الـــــــغــــــــــــــــــــــــــــرف الخفية في مقبرة توت عنخ آمون
اكتُشفت مقبرة توت عنخ آمون قبل أكثر من قرن. ولكن حتى اليوم ما زال الجدل محتدماً حول ما إذا كانت تحتوي على غرف غير مكتشفة. هنا، لدينا عالم مصريات يضع حداً لتلك الشائعات... أو يغلق بالأحرى عليها باب نعشها.
في 26 نوفمبر 2022، كانت قد مرّت 100 عام منذ أن نظر هوارد كارتر Howard Carter من خلال ثقب في المدخل الذي يقود إلى غرف دفن توت عنخ آمون Tutankhamun ورأى ما وصفه بأنه ”أشياء رائعة“؛ ليتبين أنه كان أحد أعظم الاكتشافات الأثرية على مر العصور.
قبل أن يكتشف كارتر المقبرة في نوفمبر 1922، كان توت عنخ آمون فرعوناً غامضاً، ولكن أبعد عن أن يكون غير معروف. عُرف عنه أنه بدأ حياته باسم توت عنخ آتون Tutankhaten وتزوج من عنخسن باتن Ankhesenpaaten، الابنة الثالثة لمن سُمي ”الفرعون المهرطق“ أخناتون Akhenaten والملكة نفرتيتي Nefertiti، وحكم فترة وجيزة بهذا الاسم في مدينة أخيت آتون Akhet-Aten (العمارنة الحديثة، في منتصف الطريق تقريباً بين القاهرة والأقصر). أسس إخناتون هذه المدينة تكريماً لإله واحد، هو آتون. عنى هذا التخلي عن عبادة آلهة متعددة في مصر القديمة برئاسة ”ملك الآلهة“ آمون رع.
ولكن، بعد بضع سنوات، غير توت عنخ آمون اسمه إجلالاً للإله آمون، وعاد إلى الديانة القديمة (تغير اسم ملكته إلى عنخسن آمون في الوقت نفسه). كان معروفاً أنه حكم مدة تسع سنوات تقريباً. ولكن ارتباطه بما اعتبروه حينها النظام المهرطق يعني أن الملوك اللاحقين استبعدوا اسمه من قوائم الملوك وأزالوه من فوق المعالم الأثرية.
كان كارتر واثقاً بأن قبر توت عنخ آمون موجود في وادي الملوك (في الأقصر، في صعيد مصر)، ففيه عُثر على مخبأ للمواد المتبقية من جنازة الملك في العام 1907. لقد كان محقاً بالطبع، فقد حُفظت تحت طبقة سميكة من رواسب الطمي الصلبة.
كان كارتر مُجداً ودقيقاً في عمله وسجَّل موقع كل شيء في المقبرة على المخططات والرسومات، ومن خلال الألواح الزجاجية السلبية المفصلة بدقة للصور التي التقطها هاري بيرتون Harry Burton. في مرحلة ما من تاريخها، تأثرت المقبرة بالرطوبة، مما أدى إلى ظهور بقع العفن التي نراها تشوه اللوحات الجدارية في غرفة الدفن. كما سببت الرطوبة حدوث كثير من الالتواء والتلف في المشغولات الخشبية، وأدت إلى إذابة المواد اللاصقة، مما أدى إلى تفكك عديد منها. اضطلع فريق الترميم الذي استعان به كارتر، بقيادة آرثر ميْس Arthur Mace وألفريد لوكاس Alfred Lucas، بعمل رائع لحفظ الكنوز التي تثير فينا الدهشة حالياً. في المجموع فقد أقل من ربع من %1 من محتويات المقبرة.
وحالياً، بعد 100 عام، يجري ترميم القطع الأثرية باستخدام أحدث الطرق استعداداً لافتتاح المتحف المصري الكبير في الجيزة، بمصر.
في الواقع، يُعتقد أن الحجرة الرقم KV62 كانت مُعدة في الأصل لأن تكون مكان الراحة الأخير لأحد كبار رجال البلاط، قبل أن يجري تعديلها بسرعة وترتيبها لإيواء الملك الفتى المتوفَّى قبل الأوان.
قد تكون الكنوز معروضة حالياً في المتاحف، لكن قصة اكتشافها المذهلة جذبت حرفياً ملايين الزوّار للوقوف في المقبرة على مر السنين. ونظراً إلى الأثر الذي تركه هؤلاء الزوار على اللوحات الجدارية من خلال أنفاسهم وعرقهم والغبار الذي جلبوه معهم، استدعت الحاجة إلى بناء نسخة طبق الأصل دقيقة لغرفة الدفن، ليُتاح إغلاق المقبرة الأصلية بنمط دوري. لإعادة إنشاء المقبرة مسحت شركة Factum Arte، ومقرها في مدريد، أسطحَ الجدران بكل تفاصيلها الدقيقة سواء في شكل صور ثلاثية الأبعاد أو تلك الملونة. وفي وقت مبكر من العام 2014، أمكن إتاحة النتائج عبر الإنترنت، فيمكن رؤيتها بالألوان أو بشكل بارز، وفحصها بالتفصيل الدقيق باستخدام خاصية التكبير والتصغير.
كان الفحص الدقيق للصور ثلاثية الأبعاد هو الذي دفع عالم المصريات د. نيكولاس ريفز Nicholas Reeves إلى نشر ورقة بحثية في أبريل 2015 تشير إلى أن جدران غرفة الدفن كانت تخفي غرفاً سرية. وشرح أنه على الجدار الغربي هناك خطوط خافتة تشير إلى وجود مدخل مغلق، وفي الجدار الشمالي الرئيس ما زالت آثار باهتة لجدار فاصل به مدخل خدمة في الوسط. كان هذا الاكتشاف استثنائياً بما فيه الكفاية، ولكن ما أحدث ضجة كبيرة حقاً هو قوله إن الملكة الجميلة نفرتيتي مدفونة في غرفة خفية خلفها. حظيت القصة بتغطية إعلامية واسعة، وشعر كثيرون في مجتمع علم المصريات بأنها كانت شديدة الروعة إلى درجة يصعب تصديقها.
يتفق الخبراء في الوقت الحالي على أن نفرتيتي حكمت فترة وجيزة بصفتها الملك نفرنفرو آتون Neferneferuaten (وهو ملحق للاسم الذي استخدمته عندما كانت ملكة) كوصية، ربما لإخناتون، أو للفتى توت عنخ آمون. استند ريفز في قوله بأنها مدفونة خلف الجدار الشمالي إلى إعادة التعرف على صور توت عنخ آمون على أنها صور نفرتيتي، وشخصية خليفته، آي Ay (الذي يظهر وهو يؤدي طقس ”فتح فم“ توت عنخ آمون)، على أنه توت عنخ آمون نفسه.
”قصة الاكتشاف المذهلة جذبت حرفياً ملايين الزوّار للوقوف في المقبرة“
داخل المقبرة
يُذهل كل من يزور مقبرة توت عنخ آمون (المرقمة KV62) من صغر حجمها – لا سيما عند مقارنتها بالمقابر الملكية الضخمة مثل مقبرة رمسيس السادس المجاورة لها.
اعتمد ريفز لدعم إعادة التعريف هذه على فحص طبقات الطلاء والجص الذي أجراه فريق الحفظ Getty Conservation الذي شارك في أعمال التنظيف والترميم. كشف الفحص أنه في حين اختلفت الجدران الأربعة في بعض النواحي، بينت بعض الدلالات أن الجدار الشمالي أُعيد تشكيله. لون الخلفية الأصفر الذي شوهد على الجدران الأخرى لم يُملأ في هذه الحالة إلا حول الأشكال البشرية فيما بعد – القاعدة الأصلية كانت بيضاء.
من بين ”المدخلين“، المدخل الموجود في الجدار الغربي هو الأكثر إقناعاً، والعلامةُ الأكثر وضوحاً في الجدار الشمالي هي وجود صدع كبير في الصخر على يسار الوسط قليلاً مع بعض الترميمات المصاحبة. يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن عمليات المسح ثلاثية الأبعاد حساسة جداً إلى درجة أنها تظهر سمك الطلاء الذي يحدد الأشكال، وهناك كثير من الخطوط الأخرى على الجدران.
الحفر أعمق
كانت هناك دعوة عالمية تقريباً لمسح الجدران لتسوية مسألة ما إذا كانت هناك غرف خفية. أجرى هيروكاتسو واتانابي Hirokatsu Watanabe، زميل ريفز، باستخدام معدات قديمة ومخصصة لهذا النوع من الفحص، عمليات مسح برادار استكشاف باطن الأرض Ground Penetrating Radar (اختصاراً: الرادار GPR) لجدران حجرة الدفن في أواخر نوفمبر 2015. لم تُنشر رسمياً النتائج التي توصل إليها على الإطلاق، وقوبلت البيانات الصحافية الأولية ببعض الشك لأن واتانابي لم يزعم أنه عثر على فراغات فحسب، بل زعم أيضاً أن هذه الفراغات تحتوي على مواد معدنية وعضوية – وهو أمر أشار عديد من الخبراء إلى أنه يتجاوز قدرات الرادار GPR. ما لم يلاحَظْ في ذلك الوقت هو أن كلاً من الفراغات والمواد الموجودة بداخلها يُفترض أنه عثر عليها ممتدة إلى مناطق لم يتنبأ بها ريفز.
على الرغم من نَيله تأييدَ ممدوح الدماطي الذي كان وزير الآثار المصري في ذلك الوقت، فإن عمليات المسح التي أتيح للصحافة نشرُها أثارت ردود فعل سلبية من الخبراء. في مارس 2016، صرح دين غودمان Dean Goodman الذي طور برنامج GPR-SLICE: ”لو كان لدينا فراغ، لحصلنا على انعكاس قوي، لكنه غير موجود“.
في مارس 2016 أيضاً سمح وزير الآثار الجديد، خالد العناني، بإجراء مجموعة ثانية من عمليات المسح نفذها إريك بيركينباس Eric Berkenpas وآلان تركشيك Alan Turchik لمصلحة الجمعية الجغرافية الوطنية National Geographic Society. كانت هذه العمليات أكثر شمولاً. أولاً عمَدا إلى مسح جدار به فراغ معروف خلفه لاستخدامه كنموذج، وأجريا 40 مسحاً بترددات منخفضة وعالية، وعلى ارتفاعات مختلفة. تسلمت مصلحة الآثار تقريراً بالنتائج وأعلنت رسمياً في مايو أنه لم يُعثر على فراغات.
في فبراير 2018، أشرف فرانشيسكو بورسيلي Francesco Porcelli من جامعة البوليتكنيك في تورينو Polytechnic University of Turin على المجموعة الأكثر شمولاً من فحوص GPR حتى ذلك الوقت. بعد التأكد أولاً من أنه يمكنهم التقاط غرف أخرى من خلال الصخر، استُخدمت ثلاثة أنظمة GPR بترددات من 150 ميغاهرتز إلى 3000 ميغاهرتز واستُخدمت عينات مكانية كثيفة. لكن لم يُعثَر على شيء.
وخلص الفريق إلى أن ”وجود غرف أو ممرات مُخفاة بجوار مقبرة توت عنخ آمون لا تدعمه بيانات الرادار GPR“.
ولكن المقاومة الكهربائية وعمليات المسح بالحث المغناطيسي التي أمكن إجراؤها من سطح الأرض المحيطة التقطت بعض الحالات الشاذة الضحلة التي تفصلها بعض الأمتار عن مقبرة توت عنخ آمون. وبعد جهد مماثل عثرت شركة Terravision Exploration البريطانية على شذوذ ”يشبه الممر“، يبلغ ارتفاعه نحو مترين وطوله 10 أمتار، ويمتد إلى الشمال ويتوازى مع ممر المدخل المؤدي إلى KV62. هناك بعض الشكوك في أن نظام شفط الهواء في القبر يؤدي إلى قراءة خاطئة هنا. ولكن من غير المرجح أن يكشف فراغٌ مثل هذا عن مدفن مخصص لنفرتيتي.
في العام 2019 حاول ريفز إحياء فكرته بنشر ورقة بحثية جديدة ضمنها إعادة تقييم لبيانات مسح الجمعية الجغرافية الوطنية NGS أجراه جورج بالارد George Ballard من شركة Geotechnics الذي قال إنه يعتقد أنه يرى دليلاً على ممر ممتلئ بالأنقاض خلف الجدار الشمالي. ولكن إذا كان هناك جدار خلفه أنقاض، فقد يدل هذا ببساطة على عمل توقف عند وفاة الفرعون. ولو أن نفرتيتي دُفنت من قبل في المدفن KV62، فمن المحتمل أنها كانت ترقد حيث عثر على توت عنخ آمون لاحقاً. نعلم أنه أخذ مشغولات من جهاز جنازتها لنفسه، بما في ذلك ربما التابوت الحجري، لذلك قد يكون اضطلع ببساطة بإزاحتها.
بينما يرى معظم الناس أن المسألة حُسمت، لا يزال هناك من يطالبون بمجرد أن ”يُحفر ثقب“ في الجدار. وهم يقترحون حفر ثقب يؤدي إلى المنطقة الموجودة خلف الجدار الشمالي من غرفة الخِزانة المجاورة. وإذا فشل هذا الثقب في إظهار أي شيء، فسيقولون ببساطة: ”نحفر آخر…“.
تسلسل زمني لمقبرة توت عنخ آمون (KV62)
1323 ق. م
مات توت عنخ آمون ودُفن في وادي الملوك.
26 نوفمبر 1922
هوارد كارتر نظر إلى داخل KV62 ورأى “أشياء رائعة”.
16 فبراير 1923
فتح كارتر حجرة الدفن KV62 (والخِزانة المجاورة).
ربيع العام 1932
حفظ آخر العناصر من KV62 وإرسالها إلى المتحف المصري بالقاهرة.
مارس- مايو 2009
شركة Factum Arte تجري مسحاً رقمياً ثلاثي الأبعاد لرسوم غرفة الدفن والتابوت.
2009
بدأ معهد Getty Conservation في أعمال التنظيف والصيانة، وكشف عن أدلة على الاختلافات في تسلسل الجص والطلاء، في كل من الجدران الأربعة لغرفة الدفن.
أبريل 2015
نيكولاس ريفز يُصدر ورقته “هل هو مدفن نفرتيتي؟”
26-27 نوفمبر 2015
بعد إجراء مسح، زعم هيروكاتسو واتانابي وجود فراغات في الجدران.
مارس 2016
الجمعية الجغرافية الوطنية تُجري عمليات مسح ولا تعثر على فراغات.
فبراير 2018
مسح مكثف بالتكنولوجيا المتطورة بقيادة فرانشيسكو بورسيلي لا يجد فراغات.
2019
نيكولاس ريفز يصدر “مدفن نفرتيتي الثاني”.
2020
Terravision تُجري مسحاً بالقرب من KV62، وتعثر على شذوذ يشبه الممر.
ديلان بيكرستاف DYLAN BICKERSTAFFE
ديلان عالم مصريات ومحاضر وكاتب ويهتم، على نحو خاص، بالمومياوات الملكية