إشعال الحرائق باســـــــــــــــم الــــعــــــلـــــم
هايلي بينيت Hayley Bennett
بعد منتصف ليلة خميس في شهر يونيو، استمر الباحثون في ولاية يوتا University of Utah بإرسال رسائل إلكترونية متحمسة، لتعريف بعضهم بعضا بمستجدات العمل في هذا اليوم. وانتهى الفريق لتوه من متابعة حريق هائل وقع في منطقة نائية من غابة فيش ليك الوطنية في جنوب الولاية، لكن حواراتهم لم تنته. لم يكن هذا حريقاً برياً، بل تم إشعاله عن عمد. وفي وقت مبكر من بعد الظهر، أُرسلت مروحيات الإشعال لبدء الحريق. شاهد عالم الغلاف الجوي في جامعة يوتا آدم كوتشانسكي Adam Kochanski، النيران وهي تتنامى، ويتذكر الأمر قائلاً: «كانت هناك مروحيتان تحملان ما يطلق عليه بالمشاعل المروحية – وهو ما يشبه قاذفات اللهب- التي تدلت أسفلها. حلقت المروحيتان ذهاباً وإياباً، كما كانت هناك طواقم أرضية تحمل مشاعل محمولة بدأوا أيضاً بإشعال النيران من على الأرض». استغرق الأمر بعض الوقت لإضرام النيران، ولكن بمجرد حدوث ذلك، اشتعلت النيران بسرعة كبيرة واستمرت بقوة لبضع ساعات، حيث التهمت 8 كم من الغابة الوطنية قبل أن تخمد في ظلام الليل.
طموح ملتهب
بالنسبة إلى كوتشانسكي، كانت هذه فرصة فريدة لاختبار أمر كان يعمل عليه. قبل ساعات قليلة من الحريق، كان جالساً على حاسوبه، مستخدماً نموذجه حاسوبية كان يطورها لمحاولة التنبؤ بكيفية اندلاع الحريق. ويقول: «كانت هذه هي المرة الأولى التي استطعنا فيها استهلال تلك التوقعات في الميدان، في قلب المجهول – تَمَّ كل شيء بشكل سريع وعلى حاسوبك المحمول». وفي الوقت نفسه، استخدم باحثون آخرون درونات مزودة بكاميرات تعمل بالأشعة تحت الحمراء، وتقنيات للمسح بالليزر وأدوات مثبتة على الأبراج المنتشرة حول الغابة لتتبع كل جانب من جوانب الحريق، وكذلك الدخان الذي انبعث منه والظروف المحلية مثل سرعة الرياح. لقد كانت تجربة كبيرة حقّاً.
لكنها لم تكن مجرد تجربة كبيرة فحسب. قد تتساءل لماذا لا بأس في أن تشعل النار في غابة وطنية، حتى ولو كان ذلك باسم العلم. حسنا، هذا ليس كل ما حدث. وأوضحت نانسي فرينش Nancy French، وهي عالمة في جامعة ميتشغان التقنية ساعدت على تنسيق الفريق، إن الحريق كان سيحدث على أي حال. وكان ذلك ما يعرف في الغابات بـ «النار الموصوفة» أو «الحريق المحكوم»، وهو حريق يُشعل عمدا لتحقيق بعض الأهداف الإيكولوجية. وفي هذه الحالة كان الهدف هو استعادة الموائل. وتَمَّ تخطيط الحريق بعناية، وتمكن من إفساح المجال لنمو أشجار الحور الرجراج Aspen الصغيرة التي ترعى عليها الأيائل، وتقول فرينش: «كانت هذه المنطقة تعج بأشجار التنوب المفرطة النضج، والآن سيشجعونها حقّاً على التحول إلى موائل مفضلة للأيائل. وكان ذلك هو السبب وراء الحريق، أما ما فعلناه كعلماء؛ فهو الاستفادة من ذلك في أبحاثنا».
في الواقع، لم يكن لدى العلماء الكثير من الآراء حول الكيفية التي سيندلع بها الحريق أو زمانه. وفي الحرائق الموصوفة يكون «مدير الحريق»- وهو شخص من ذوي الخبرة في إشعال هذا النوع من الحرائق – هو المسؤول عن اتخاذ القرار. الهدف الأول هو السلامة: إذا كانت هناك أي علامة للجفاف أو ظروف احتراق خطيرة؛ سيلغى الحريق. ولا يُعطي مدير الحريق إشارة البدء سوى عندما تكون الظروف أولاً آمنة، وثانياً يرجح أن تحقق الأهداف الإيكولوجية. وفي حريق فيش ليك الذي تَمّ في شهر يونيو، جاء قرار الإشعال بعد فترة من هطول الثلوج الكثيفة، عندما كان «الوقود»- ما يسميه علماء النار الأشجار، إلى جانب الأشياء الأخرى القابلة للاشتعال- جافّاً بدرجة كافية.
وعندما بات واضحاً أن الحريق كان يمضي قدماً، جاء العلماء، محملين بالأدوات، لدراسة كل جانب من جوانبه. ودرس فريق متقدم «الوقود» قبل إشعال الحريق وسيعود مرة أخرى لاحقاً ليرو ماذا احترق. وكذلك كان هناك باحثون مشاركون في دراسة سلوك الحريق نفسه، ومراقبة أعمدة الدخان وكيمياء الدخان. «إنها عملية كبيرة جدّاً»، كما تقول فرينش. وإضافة إلى العلماء ومسؤولي الغابات ومنسقي السلامة، كان هناك شخص أنيطت به مهمة مخصصة تتمثل في تصفية الخلافات- التأكد في الأساس من أن الدرونات لم تكن تحلق في الوقت نفسه مع المروحيات. إذاً، بماذا خرج العلماء من هذا الحريق العملاق؟ وفقاً لفرينش، سيستغرق الأمر ستة أشهر حتى سنة للكشف عن النتائج الفعلية، لكن الأمل معقود بأن تتوفر لديهم مجموعة غنية من البيانات التجريبية التي يُنشئون بها جيلاً جديداً من نمذجات التنبؤ بسلوك الحرائق والدخان. وهذه النمذجات المتطورة- يطلق عليها «النماذج المقترنة للغلاف الجوي والحرائق» coupled fire-atmosphere models- ستجمع بين معلومات حول الحريق وظروف الطقس المحلية لتحقيق تنبؤات أكثر دقة عن حرائق الغابات. كما يوضح كوشانسكي، فالنماذج الحالية لا تفسر الكيفية التي تؤثر بها النيران نفسها في الطقس. وكما يقول: «بالنسبة إلى حرائق البراري، هناك قدر هائل من الطاقة لدرجة أن الحريق يمكنه خلق مناخه الخاص، فهو يغير الرياح المحلية، ويغير درجة الحرارة، ويمكنه توليد غيوم هائلة. وكذلك، فقد يسبب هطول الأمطار، ولكن بسبب الرطوبة الناتجة من الحريق».
مميّز الحرائق
بعد مرور أسبوعين على الحريق الكبير شارك كوتشانسكي في التوقعات التي أطلقها بشأن حريق فيش ليك Fishlake عبر تطبيق Skype. كان الأمر صعباً بعض الشيء: عرض ثنائي الأبعاد للحريق من الأعلى، متراكب فوق خريطة للغابة، مع سهام صغيرة تشير إلى اتجاه الرياح. وعرضت النيران باللون الرمادي، وكانت هناك بركة متجولة باللون الأزرق، يفترض أن تمثل عمود الدخان. وأثناء تشغيل كوشانسكي للمحاكاة، ينمو العمود وينتشر، ثم يتراجع، قبل أن يختفي. وعند تنبأت التمذجية الحاسوبية بأن الأمطار ستتساقط، وهذا بالضبط ما حدث في الواقع. وبعد ساعتين من الحريق هطلت الأمطار وأخمدت الحريق. ظاهريّاً، بدا أن النمذج يعمل بشكل جيد، حتى إن الفريق تمكن من تحديد المكان الذي يمكنهم منه أن يشاهدوا النيران دون أن يخنقهم الدخان، بناءً على تنبؤات نمذجتهم حول اتجاه حركة الدخان. ولكن وفقاً لكوتشانسكي، فإن العمل الشاق لم يبدأ بعد. ويجب دمج جميع البيانات التي جمعت في الموقع في النموذج لمعرفة ما إذا كان قادراً على اكتشاف التفاصيل الحقيقية للحريق- ارتفاع عمود الدخان، وكثافة الحريق، وما إلى ذلك. وستساعد البياناتُ الجديدةُ الفريقَ على إجراء بعض التحسينات لجعل النمذجة تعمل بشكل أفضل؛ مما يعني أنه يتعين عليه إنتاج محاكاة أكثر دقة، وفي نهاية المطاف، التنبؤ على نحو أفضل بالحرائق المستقبلية.
تقول فرينش: «إنه يُحدّث بالفعل المعرفة التي استخدمناها سابقاً لجعل النمذجات تعمل بشكل أفضل». وتوضح أن بعض تقنيات الاستشعار المتاحة حاليّاً هي أكثر تطوراً بكثير مما استُخدم في إعداد النمذجات القديمة. وهناك خطط لجمع المزيد من البيانات خلال هذا الخريف باستخدام إحدى طائرات ER-2 شبه المدارية التابعة للوكالة ناسا، وهو ما يسمى مختبر الطيران والمجهز بالمجسات، إضافة إلى طائرة ركاب من طراز DC-8 ستحلق عبر عمود الدخان لتجميع بيانات عن بنيته الكيميائية. يبدو كل شيء كأنه علمي من الطراز الأول، لكن المشروع واجه صعوبة بسبب تخفيضات الميزانية. من وجهة نظر فرينش، لديهم الآن بيانات ذات نوعية جيدة، ولكن الاستفادة منها قد تكون مهمة غير مثمرة إذا لم يجدوا بعض التمويل الإضافي. وحتى كوتشانسكي يعترف بأن عمليات المحاكاة في فيش ليك قد تكون مشروعا ينفذ كهواية حتى يتمكن من معرفة كيفية دفع تكاليفه.
وعلى الرغم من التخفيضات في التمويل، فإن العديد من العلماء الموجودين في موقع حريق فيش ليك أنفقوا من أموالهم الخاصة ليكونوا هناك، وهو ما يعكس الكثير عن قيمة العمل التي يعتقدونها. ويتعلق الأمر جزئيّاً بأهمية النماذج المحسنة للتنبؤ بسلوك الحرائق. في العقد الماضي التهمت الحرائق ما بين 16٫000 و 40٫000 كم2 من الأراضي الأمريكية سنويّاً، وفقاً لإحصاءات المركز الوطني لمكافحة الحرائق، وتسببت في خسائر مالية بلغ مجموعها خمسة بلايين دولار. وفي العام الماضي تعرضت كاليفورنيا لأكبر وأخطر حرائق الغابات في تاريخها، حيث تسبب حريق واحد في شمال الولاية في مقتل 85 شخصاً. وعلى المستوى العالمي، فإن الإحصائيات مخيفة بالقدر نفسه.
ويقول كوتشانسكي إن تجربتهم تمثل أقرب ما يمكن إلى حريق هائل حقيقي في وجود جميع المعدات اللازمة لرصد الحرائق والطقس». ويمكنك أن تتخيل أنه إذا اشتعل حريق في مكان ما في ولاية كاليفورنيا، فلا توجد وسيلة لإدخال ما يكفي من المجسات. فلا يوجد ما يكفي من الوقت، وهناك مخاوف تتعلق بالسلامة ولن يُسمح لأحد حتى بالاقتراب من محيط النار. أما بالنسبة للحرائق البرية؛ فهذا مستحيل».
قبل ألسنة اللهب
وبينما قد يشتعل الحريق الهائل على بعد 100 كم من أقرب محطة للأرصاد الجوية، فإن منطقة الحريق في فيش ليك تحوي عدة محطات خاصة بها. وبناءً على هذه البيانات الشديدة التفصيل، ينبغي أن يتمكن الباحثون من تطوير نمذجات وأدوات يمكنها مساعدة الأشخاص الذين يتعين عليهم اتخاذ قرارات بشأن كيفية مكافحة حرائق الغابات. وقد يساعد ذلك رجال الإطفاء على معرفة الكيفية التي يحتمل أن يتصرف الحريق وفقها، بحيث يمكنهم أن يسبقوه بخطوة.
ويمكن للنماذج المحسّنة أن تعني توقعات أفضل حول الوجهة المحتملة للدخان ووقت تحركها. ويشير كوتشانسكي إلى أن أنظمة الإنذار المبكر قد تمنح المجتمعات مزيداً من الوقت للاستجابة؛ مما يضمن بقاء الفئات المستضعفة بعيداً عن الدخان. ويمكن تحذير المدارس، مثلاً، لإبقاء الأطفال في الداخل في أوقات الاستراحة. وفي الوقت الحالي يتعلق الأمر بإبلاغ الأشخاص بالبقاء في المنزل؛ لأن الدخان يتحرك بالفعل نحو منازلهم، عندما يكون الوقت قد فات لأنهم خططوا بالفعل للخروج. يقول كوتشانسكي: «لكن إذا كان بإمكانك توفير هذه المعلومات مبكراً، فإذا استطعت أن تخبر الناس، مهلاً، ما بين الساعة 4 مساء و 5 مساء غداً، سيصل الدخان إلى بيتك، وما عليك إلا التخطيط وفقاً لذلك، سيكون الأمر مختلفا».
ومع ذلك، فهذا ليس كل شيء. وقد تساعد التحسينات المنفذة على مساعدة عمال الغابات على نمذجة الحرائق مثل أولئك الذين نفذوا الحريق المذكور في فيش ليك. وإشعال النار ليس عادة علماً دقيقاً، ويقول كوتشانسكي «في معظم الحالات، فهم يتصرفون وفقا للحدس»- على الرغم من خبرتهم الطويلة، فلم يحصلوا مطلقاً على مستوى المعلومات التي وفرتها هذه التجربة الجديدة. وقد تغير قواعد اللعبة بالكامل، ومساعدتهم على إشعال حرائق أكثر فعالية لتحقيق أهدافهم البيئية التي، في فيش ليك، قد تنجح بشكل جيد للأيائل.
بمجرد إدراك جميع تبعات هذه التجربة، فليس من الصعب أن نرى سبب تحمس العلماء للمضي قدماً- أو سبب تحمسهم عندما سار كل شيء حسب الخطة. ولكن هذا كان الجزء المتعلق بالألعاب النارية فحسب. بالنسبة إلى كوتشانسكي، فطبيعة جمع البيانات هي ما جعل هذا المشروع «فريداً من نوعه تماماً». ولذلك، فإن التفاصيل الدقيقة هي ما يجب أن تثبت أهميتها. وهذا الجزء، على ما يبدو، ربما لا يؤتي ثماره بسرعة.