أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تكنولوجيا

ألعاب العقل

يُستخدم الواقع الافتراضي لعلاج مجموعة واسعة من مشكلات الصحة العقلية. تعرف على بعض العلماء الرواد في العلاج النفسي عبر الواقع الافتراضي والمستفيدين منه.

لوسي مادوكس Lucy Maddox

هل مرت عليك أيام بدا لك فيها أنك لا تستطيع فعل أي شيء على النحو الصحيح؟ أيام سئمت فيها من نفسك؟ أيام وبَّخت فيها نفسك على أشياء قلتها أو فعلتها في حديث غاضب مع الذات مما لن تقوله لصديق؟ كلنا نفعل ذلك من وقت إلى آخر. ولكن في حين أنه من الشائع أحياناً أن نكافح في بعض الأحيان لكي نكون لطفاء مع أنفسنا، يتحول الأمر بالنسبة إلى البعض، وبصورة خاصة أولئك الذين يعانون الاكتئاب، ويلقون اللوم على أنفسهم بلا رحمة، إلى حلقة مفرغة من التنمر الذاتي Self-bullying.
ويسعى العلاج النفسي إلى كسر هذه الحلقة من خلال مناهج مختلفة يعتمد أحدثها على استخدام الواقع الافتراضي (VR). في جامعة يونيفيرسيتي كوليدج لندن University College London، يعمل البروفيسور جون كينغ John King ود. إيما جيْن كيلفورد Emma Jayne Kilford على تدخل في الواقع الافتراضي لاستخدامه كعنصر مساعد في علاج الاكتئاب في جلسات تُعقد وجهاً لوجه. وهما يأملان بأن يساعد هذا النهج العلاجي الجديد المرضى على زيادة قدرتهم على التعاطف مع الذات.
يستخدم نظامهما غرفة افتراضية فيها شخصيتا أفاتار Avatars افتراضيتان: طفل، وبالغ. وقبل دخول المشاركين إلى الغرفة، يجري تدريبهم على استخدام نص تعاطفي لتحسين الحالة المزاجية لشخص مكتئب. ويتكون السيناريو من ثلاثة أجزاء: التحقق من صحة التجربة وإعادة توجيه الانتباه وتنشيط الذاكرة الإيجابية. فعندما يدخل المشارك الغرفة الافتراضية، فإنه يواجه أفاتار الطفل الافتراضي المكتئب وتتمثل مهمته بتهدئة الطفل باستخدام السيناريو إلى أن ينجح في التخفيف من محنته. وفي المرة التالية التي يدخل فيها المشارك إلى الغرفة، فإنه يؤدي دور الطفل ويمكنه رؤية شخصيته الافتراضية البالغة (هو نفسه من الجلسة السابقة)، وهو يؤدي دوره وفق سيناريو التعاطف. ويشرح كينغ: “يجلس هناك على أنه طفل، ويعيش حرفياً تجربة التعاطف. إنه نوع من صورة معززة مؤثرة”. يمكن حتى جعل الأفاتار الافتراضي للشخص البالغ يبدو على هيئة المشارك، على الرغم من أن المشاركين لا يختارون معظمهم ذلك.
في عينة من طلاب شديدي اللوم لأنفسهم وأخرى لأشخاص يعانون الاكتئاب تظهر النتائج الأولية انخفاضاً كبيراً في مقاييس النقد الذاتي والاكتئاب، إضافة إلى تحسينات في التعاطف مع الذات. وقد بدأت تجربة أوسع على أمل بأن يصير التدخل خياراً متاحاً لمن يخضعون لعلاج الاكتئاب.

واجه مخاوفك، افتراضياً
هذا مجرد واحد من العديد من التدخلات في الواقع الافتراضي لمعالجة مشكلات الصحة العقلية والتي هي قيد التطوير حالياً أو موجودة بالفعل في العيادات. استخدام الواقع الافتراضي في علاج الصحة العقلية موجود منذ منتصف تسعينات القرن العشرين، لكن التطورات الأخيرة في قدرات سماعات الرأس وانخفاض التكلفة جعلته أكثر جدوى ومتاحاً لشريحة أكبر، عدا عن أن العلاج بمساعدة الواقع الافتراضي يشكل محور العديد من الأبحاث.
الاستخدام الأكثر شيوعاً للعلاج بمساعدة الواقع الافتراضي هو في مجال اضطرابات القلق. وبالنسبة إلى مرض الرهاب البسيط حين يكون لدى شخص ما خوف واحد سائد، يمكن استخدام الواقع الافتراضي لتعريض الشخص لهذا الخوف تدريجياً وبأمان.
تقول جوديث كيلينغ Judith Keeling، والتي سمعت عن تجربة بحثية للعلاج باستخدام الواقع الافتراضي لرهاب المرتفعات في مسقط رأسها في أكسفورد وقررت أن تجربه: “لقد عانيت الخوف من المرتفعات لسنوات، فقد أثار الأمر اهتمامي، لكنني كنت متشككة”.
تتذكر جوديث التجربة: “تضعين سماعة الرأس وتجدين نفسك في ردهة مركز للتسوق. ويمكنك اختيار الطابق الذي تبدئين منه، ثم تأخذين المصعد لتذهبي إلى ذاك الطابق. يُفتح الباب، وتخرجين؛ وهناك حاجز زجاجي بينك وبين السقوط، كما لو كنت تنظرين إلى الردهة. بعد ذلك يُزال الحاجز. قفزتُ إلى الوراء عندما حدث ذلك”.
على الرغم من معرفة جوديث بأن الأمر ليس حقيقياً ومن أنها وجدت تصميم الواقع الافتراضي شبيهاً بعالم الرسوم المتحركة إلى حد ما، إلا أنها شعرت مع ذلك كما لو أنها في مكان مرتفع. ويقول دانييل فريمان Daniel Freeman، أستاذ علم النفس الإكلينيكي من جامعة أكسفورد University of Oxford، إنّ هذا ليس مفاجئاً. ويضيف: “أياً كان ما يظهره الحاسوب لك، فهذا هو واقعك… الأمر الجميل في العلاج هو أن هناك أيضاً جزءاً واعياً من عقلك يقول إنه ليس حقيقياً، لذلك يمكنني تجربة الأشياء بشكل مختلف. إنه لا يوفر عصاً سحرية لحل المشكلة؛ إنه يمكّنك فقط من تعلم كيف تفعلين ذلك”.
في هذا التدخل، يُكمل الأشخاص مهام تزداد صعوبة في كل طابق حتى يصلوا إلى الطابق العلوي، حيث يوجد جسر غير ثابت عليهم أن يعبروه، ويمكنهم أن يروا من خلاله. فإذا نجحوا في ذلك، يمكنهم الركوب على ظهر حوت أزرق سريالي يطوف داخل مركز التسوق. وتقول جوديث: “إنه شعور غير واقعي…. على الرغم من أنني لم أكن واثقة من الأمر، لكنني تمكنت من حمل نفسي على أن أفعل ذلك”.
بعد ثلاث جلسات، لم تكن جوديث متأكدة ما إذا كانت استفادت كثيراً من العلاج، لكنها لاحظت الفرق عندما ذهبت في إجازة عائلية لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر. عن ذلك تقول: “كنت في أنغكور وات، في كمبوديا، حيث يوجد الكثير من السلالم الخارجية المتهالكة ووجدت نفسي استخدمها صعوداً وهبوطاً دون أي مشكلة”.

علاج غامر
يرى فريمان دوراً رئيسياً للواقع الافتراضي في أتمتة بعض جوانب العلاج لإتاحته لعدد أكبر من المستخدمين. ويقول: “هناك بعض العلاجات النفسية المفيدة جداً، لكن القليل جداً من الناس يحصلون عليها”. ويعتقد فريمان أيضاً أن علاج الواقع الافتراضي قد يكون أقوى من العلاج التقليدي إذ “يمكنك القيام بأشياء في الواقع الافتراضي لا يمكنك عملها أثناء العلاج وجهاً لوجه… الهدف النهائي هو استخدام التكنولوجيا لدفع العلاجات إلى أبعد من ذلك”.
أحد الأمثلة على توسيع نطاق العلاج هو علاج اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). وينطوي اضطراب ما بعد الصدمة على ثلاثة من الأعراض: فرط الإثارة (الشعور بالقلق الزائد تجاه التهديد)، والتجنب (عدم الرغبة في التفكير أو التحدث عن الذكريات المؤلمة) وتكرار تجربة الأعراض، مثل الصور المُقحَمة Intrusive images أو الكوابيس أو ذكريات الماضي. واضطراب ما بعد الصدمة أمرٌ شائع بين المحاربين القدماء، وقد صُممت حزمة بريْفمايند Bravemind الافتراضية خصيصاً للجنود الذين خدموا في أفغانستان. عن ذلك يقول مصممها د. ألبرت ‘سكيب’ ريزو Albert ‘Skip’ Rizzo من جامعة جنوب كاليفورنيا University of Southern California: “نحن نستخدم أفضل التقنيات لتدريب الجنود على الحرب، لذا يجب أن نستخدم أفضل التقنيات لإصلاح… الفوضى الناجمة عن ذلك”.
تحاكي حزمة بريفمايند مواقف الحرب باستخدام 14 عَالماً افتراضياً قابلة للتخصيص. ويتحكم المعالج فيما يحدث، ويخصص المحتوى تبعاً لذكريات الشخص الذي يعيش الصدمة من جديد، وهذا يسمح بمعالجة تلك الذكريات وحل مشكلة إعادة تجربة الأعراض. وتتطابق المبادئ مع العلاج السلوكي المعرفي Cognitive behavioural therapy التقليدي لاضطراب ما بعد الصدمة، لذلك يحتاج العلاج إلى معالج ولكن تأثير الصور غامر. يقول ريزو: “إنها أداة إكلينيكية في الوقت الفعلي… التكنولوجيا لا تصلح أي شخص. إنها توسّع مهارات الطبيب جيد التدريب”.
تعطي بريْفمايند عند استخدامها مع معالج مدرَّب نتائج تعادل أو تفوق في أدائها ما يمكن تحقيقه عن طريق العلاج التقليدي. وقد أظهرت دراسة صغيرة بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI تغيرات في مناطق الدماغ المرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة أيضاً.

بيئة آمنة
لا تقتصر الاستفادة من العلاج في الواقع الافتراضي على الاكتئاب والقلق. ففي معهد الطب النفسي وعلم النفس وعلم الأعصاب Institute of Psychiatry, Psychology & Neuroscience (IOPPN) في جامعة كينغز كوليدج لندن King’s College London، تعمل د. لوتشيا فالماجيا Lucia Valmaggia وزملاؤها مع أفراد يعانون الذهان Psychosis الذي يتميز بفقدان الاتصال بالواقع ويتضمن في كثير من الأحيان سماع أو رؤية أشياء أخرى لا يسمعها أو يراها الآخرون، ومشاعر قوية من الارتياب أو الأفكار الوهمية. يمكن للواقع الافتراضي محاكاة المواقف التي يمثل فيها الارتياب إشكالية.
توضح فالماجيا: “نستخدم الواقع الافتراضي كتجربة أولى لشيء ما. على سبيل المثال، يدخل شخص ما إلى مقهى افتراضي وأول ما يحدث له هو أن يتوتر عندما يقول له أحدهم مرحباً. أنت ترى ما إذا كانوا مدركين أم لا لما يفعلونه. وتعلمهم أن يتنفسوا، وأن يدركوا ما يحدث لفكِّهم بفعل التوتر، ليفعلوا كل ذلك. وبعد ذلك يجربوه -ليس على الفور في مقهى حقيقي ولكن في الواقع الافتراضي وحولهم أشخاص آخرون”.
تقول: “يعرف الشخص الذي يختبر ذلك أنه ليس حقيقياً، لذا سيحاول أن يؤدي مزيدا من الأشياء وسيكون أكثر قدرة على اكتساب خبرات جديدة واستجابات فسيولوجية جديدة… إنها خدعة للتحكم في التجربة ببيئة مناسبة إيكولوجياً، وفي الوقت نفسه، حتى يتمكن الشخص الذي يختبرها من تجربة شيء جديد”.
لقد جربت جيما Jemma هذا التدخل العلاجي. وشُخّصت جيما بأنها مصابة بالذهان في عام 2019، ولأن لديها خلفية في تصميم ألعاب الفيديو، فقد جعلتها تجاربها الذهانية تشعر بقناعة بأنها تعيش داخل لعبة. مع انحسار هذه المعتقدات، وجدت جيما أنها غير مرتاحة في المواقف الاجتماعية وغير مرتاحة لأن يراها الآخرون.
“كانت لدي ردة فعل قوية تجاه العلاج في الواقع الافتراضي. وكان الأمر مذهلاً”، تقول جيما التي جمدت تماماً عند دخولها المقهى الافتراضي، لما اعتراها من خوف شديد. وتقول: “لقد جمدت تماماً ولم أستطع قول أي شيء… ليس هناك مكان أختبئ فيه…. إنه مكشوف تماماً وشفاف”.
مع الممارسة والدعم العلاجي، تغلبت جيما على خوفها وصارت أكثر ارتياحاً وثقة. كما أوصيت باستخدام برنامج استرخاء متاح على موقع يوتيوب (bit.ly/dolphins_swim) يتيح لها السباحة مع الدلافين في بحر افتراضي باستخدام سماعة رأس للواقع الافتراضي من الورق المقوى تصلها بهاتفها المحمول. وهي تقول عن التجربة: “إنها مريحة جداً”.

هل سيتوفر العلاج في عيادة قريبة منك؟
العلاج عبر الواقع الافتراضي لا يخلو من تحديات. ففي حين أن سماعات الرأس أرخص بكثير مما كانت عليه من قبل، إلا أن إمكانية الحصول على العلاج ما زالت تعتمد على قدرة العيادات على شرائها ليستخدمها المرضى. كما إننا بحاجة شديدة إلى فهم التعقيدات الأخلاقية المتعلقة بالأمن الرقمي لضمان عدم إمكانية جمع بيانات حساسة خاصة بالمستخدمين. يحذر كيلفورد قائلاً: “إنني أرى أن ذلك يطرح مشكلة جدية… التكنولوجيا تتحرك دائماً على نحو أسرع بكثير من الهيئة المنظمة” للتدخلات.
إن التأخر الحتمي بين التقدم التكنولوجي والأبحاث الجيدة يعني أن الدراسات يمكن أن تكون غير متزامنة مع التكنولوجيا بحلول الوقت الذي تكتمل فيه. وإضافة إلى ذلك، يعمل الواقع الافتراضي فقط مع أنواع معينة من العلاج النفسي التي تعتمد على المحادثة (هي عادةً تلك التي تنتمي إلى المدارس السلوكية المعرفية).
ومع ذلك، فإن التقدم التكنولوجي والبحثي يعني أن العلاج عبر الواقع الافتراضي قد وصل أخيراً إلى مرحلة النضج. ويعتقد ريزو أننا لسنا بعيدين عن اليوم الذي “ستكون فيه سماعات الرأس في المنزل مثل محمصة الخبز. كما تعلمون، لا تستخدمونها كل يوم، ولكن لدى كل أسرة واحدة منها… سنصل إلى مرحلة يكون فيها لدى كل معالج سماعة رأس للواقع الافتراضي في دُرجه وسيكون قد حصل على بعض التدريب حول دمج استخدامها في العلاج بمرحلة ما”. ويعتقد ريزو أيضاً أن تقنية اتصالات الجيل الخامس 5G ستساعد المعالجين على تقديم التدخلات العلاجية عبر العالم الافتراضي.
تغطي المجموعة المتنوعة من العلاجات بمساعدة الواقع الافتراضي التي تشملها الأبحاث مجموعة كبيرة من الاضطرابات والإعدادات. وتوجد مطابخ افتراضية لمساعدة الأشخاص الذين يعانون اضطرابات الأكل، وبرامج استرخاء لمرضى المستشفيات، وبرامج لأطفال المدارس لمساعدتهم على التعامل مع افتراضاتهم بشأن ما يعتقده الآخرون عنهم (وهي مفيدة بشكل خاص للأطفال الذين تعرضوا للتنمر أو تعرضوا لتجارب قد تؤثر في علاقاتهم المستقبلية). ويمكن برمجة أي شيء يمكنك تخيله لاستخدام الواقع الافتراضي.
لن يحل العلاج بمساعدة الواقع الافتراضي محل المعالجين البشريين، لكنه أداة مساعدة قوية وستزداد القدرة على استخدامه. يتوفر العلاج عبر الواقع الافتراضي للخوف من المرتفعات بالفعل في عدد من عيادات تحسين الوصول إلى العلاج النفسي Improving Access to Psychological Therapy التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة NHS، كما تتوفر العديد من تجارب أبحاث الواقع الافتراضي في مؤسسات الهيئة أيضاً. ومع نمو العلاج عبر الواقع الافتراضي، سيكون من الضروري أن تكون البرامج التي نختارها ذات فعالية مثبتة ومصممة بشكل مشترك من قبل أطباء معالجين وأشخاص لديهم خبرة في مشكلات الصحة العقلية. وهي متوفرة بكثرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى