أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقالات رئيسيةمهمة آرتشيس

المحطة الـــــتـــــــــــــــــــالية: القمر

إذا أردنا المضي قُدُماً في استكشاف المجموعة الشمسية، فسنحتاج إلى روبوتات مستقلة لمساعدتنا على ذلك. هذا هو سبب اختبار العلماء قدراتِ روبوتات مستقبلية على المناورة فوق تضاريس جبل إتنا الشبيهة بسطح القمر.

روبوتات مستقلة
”مركبة الهبوط“ الثابتة المركزية فوق الحمم البركانية لجبل إتنا. تحمل مركبة الهبوط أدوات وحاويات تحتاج إليها العربتان الجوالتان

كل من تابع الجهود الرامية لاستكشاف كواكب أخرى خلال العقود القليلة الماضية سيدرك أهمية الروبوتات. إنها عيوننا وآذاننا الميكانيكية في عوالم بعيدة، وقد سمحت لنا برؤية أماكن كانت ستبقى يكتنفها الغموض لولا ذلك. ربما كان هذا هو السبب في أن هبوط كل مركبة فضائية تابعة لناسا على المريخ يجتذب ملايين المشاهدين عبر الإنترنت.

ولكن في الآونة الأخيرة، ركزت معظم العناوين الرئيسة على عودة البشر الوشيكة إلى القمر. إذن، مع خوض البشر مغامرات جديدة وأبعد في الفضاء، هل ستبدأ أهمية المستكشفين الروبوتيين تتلاشى؟

لا، على الإطلاق. الحقيقة هي أن المستكشفين الروبوتيين في طور أن يصيروا أكثر أهمية من أي وقت مضى. يقول البروفيسور ألين ألبو شيْفر Alin Albu-Schäffer من معهد الروبوتات والميكاترونيكس Institute of Robotics and Mechatronics في مركز الفضاء الألماني German Aerospace Center بميونيخ: ”في المجموعة الشمسية أماكنُ لا يمكننا إرسال بشر إليها مثل كوكب الزهرة، على سبيل المثال، أو بعض أقمار المشتري أو زحل… إنها بعيدة جداً ومعادية جداً للبشر. لذا، كما تعلمون، ستكون الروبوتات مهمة جداً“.

ولن تجد الروبوتات غايتها في هذه الأماكن النائية فقط. يقول ألبو شيْفر: ”قبل أن نرسل بشراً إلى سطح المريخ، ستكون لدينا روبوتات تضطلع بإعداد البنية التحتية“. من شبه المؤكد أن الروبوتات ستساعد رواد الفضاء على بناء قواعد قمرية أيضاً.

الروبوتات في الفضاء

روبوتات مستقلة
تلتقط الوحدة الجوالة 2 خفيفة الوزن (LRU2) عينة صخرية من السطح وتضعها في صندوق النقل. يمكن للعربة استخدام أدوات مختلفة تحصل عليها من مركبة الهبوط، ثم تعيدها بعد الاستخدام

ألبو شيْفر عضو في مشروع تقوده ألمانيا يُسمى المشروع أرتشيس ARCHES. وهو اختصار لعبارة الشبكات الروبوتية المستقلة لمساعدة المجتمعات الحديثة Autonomous Robotic Networks to Help Modern Societies، يجمع أرتشيس فريقاً من الخبراء من اثنين من مراكز أبحاث هيلمهولتز Helmholtz Research Centres الألمانية هما مركز الفضاء الألماني German Aerospace Centre (اختصاراً: المركز DLR)، ومعهد كارلسروه للتكنولوجيا Karlsruhe Institute of Technology (اختصاراً: المعهد KIT)، إضافةً إلى وكالة الفضاء الأوروبية European Space Agency (اختصاراً: الوكالة ESA)، من أجل تطوير شبكات من الأنظمة الروبوتية المتعاونة معاً لاستكشاف التضاريس الكواكبية.

بدلاً من مبعوثين مستقلين ينتظرون الأوامر من مشغلين على الأرض، ستعمل روبوتات الكواكب المستقبلية ضمن فرق، وتتواصل بعضها مع بعض عن طريق أدمغتها الاصطناعية، وتحل المشكلات وتحقق الأهداف. ولاختبار مثل هذا النظام الشبكي، أكمل ألبو شيْفر وآخرون أخيراً ”مهمة تناظرية“ Analogue mission على منحدرات جبل إتنا Mount Etna، في صقلية.

روبوتات مستقلة
مركبة الهبوط جنباً إلى جنب مع الوحدة الجوالة خفيفة الوزن 1 (LRU1). تقيِّم المركبة LRU1 العينات باستخدام كاميراتها

يُعد البركان بديلاً جيداً للقمر بفضل تضاريسه الطبيعية المقفرة التي تغطيها مواد سطحية دقيقة وحبيبية وتدفقات حمم متصلبة. وقد استُخدم في السابق لإجراء مثل هذه الاختبارات. انطلقت بعثة استكشافية سابقة من هيلمهولتز إلى المنحدرات في العام 2017. واختبرت بعثة الاستكشاف الروبوتية في ظل الظروف القصوى Robotic Exploration Under Extreme Conditions (اختصاراً: البعثة ROBEX) تقنيات جديدة ومبتكرة لتبادل الطاقة ونقل البيانات والعمل وفق أكبر قدر ممكن من الاستقلالية. وقد أظهرت أنه يمكن استخدام هذه التقنيات في بعثات الاستكشاف المستقبلية، إذ يبني المشروع أرتشيس حالياً على هذه النتائج، ويعمل على تنقيحها.

أنجزت مهمة أرتشيس التناظرية في الفترة من 13 يونيو إلى 9 يوليو 2022. ونُفذت خلالها ثلاثة سيناريوهات مختلفة. في السيناريو الأول، المسمى GEO I، اضطلعت عربتان جوالتان (LRU1 و LRU2) وطائرة من دون طيار باستكشاف منطقة من التضاريس باستخدام أكبر قدر ممكن من الاستقلالية. مسحت الطائرة المُسيرة المنطقة من السماء ووضعت خريطة لها، في حين تجولت المركبتان الجوالتان وأجرتا فحوصاً علمية. زوَّدت ”مركبة هبوط“ مركزية ثابتة بالطاقة المركبتين الجوالتين وعملت بمنزلة محطة Wi-Fi، مما سمح لها بالتواصل بعضها مع بعض.

يقول ألبو-شيْفر: ”إذا عَلِقت العربة الجوالة بسبب بعض الصخور الأكبر حجماً، على سبيل المثال، فسيقوم نظام الطيران بمسح المنطقة والتعرف على الممرات التي يمكن للمركبة أن تمرَّ بها“. ثم تتبادل المُسيَّرة تلك البيانات مع العربة الجوالة، حتى تتمكن من إعادة تخطيط مسارها.

”مسحت الطائرة المُسيَّرة المنطقةَ من السماء ووضعت خريطة لها، في حين تجولت المركبتان الجوالتان وأجرتا فحوصاً علمية“

المركبة LRU2 تتدحرج عبر منحدرات جبل إتنا

تابَع مركزُ تحكُّم في مدينة كاتانيا القريبة تقدُّمَ الروبوتات، ولكن، بقدر الإمكان، اتخذت المركبات الجوالة قراراتِها الخاصة باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد مكان وضع المعدات العلمية، وأخذ عينات من التربة، وإجراء فحوص جيولوجية أخرى.

على المريخ أو القمر، ستستخدم هذه النتائج لتحديد المناطق التي تُعَد أفضل أماكن لهبوط البعثات البشرية. على سبيل المثال يمكن أن تكشف البيانات عن أماكن للعثور على المياه، أو موقع أفضل المواد التي يمكن بفضلها صنع مواد البناء أو الأجزاء المطبوعة ثلاثية الأبعاد. عملية البناء هذه واستخراج الموارد من شأنها أن تقلل على نحو كبير من تكلفة البعثات البشرية، إذ لا تعود هناك حاجة إلى جلب كل هذه الأشياء من الأرض.

مراقبة البعثة

في السيناريو الثاني، GEO II، انضمت مركبتان جوالتان أخريان إلى الشبكة DLR. إحداهما كانت المركبة الجوالة (تفاعل) Interact التي صممها مختبر تفاعل الإنسان والروبوت التابع للوكالة إيسا. تُدار هذه العربة الجوالة ذات الأربع عجلات من بُعد، وصُممت لتكون لديها يد روبوتية. المركبة الأخرى كانت زاحفة تشبه أم أربعة وأربعين، قدّمها المعهد KIT. نظام الزحف الجديد الذي قامت عليه يعني أنها يمكن أن تتعامل مع تضاريس أكثر صعوبة من المركبات ذات العجلات. كما كانت بمنزلة مُرحِّل اتصالات C communications relay بين مركبة الهبوط ومركبة الوكالة إيسا الجوالة، مما وسَّع مدى حركة الأخيرة.

ويرنر فريدل Werner Friedl وبرنهارد فودرماير من فريق أرتشيس مع المركبة LRU2

على مدى أربعة أيام اختارت مركبة الوكالة ESA الجوالة عينات من الصخور وسلمتها إلى مركبة الهبوط. ويتحكم في العربة الجوالة Interact من بُعد عامل بشري هو رائد فضاء الوكالة إيسا توماس رايتر Thomas Reiter الذي كان متمركزاً في كاتانيا، على بعد نحو 23 كيلومتراً (14 ميلاً) من جبل إتنا.

يحاكي هذا الإعداد فكرة وجود رائد فضاء في محطة البوابة Gateway station (سيجري بناؤها في مدار حول القمر)، يضطلع بتشغيل مركبة على سطح القمر. لزيادة تعزيز المحاكاة وإعطاء الإحساس بوجود تحكم في المهمة على الأرض، قام مركز عمليات الفضاء الأوروبي European Space Operations Centre التابع للوكالة إيساس في دارمشتات بألمانيا بمراقبة وتنسيق عمليات المسبار مع رايتر في صقلية.

يقول شيتل ورمنيس Kjetil Wormnes، مدير مشروع الوكالة إيسا للمهمة التناظرية: ”مهمةُ محاكاة مثل هذه هي في الأساس لعبة أدوار، من المهم جداً فيها أن يختبر اللاعبون المشاركون الانغماس الكامل“.

لتحقيق أقصى قدر من الانغماس، عمد الفريق إلى تصميم تأخير زمني مدته ثانية واحدة في الإشارة من رايتر إلى العربة الجوالة، وهو التأخير نفسه الذي يتوقعونه بين محطة البوابة وسطح القمر.

”مهمة محاكاةٍ مثل هذه هي في الأساس لعبة أدوار، من المهم جداً فيها أن يختبر اللاعبون المشاركون الانغماس الكامل“

كان الاهتمام بالتفاصيل يستحق كل هذا العناء. يقول ورمنيس: ”لقد كان إعداداً صعباً، لكن الأنظمة عملت بنحو جيد جداً وتعلمنا كثيراً عن تشغيل مركبة على سطح القمر يمكن أن تساعدنا عندما نفعل ذلك على أرض الواقع في المستقبل“.

برنهارد فودرماير
Bernhard Vodermayer وريكاردو جوبيلاتو
Riccardo Giubilato من فريق أرتشيس يعملان
على المركبة LRU1

كان السيناريو الأخير يسمى LOFAR، وفيه عملت المركبات الجوالة معاً لوضع أربعة أجهزة استقبال لاسلكية منخفضة التردد في المواضع المُثلى لإنشاء مصفوفةArray. لم تكن أجهزة الاستقبال مجرد دمى، بل نماذج عاملة. بعد نشر أجهزة الاستقبال استخدمها علماء الفلك في كاتانيا لرصد كوكب المشتري. حتى إنهم التقطوا انفجاراً راديوياً في أثناء مرور القمر آيو Io عبر المجال المغناطيسي للكوكب.

يحلم علماء الفلك منذ وقت طويل ببناء تلسكوب لاسلكي كبير على الجانب الآخر من القمر، حيث سيظل بمنأى من ضجيج محطات الراديو الأرضية. ولكن للاضطلاع بذلك في مكان لا يوجد فيه اتصال مباشر مع الأرض سيتطلب روبوتات آلية ورواد فضاء في مدار القمر للإشراف على البناء.

إجمالاً شارك 50 شخصاً من المؤسسات المختلفة في التجارب. نتيجةً لذلك صار بناء الفريق جانباً آخر من جوانب النجاح. يقول ألبو-شيْفر: ”كان هناك كثير من العمل على بناء الفريق. كان لدينا كل هؤلاء الأشخاص يعملون معاً ويبنون اللبنات الأساسية لمثل هذه المهام الفضائية. لذا أعتقد أن تنفيذ هذه الحملة مع الباحثين مدة أربعة أسابيع هناك على الجبل كان لا يُقدر بثمن“.

تمتد نقاط التقدم التي حققها مشروع أرتشيس إلى ما هو أبعد من استكشاف الفضاء. يمكن لها أيضاً المساعدة في مجال الاستكشاف الروبوتي لبيئات أعماق البحار على الأرض، وفي الأماكن التي يكون من الخطير جداً على البشر العمل فيها، على سبيل المثال تفكيك محطات الطاقة النووية، أو فحص المباني المتضررة بعد وقوع كارثة.

”يحلم علماء الفلك منذ وقت طويل ببناء تلسكوب لاسلكي كبير على الجانب الآخر من القمر“

د. ستيوارت كلارك (@DrStuClark)
ستيوارت كاتب في مجال الفضاء والفيزياء الفلكية. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان تحت جنح الليل Beneath The Night (منشورات: Guardian Faber)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى