد من ذلك، لذلك أقوم بإنجاز المهام بسرعة. اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط قد يجعلنا نشعر بالضياع، وكذلك مرض التوحد، ولكن معاً، وبطريقة ما، نجد طريقنا. يكاد هذا يكون مثل السحر.
أعتقد أنه من المهم جداً تسليط الضوء على تقاطع القلق. يمكن أن ينقذ أحدهما الآخر، ولكن أيضاً، يمكنهما العمل معاً للتسبب بحالة قوية من القلق. قد يكون من الصعب التعامل معها. لا تعرفين ما الذي سيسبب لك القلق في ذلك اليوم، لكنك تعلمين أن عقلك يدور في كلا الاتجاهين. كل ما عليك هو أن تتعلمي كيف تدربينه. إنه طاقة في نهاية الأمر.

ما هو شعورك حول طريقة تصوير التوحد في وسائل الإعلام؟
إنها صورة غير دقيقة من حيث مدى تباين حالات التوحد. إنها ذكورية التوجه. إنها ثقافة بيضاء جداً، وهناك الكثير من عدم الفهم. وأعتقد أن هذا يرجع إلى حقيقة أننا لا نعرف كيف يبدو [التوحد] بأي شكل آخر لأنه من الصعب جداً تشخيصه.
[التوحد] له أعراض، وهي شديدة التنوع. من المعروف أن الأشخاص الذين يعانون التوحد، وخصوصاً النساء، يخفون أعراضهم، لذا فإن محاولة كشفه أمر صعب حقاً. لقد كنت محظوظة، إذ شُخّصت حالتي في سن الثامنة أو التاسعة.
ولكن مثلا، عندما يقول لي أحدهم: “أوه، ميلي، لا يبدو عليكِ أنكِ مصابة بالتوحد!” أعلم أنه يقول ذلك بنية حسنة، لذلك لا أنفعل. أجيب بما يوحي بعدم الاكتراث، وهي طريقة تدربت عليها، بوضوح.
لكن من المهين أن يُقال لي إنني لا أبدو مصابة بالتوحد لأنه ليس شيئاً لدي؛ إنه ما أنا عليه. هذا هو شكلي البشري. أنا مصابة بالتوحد، ولدي شكل مختلف. أخبر الحياة بشكل مختلف، لدرجة يمكن أن تعيقني، لكنها يمكن أن تعزز تجربتي أيضاً.
أتمنى حقاً أن يلقي هذا الكتاب الضوء على مدى تنوع [التوحد]، ولكن أيضاً أن يرسخه كمسار نفسي مشترك يفسر سبب شعورك: أ) بالغرابة قليلاً، أو ب) أنكِ لا تنتمين إلى المكان، أو ج ) لتفسير الإنسان الذي أنت عليه.

لماذا اخترت كتابة تفسير البشر حالياً؟
تفسير البشر هو محاولتي لكتابة دليل من أجزاء المعلومات التي جمعتها منذ أن كنت طفلةً، ولكن لم أكن أعلم أنني كنت أكتبه. بدأ الأمر بالملاحظات التي جمعتها، وهي تشعرني بقليل من الحرج ولكن لا مفر منها ولم يكن بوسعي ألا أكتبها. كان عليّ أن أكتب لأتمكن من الاستمرار، وقد مكنني تجميع هذه الملاحظات من فك رموز البشر والتواصل معهم.
إنها أيضاً محاولة لجعل العلوم مرئية للناس، مثلما جعل الناس مرئيين بالنسبة لي. يمكنني أن أكون أنا نفسي مع العلم، وهذا شيء أريد مشاركته مع الآخرين لأنها الطريقة التي أفهمهم بها.
وأنا أفكر الآن في الأمر، كانت لدي رؤى عن نفسي، أردت أن أوصلها لأمي عندما كنت صغيرةً. لذا يمكنني في يوم من الأيام أن أقول: “أمي، هذا ما كان يحدث. لهذا السبب لم أستطع التواصل، ويمكنني الآن أن أفعل”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى