أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم البيئيةالعلوم الطبيعيةتكنولوجيا

الخروج من الهاوية

على اليابسة تسمو قمم الجبال الشاهقة نحو السماء وتلف الغيومُ قممها. في المحيط، تمتد أعلى القمم باتجاه السطح وتلتف حول جوانبها عوالق البلانكتون Plankton. دعونا نستكشف العالم الخفي للجبال البحرية...

د. هيلين سكيْلز Helen Scales

على الأرض ستجد صعوبة في العثور على جبل لم يتسلقه أحد بعد. في المقابل يوجد في أعماق البحار الآلاف من القمم غير المستكشفة. الجبال البحرية هي براكين مغمورة، نشطة أو خامدة، مع سفوح مغروسة في أعماق الهاوية وقمم ترتفع آلاف الأمتار من دون أن تصل إلى سطح الماء. هذه الجبال المتوارية هي بعض من المعالم الجيولوجية التي لا يُعرف عنها سوى القليل، ولكنها الأكثر وفرة على هذا الكوكب.

هائلة ووفيرة وغير مستكشفة
في الوقت الحالي، لا يوجد إحصاء شامل لمعظم الجبال البحرية في العالم، لأن تحديد مواقعها والتعرف عليها ليس بالأمر السهل. تشير التقديرات إلى وجود ما بين 30,000 وأكثر من 100,000 جبل بحري يزيد ارتفاعها على 1,500 م. أحد أكبرها هو جبل ديفيدسون البحري Davidson Seamount قبالة ساحل كاليفورنيا، إذْ يبلغ طوله 42 كم وعرضه 8 كم وارتفاعه 2,280 م. وتوجد جبال بحرية أعلى إذ يصل ارتفاعها إلى نحو 5,000 م من القاعدة إلى القمة. وإذا أضفنا القمم الأصغر، بارتفاع 100 م وما فوق، فسيصل الرقم العالمي التقديري لهذه الجبال إلى الملايين.
مهما كان عدد الجبال البحرية، فقد درس العلماء بضع مئات منها فقط. د. لوسي وودال Lucy Woodall هي زميلة أبحاث أولى من جامعة أكسفوردUniversity of Oxford وعالمة رئيسة في مؤسسة نيكتون
Foundation Nekton البحثية، درست الجبال البحرية في المحيطات الأطلسي والهندي والجنوبي. عن ذلك تقول: “في كل مرة قبل أن أغوص يجول بذهني أنني ربما أكون أول إنسان يرى هذا الجزء من كوكبنا، لمجرد أنه بعيد جداً وغير مستكشف بعد”.
عند استكشاف الجبال البحرية، يصادف العلماء في أكثر الأحيان غابات غريبة خلابة من الإسفنج والشعاب المرجانية، تحفل بمستعمرات ملونة من الشعاب المرجانية المذهبة والسوداء الشبيهة بشجيرات عمرها مئات أو حتى آلاف السنين. يفوق عدد أنواع الشعاب المرجانية التي تعيش في الأعماق عدد أقاربها البعيدة في المياه الضحلة الاستوائية، ويُعثر باستمرار على أنواع جديدة منها. فقد كشفت رحلة استكشافية حديثة إلى محمية غالاباغوس البحرية Galapagos Marine Reserve عن عشرات الأنواع Species الجديدة من الشعاب المرجانية والإسفنج التي تنمو على ثلاثة جبال بحرية لم تستكشف من قبل.
ووسط قيعان البحار الشاسعة العميقة المغطاة بالطين، توفر السفوح الصخرية للجبال البحرية موطئ قدم ليرقات الشعاب المرجانية والإسفنج لتستقر وتنمو. وبدورها توفر الشعاب المرجانية والإسفنج موطناً للحيوانات الأخرى: نجم البحر، وشقائق النعمان، والقواقع، ونجوم البحر الهشة أو الثعبانية، والروبيان، والكركند المقرفص، والأخطبوطات. تضع أسماك القرش أكياس بيضها بين فروع المرجان فتظهر وكأنها زينة على شجرة عيد الميلاد.

تقنية التحكم من بُعد
غالباً ما تجري عمليات الغطس التي تضطلع بها وودال ومستكشفو الجبال البحرية الآخرون من بعيد، باستخدام مركبات غاطسة تُدار من بعد Remote Operated Underwater Vehicles، أو اختصاراً: المركبات ROVs. تُنزل هذه الروبوتات التي تغوص في الأعماق، وهي بحجم سيارة تقريباً، إلى الماء من سفينة، ويمكن التحكم فيها عبر كابل. وهي مجهزة بكاميرات عالية الدقة ومقابض روبوتية، وتَحِلُّ مَحَلّ عيون العلماء وأيديهم في الأعماق. تُجرَى مسوحات الجبال البحرية عادة من القاعدة إلى القمة، على طول خطوط مقطعية Transect lines محددة سلفاً، وتُصور خلال ذلك مجموعات من الموائل Habitat التي يمكن فحصها بدقة في وقت لاحق.
إضافةً إلى مسح وتصوير الموائل والبحث عن أنواع جديدة، يزور العلماء أيضاً الجبال البحرية للبحث عن جزيئات جديدة قد تلهمهم لصنع أدوية جديدة. تثبت الشعاب المرجانية والإسفنج في أعماق البحار أنها مفيدة بنحو خاص، لأنها تنتج مجموعة كبيرة من الدفاعات الكيميائية. يحصل العلماء على عينات من أنسجة الشعاب المرجانية والإسفنج، ثم يعزلون الجزيئات التي تنتجها الحيوانات والميكروبات التي تعيش داخلها ويحللونها. توفر العينات مختلف أنواع الجزيئات السامة المعقدة التي يُحتمَل أنها قد تستخدم لتطوير مضادات حيوية جديدة، إضافةً إلى علاجات للسرطانات ومسببات الأمراض Pathogens مثل السل والملاريا.
كما تحتفظ الشعاب المرجانية ذات العمر المديد بسجل للتغيرات التي طرأت على المحيط. وباستخراج آثار بعض المواد الكيميائية وقياس نسبة النظائر Isotopes، يمكن للعلماء تقدير درجة الحرارة ودرجة الحموضة pH والمغذيات في مياه البحر عندما نمت أجزاء مختلفة من المستعمرة المرجانية، بعضها قبل أكثر من 4,000 عام.

تأثير الجبل البحري
الجبال البحرية التي لا نعرف عنها سوى القليل هي تلك الموجودة في أعمق الأعماق تحت الماء، ومع ذلك، وكما تشير عالمة أحياء أعماق البحار د. أستريد لايتنر Astrid Leitner من معهد أبحاث خليج مونتيري للأحياء المائية Monterey Bay Aquarium Research Institute: “هذه في الواقع هي أكثر أنواع الجبال البحرية شيوعاً على كوكبنا”. في العام 2018، عندما كانت تعد رسالة الدكتوراه في جامعة هاواي في مانوا University of Hawai’i at Manoa، شاركت لايتنر في رحلة استكشافية لاستكشاف الجبال البحرية في المنطقة الوسطى من المحيط الهادئ وحققت اكتشافاً رائعاً: جبلاً بحرياً عميقاً جداً، ترتفع قمته 3,112 م تحت السطح. استخدمت لايتنر والفريق كاميرا مزودة بطُعم لدراسة الحيوانات المفترسة في القمة– وهي الأسماك بنحو رئيس- التي تصطاد في المنطقة وما كان يمكن أن تفوِّت وجبة مجانية يرميها لها العلماء.
عندما أحضرت الكاميرا إلى السطح بعد 24 ساعة، اعتقدت لايتنر أنها كانت معطوبة. بدت الصور المصغرة على جهاز حاسوبها سوداء. ولكن لدى تكبير اللقطات بالحجم الكامل، أدركت أنها كانت عبارة عن سرب من الأسماك بطول نصف متر، تسمى ثعبان الماء السفّاح Cutthroat eel. تقول: “كانت صدمة”. في إحدى اللقطات، أحصت 115 ثعبان ماء، وهي وفرة لم يُسمع بها من قبل لأي نوع سمكي في تلك الهاوية، حيث هناك نقص في الطعام وتكون الحيوانات المفترسة نادرة عادةً. وتضيف: “إذا قارنا ذلك بما رأيناه من قبل في أعماق البحار فسنجد أنها تفوقها جميعاً”.
وضعت لايتنر كاميرات مزودة بطعم على جبال بحرية عميقة أخرى ووجدت مزيداً من تجمعات ثعابين البحر، لكنها لم تر أياً منها في المناطق المحيطة، مما يشير إلى أنها مختصة بالجبال البحرية، وتُقدم دليلاً على أن ما يسمى “تأثير الجبل البحري” Seamount effect يمتد عميقا إلى الهاوية. إذ يبدو أن الجبال البحرية هي نقطة جذب للحياة البحرية، مع أن علماء أحياء أعماق البحار ما زالوا يحاولون تفسير السبب الدقيق وراء ذلك.
تستند إحدى النظريات إلى الطريقة التي تتسارع بها التيارات التي تتدفق فوق السهول السحيقة عندما تلتقي جبلاً بحرياً، وتضطر إلى الالتفاف حوله. تجلب التيارات الأسرع تياراً مستمراً من الجسيمات العالقة وعوالق البلانكتون التي تعيش عليها الحيوانات التي تتغذى بالترشيح Filter-feeding animals. ثم تشق هذه الحيوانات التي تتغذى عن طريق حقن الطعام طريقَها إلى أعلى السلسلة الغذائية فيمكنها أن تدعم في النهاية حيوانات مفترسة موجودة بكثافة عالية، مثل ثعبان الماء السفّاح. وتقر لايتنر: “ليس لدينا كثير من الأدلة على ذلك بعد… هذا أحد تخميناتنا”.

البحث عن الأسماك
بينما لا يزال العلماء يتقصون أسباب تأثير الجبل البحري، استفادت صناعات الصيد منه على مدى عقود. فعلى الجبال البحرية الضحلة التي تقع على بعد بضع مئات من الأمتار من السطح، تستهدف السفن التي تستخدم شباك الجر Trawlers صيدَ تجمعات الأسماك بما في ذلك أنواع تأتي إلى الجبال البحرية لتضع البيض.
في تسعينات القرن العشرين، ازدهرت مصايد سمك الهليبوت البرتقالي Orange roughy fisheries على الجبال البحرية في مختلف أنحاء العالم، ولكنها انهارت بسرعة عندما شقت شباكُ الجر طريقها عبر النظم الإيكولوجية المرجانية القديمة. تقول لايتنر: “الصيد بشباك الجر يترك ندوباً مروِّعة على هذه الجبال البحرية”. بعد عقود من مغادرة سفن الصيد، ما زال عديد من الجبال البحرية يُظهر علامات قليلة على تعافي النظام الإيكولوجي الحساس. وتقول: “إن أساس الموائل هو الأنواع المعمَّرة بطيئة النمو، لذا فإنها يمكن تدميرها بسرعة كبيرة، ولا تتعافى إلا ببطء شديد جداً”.
غيْرَ أن الجبال البحرية وأنظمتها الإيكولوجية صارت تحظى بالحماية تدريجياً من الصيد بشباك الجر، مثل تلك الموجودة داخل منطقة نصب باباهانوموكواكيا القومي البحري الذي وسَّعه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في العام 2016 ليشمل 1.5 مليون كم2 من المحيط الهادئ حول جزر هاواي الشمالية الغربية. والمفاوضات جارية في الأمم المتحدة من أجل صياغة معاهدة عالمية جديدة للمحيطات يمكن أن تسهل حماية الجبال البحرية في أعالي البحار، وهي تلك المناطق النائية من المحيط غير التابعة لأي دولة.
لا تقتصر فوائد الحماية على الأسماك المتوطنة والأنظمة الإيكولوجية للإسفنج والشعاب المرجانية، بل هي تفيدأيضاً أعداداً كبيرة من الحيوانات المهاجرة التي تلجأ إلى الجبال البحرية. تقول لايتنر: “هناك أسماك القرش والتونة والثدييات البحرية والسلاحف والطيور البحرية التي تعرف مكان هذه التضاريس”. قد يستخدم بعضها الجبال البحرية كأدوات ملاحية، فيما يأتي كثير منها ليتغذى عليها. تتوقف الحيتان الحدباء عند الجبال البحرية في أثناء هجراتها الموسمية، وربما تستخدمها كحلبة صوتية لمساعدتها على ترديد صدى أغانيها وبثها عبر المحيط.

سد الثغرات
حتى بين الجبال البحرية الضحلة التي تقترب من السطح، لا يزال هناك كثير لنتعلمه عنها، خاصة في المناطق التي زارها عدد قليل من العلماء. تقول وودال: “في الوقت الحالي، هناك تحيز في ما نفهمه عن الجبال البحرية”.
توجد الجبال البحرية التي نالت نصيباً أكبر من التقصي في المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، على مقربة من المراكز الرئيسة لأبحاث أعماق البحار في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية الشمالية ونيوزيلندا واليابان. تأمل وودال وفريق نيكتون الذهابَ في رحلة استكشافية إلى المحيط الهندي في العام 2022 لاستكشاف بعض الجبال التي لا يُعرف سوى القليل عنها. وتقول: “نحن نعرف القليل جداً عن الجبال البحرية الاستوائية… نحن لا نعرف شيئاً تقريباً عن بيولوجيا الجبال البحرية في المنطقة الواقعة شمال جزر سيشل”.
وبالتعاون مع شركاء البحث من دول غرب المحيط الهندي، سيستكشف فريق نيكتون الجبال البحرية التي يُعتقد أنها تشكل موائل مهمة لأسماك التونة المهاجرة التي تدعم الاقتصادات الإقليمية. وتخطط وودال للعمل مع علماء من معظم أنحاء المحيط الهندي ووضع الأسئلة البحثية المهمة للناس في المنطقة. وتقول: “في جزء من الخطة، سنستخدم مجموعة من المعدات بما في ذلك خيارات جديدة جداً ومنخفضة التكلفة حتى نتمكن معاً من إزالة بعض الحواجز التاريخية أمام إجراء أبحاث علمية في أعماق البحار”. مع إلقاء نظرة أعمق على الجبال البحرية، سيتمكن العلماء من أن يصلوا بين هذه النقاط الحيوية عبر المحيط.ش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى