الضربة الرأسية والخرف: هل يعرض لاعبو كرة القدم أنفسهم للخطر؟
كشفت دراسة جديدة أن لاعبي كرة القدم هم أكثر عرضة للموت بسبب أمراض الدماغ التنكسية من غير اللاعبين. ودعا لاعبو كرة قدم سابقون إلى فرض حظر على الضربة الرأسية Heading، وأعلن الاتحاد الأسكتلندي لكرة القدم في نوفمبر 2019 أنه يفكر في حظر ممارستها على الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 12 عاماً. ولكن ماذا تقول الأبحاث؟
في عام 1970، لعب جيف أستل Jeff Astle في منتخب إنجلترا في كأس العالم FIFA. وفي عام 2002 بعد معاناة مرضٍ دماغي من أمراض الخرف Dementia لعدة سنوات، توفي في منزل ابنته، في عمر 59 عاماً.
في وقت لاحق، كشف تحليل أجري في عام 2014 لدماغ أستل أنه عانى اعتلالاً دماغيّاً مزمناً Chronic traumatic encephalopathy (اختصاراً: الاعتلال CTE)، وهو مرض في المخ غالباً ما يظهر عند الملاكمين. وخلص جراح الأعصاب الذي أجرى الفحص، د. ويلي ستيوارت Willie Stewart، إلى أن الضربات الرأسية المتكررة التي أداها أستل هي التي تسببت بإصابته بالاعتلال الدماغي مُشبِّهاً أياها بالضربات القوية التي يتلقاها الملاكمون على رؤوسهم. الآن، صار ستيوارت جزءاً من فريقٍ كَشَفَ أن لاعبي كرة القدم المحترفين السابقين هم أكثر عرضة للإصابة بأحد أنواع الخرف بمقدار خمس مرات، وأكثر عرضةً للموت بسببه بثلاثة أضعاف ونصف مقارنةً بالأفراد العاديين.
ومنذ نشر النتائج في أكتوبر 2019 دعا اللاعبون السابقون ومشجعو كرة القدم إلى تغيير القواعد المتعلقة بإصابات الرأس وضربات الكرة الرأسية. وفي وقت كتابة هذا التقرير كان الاتحاد الأسكتلندي لكرة القدم Scottish Football Association يفكر في فرض حظر على الضربات الرأسية على الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 12 عاماً. لكن، هل يدعم العلم هذا؟
ونظرت دراسة ستيوارت في بيانات من أكثر من 7,000 لاعب محترف سابق و23,000 مشارك في التجربة المراقبة من الجمهور، مع تطابق تركيب العيِّنتين من حيث الجنس والعمر والطبقة الاجتماعية والاقتصادية. واستندت النتائج إلى معدلات الوفيات ووصفات الأدوية لعلاج أعراض الخرف. ومن بين 1,180 لاعب كرة قدم في دراستنا توفوا 222 منهم لسبب متعلق بمرض التنكس العصبي Neurodegenerative disease. ويوضح ستيوارت أن 228 عضواً من مجموعة التحكم Control group [من بين 23,000 شخص] ماتوا بسبب مرض تنكسي عصبي. و«بالنظر إلى أن عدد الأشخاص في مجموعة المراقبة كان ثلاثة أضعاف، توقعنا أن نرى ثلاثة أضعاف عدد الوفيات».
أجريت الدراسة لتحديد ما إذا كان لاعبو كرة القدم المحترفون أكثر عرضة لخطر الإصابة بالخرف والموت بسببه. لكن ضمن هذا، هناك عامل آخر مهم: هل ضربة الكرة الرأسية المسؤولة عن ذلك أم أنه التصادم بين اللاعبين؟ ويقول ستيوارت: «من الصعب تحديد ذلك من البيانات التي بين أيدينا… لا نعرف عدد الارتجاجات أو الصدمات الرأسية التي تعرض لها اللاعب. إنها ببساطة غير مُوثَْقة».
لمحاولة استخلاص استنتاج من البيانات، قارن الفريق بين لاعبي الميدان وحراس المرمى. يقول ستيوارت: «على الرغم من أننا شهدنا انخفاضاً في معدل الوفيات بين حراس المرمى مقارنة بغيرهم من لاعبي الميدان، إلا أننا لم نتمكن من الناحية الإحصائية من إثبات أن الأمر ليس مجرد مصادفة… لكن عندما نظرنا إلى الوصفات الطبية، كان حراس المرمى الذين وصف لهم عقار الخرف أقل من النصف؛ مما يعني ضمناً أن معدلات إصابة حارس المرمى بالخرف تبلغ نحو نصف معدلات إصابة اللاعبين الآخرين».
وفي الوقت الحالي، تقدر الأبحاث التي نظرت في أمراض الخرف في لاعبي كرة القدم والألعاب الرياضية الأخرى، كما يشير ستيوارت، إلى أن التعرض لإصابة في الرأس هو عامل الخطر الأكثر احتمالاً. وكانت هناك اقتراحات بأن الأرقام المرتفعة قد تكون مرتبطة بكمية المخدرات أو الكحول التي تعرِّض لها اللاعبون المحترفون.
ويقول ستيوارت: «هذه الحجج لا معنى لها… نحن نتحدث عن شيء مشترك بين الملاكمين ولاعبي كرة القدم الأمريكيين ولاعبي الرغبي Rugby ولاعبي كرة القدم والمصارعين وضحايا العنف المنزلي وحوادث المرور… ولا عامل خطر واحد مشترك يمكن إيجاده بين كل هؤلاء بخلاف إصابة الرأس».
الدماغ بعد الضربة الرأسية
كيف بالضبط تؤدي صدمة الرأس والارتجاج إلى الخرف؟ أمضت د. ماغدالينا يتسفارت Magdalena Ietswaart، وهي محاضرة رئيسية في علم النفس من جامعة ستيرلنغ University of Stirling، السنوات القليلة الماضية في البحث في ذلك.
وفي عام 2016 اكتشفت يتسفارت وفريقها أن هناك تغييرات يمكن التعرف عليها في الدماغ بعد ضرب الكرة بالرأس 20 مرة فقط. وتقول يتسفارت: «نعلم أن هناك صلة بين الضرر الدماغي الناجم عن رضِّة، مثل الارتجاج، والأضرار طويلة المدى».
لقياس مدى تأثر كيمياء الدماغ بالضربة الرأسية، فحصت يتسفارت وفريقها الوقت الذي استغرقته إشارة عصبية للانتقال من الدماغ إلى عضلة في الساق، مثلا. وجد الفريق أن التواصل بين الدماغ والعضلة تباطأ بعد فترة واحدة فقط من تدريب الضربات الرأسية.
تقول يتسفارت: «لقد وجدنا أيضاً تأثيرات في الذاكرة بعد الضربات الرأسية للكرة، وهذا أمر مثير للاهتمام». ويعلم العلماء أن هناك حاجة إلى كيمياء دماغية سليمة لعمليات اللدونة العصبية Processes of plasticity (أي قدرة الدماغ على التغيُّر والتكيُّف)، وهو أمر ضروري لأشياء مثل التعلم والذاكرة.
عادت مستويات التواصل لدى المشاركين من الدماغ إلى العضلات إلى طبيعتها بعد 24 ساعة، لكن يتسفارت تحذر من أن الآثار طويلة الأجل لا تزال مجهولة.
لقد واجهت الدراسة انتقادات من بعض الجهات، وتقول يتسفارت: «لقد قيل إن لاعبي كرة القدم قد يضربون الكرة برؤوسهم [خلال اللعبة] أقل بكثير الآن، لكن لا يوجد في العلم ما يشير إنهم سيكونون بخير إذا ضربوا عدداً أقل من الضربات الرأسية. بالمثل، قال البعض إننا ‘تمادينا’ لأنا جعلنا اللاعبين يضربون الكرة 20 مرة برؤوسهم. لكن هذا كان عدد المرات التي يمارس فيها لاعبو كرة القدم المحليون الضربات الرأسية أثناء التدريب. وليس هناك دليل إنه إذا ضربت الكرة برأسك عشر مرات، كل شيء سيكون على ما يرام».
تشارك يتسفارت مخاوف ستيوارت توجيه الناس اللوم إلى كرات القدم القديمة المصممة من الجلد، لأنه سيُعتقَد أن الكرة البلاستيكية الجديدة أكثر أماناً. لكن في الواقع، استخدمت دراسة يتسفارت عام 2016 الكرة الحديثة.
ويقول ستيوارت: «بالتأكيد ليس لدينا دليل على الإطلاق للقول إن أي شيء حدث في اللعبة خلال السنوات الـ 10 الماضية أو 20 عاماً أو أكثر، من شأنه أن يغير خطر إصابة لاعبي كرة القدم بأمراض التنكس العصبي… ما يقلقني هو أننا إذا افترضنا – في غياب أدلة أو بيانات تدعم ذلك – أن التكنولوجيا في اللعبة الحديثة قد تغيرت وأنه لم يعد هناك خطر، فقد نُعرِّض لاعبي كرة القدم لخطر الاستمرار مع ارتفاع فرصة الإصابة بالمرض».
ووفقاً لستيوارت، هناك حاجة إلى إدارة أفضل لإصابات الرأس في اللعبة الحديثة. «في هذا الصدد، لا توجد في لعبة كرة القدم تدابير كافية على الإطلاق. وإذا نظرت إلى لعبة الرغبي، مثلا: إذا كانت هناك إصابة مشتبه بها في الرأس، يخرج اللاعب من الملعب وتستمر متابعته لمدة تصل إلى عشر دقائق بجانب الملعب. وهذا لا يحدث في كرة القدم. قد يكون هناك بضع دقائق على الأقل مسموح بها في الملعب لتقييم الحالة، لكن هذا لا يكفي. إنها الإصابة نفسها. لكنها تُدار بطريقتين مختلفتين تماماً».
هل نحظر ضربة الرأس أم لا؟
فيما يتعلق بالحظر، يحجم الباحثان عن وصفه بأنه سيكون قراراً مستنيراً بالعلم. وتقول يتسفارت: «الحقيقة هي أننا لا نعرف ما إذا كان الدماغ في مرحلة النمو أكثر عرضة للخطر… نحن نعلم الآن أن الدماغ يستمر بالنمو حتى سن 23 عاماً. ولا سيما بين 14 و23 عاماً، يُربط تماماً بين الفصين الجبهويين في المخ. لا أحد يريد أن يعرف أن لاعبا في أوج عطائه لا يزال دماغه ينمو».
ويقول ستيوارت: «لقد كنا ندرس مجموعات من الشباب، واتضح أن الأطفال الأصغر – دون سن 14 عاماً – يضربون الكرة برأسهم أثناء المباراة… هل نُدرب الأطفال خلال الأسبوع على ضرب الكرة بالرأس بشكل متكرر، تحسباً لتلك المناسبة النادرة التي قد تتطلب توجيه ضربة رأسية خلال المباراة؟ لا أعتقد أنهم يخسرون أي شيء من اللعبة إذا قلنا إن الأطفال لن يضربوا الكرة برأسهم بعد الآن. لكن إذا تجاوزنا ذلك إلى البالغين والمحترفين… سنحتاج إلى الحصول على بعض (الأدلة) العلمية قبل والمضي قدماً في اتخاذ القرارات بشأن الضربات الرأسية».