تعرَّفْ على بنَّائي عالم الحيوان
نظن - نحن البشر - أننا نتمتع بذكاء ثاقب لأننا بنينا ناطحات سحاب ضخمة ومعقدة مثل برجي غيركين GherKin وشارد SHARD في لندن، ولكن هذه الحيوانات المقدامة يمكنها بناء عمارات ذكية من تصميمها... حتى أن بعضها يحتوي على مكيِّف للهواء.
جسور حية
تنشر طوابير من جيش من النمل أجسادها لتشكيل جسور حية حتى تتمكن زميلاتها من العاملات Workers من النمل من عبور الفجوات بسرعة. يتكون الجسر مما يصل إلى 50 نملةً، وقد تحتوي المستعمرة الواحدة على 40 أو 50 جسراً قيد الاستخدام في أي وقت. توصل المختصون بدراسة النمل Myrmecologists في مختبر سوارم لاب Swarm Lab التابع لمعهد نيو جيرسي للتكنولوجيا New Jersey Institute of Technology إلى قاعدة بسيطة تحكم هذا السلوك. يبقى النمل في الجسر فقط إذا شعر بأعداد كافية من النملات الأخرى تندفع فوق ظهوره. لتبرير استثمار هذا القدر من العمالة، يجب أن يكون الجسر مفيداً في اختصار المسافات. فإذا عبر عدد أقل من النمل فوقها، فإنها ستفهم أن تشكيل الجسر لا يستحق العناء المبذول، ومن الأفضل للمستعمرة أن يسلك النمل الطريق الأطول ويلتف حول ما يشكل عائقاً أمامه.
لُفافة
في العام 2010، وبعد هطول الأمطار الموسمية، شوهد عدد لا يحصى من الأشجار في باكستان ملفوفاً بشباك من حرير. يُعتقد أن مياه الفيضان أجبرت ملايين العناكب على اللجوء إلى الأشجار حيث نسجت هذه الشبكات الشبيهة بحجاب التف حول الأغصان. على الرغم من أن هوية العناكب في هذه الصورة غير معروفة، فإن بعض الأنواع يُعرف عنها أنها تتجمع في شبكات معقدة، غالباً ما تشبه الأراجيح أو الأغطية الكبيرة الحجم. تعيش العناكب بمفردها كقاعدة عامة، لكن بعضها – ومعظمها صغير ويعيش في المناطق الاستوائية – يُظهر درجات متفاوتة من السلوك الاجتماعي. تمكن الشبكات الاجتماعية العناكب من اصطياد فريسة أكبر بكثير، وتتشارك مهامَّ غزل الشباك والحفاظ على بنيتها، وهذا يستنزف كثيراً من الطاقة. من حين إلى آخر تظهر شبكات ضخمة تغطي عدة مئات من الأمتار المربعة بالحرير، ربما لأن وفرة فائضة من الفرائس سببت تكاثر العناكب المحلية بأعداد هائلة.
عجلات الحظ
عندما اكتُشفت أولَ مرة في العام 1995 بالقرب من جزيرة أمامي اليابانية، كانت “دوائر المحاصيل” Crop circles هذه المبنية تحت سطح البحر لغزاً محيِّراً. هل بنتها الحيوانات أو التيارات أو شيء آخر؟ بعد أكثر من 15 عاماً، اكتشف الغواصون نحَّات قاع البحر: إنها سمكة منتفخة صغيرة (Torquigener albomaculosus) تعرف عليها العلماء حديثاً. يستغرق الذكر نحو أسبوع لتصميم عش بعرض مترين يبدو أمامه قزماً لطوله البالغ 12 سم. فهو يحرث الرواسب بزعانفه وذيله ويتحرك بسرعة لبناء قمم وأحواض متناظرة. ثم ينظف المدرج الرملي من أي فضلات، ويرمي بقايا الأعشاب البحرية أو المَرجان خارجه. فإذا أغرت أعمالُه أنثى، يجتمع الزوجان لوضع البيض في الوسط، ولكن في اللحظة التي يفقس فيها البيض، يترك الذكر العش ليبدأ من جديد. في كتابها عين على مجموعات الأسماك Eye Of The Shoal، تقترح عالمة الأحياء البحرية د. هيلين سكيْلز Helen Scales أن المنحوتة يمكن أن تكون بقعة ناعمة مثالية للبيض النامي، في حين توجِّه الأخاديد المياهَ الغنية بالأكسجين إلى المركز.
أناقة حشرة
يُحتمل أن يكون ذباب القمص Caddisflies أول مهندس معماري بين الحيوانات. أعاد العلماء تاريخ أحافير العلب الصغيرة الأنيقة التي بنتها يرقاتها المائية إلى العصر الجوراسي المبكر (وربما قبل ذلك)، قبل ظهور الحشرات أو الطيور الاجتماعية على الأرض. تشبه يرقات Larvae ذبابة القمص يرقات غريبة مائية تعيش في قاع الجداول والبرك، وعديد منها تصنع أنابيب – ليست أكثر سمكاً من قلم رصاص – تعيش فيها. هذه العلب التي تصنعها من حبيبات الرمل، وشذرات من الأغصان أو الأوراق، وأصداف الحلزون وأي حطام آخر في متناولها، تحمي أجساد اليرقات الناعمة من تيارات المياه المضطربة ومن الحيوانات المفترسة مثل الأسماك. تخرج اليرقات وتبني حاويات جديدة في أثناء نموها – معظمها تبني خمس علب في خلال سنة أو سنتين – قبل أن تغادر الماء أخيراً كبالغات Adults مجنحة قصيرة العمر. اشتهر الفنان الفرنسي أوبير دوبرا Hubert Duprat بإعطاء اليرقات أوراقاً ذهبية وقطعاً من الأحجار الكريمة لتصنع منها أنابيب مرصعة جميلة.
كسوة عمود
الحبَّاك Weaver طائر يشبه العصفور يُشتهر بأعشاشه الرائعة المصنوعة من خيوط معقودة من العشب الجاف. معظم هذه الطيور تحبك أعشاشاً كروية أو بيضاوية الشكل، وتزودها أحياناً بمدخل أنبوبي لحمايتها من الحيوانات المفترسة. لكن الطيور الحائكة الاجتماعية التي تعيش في إفريقيا الجنوبية، تبني عشاً جماعياً عملاقاً ينتهي به الأمر بأن يغمر شجرته (أو عمود التلغراف، مثل الذي في الصورة). تدوم بعض هذه الأعشاش الشاهقة الضخمة إلى ما يبلغ 100 عام، ويمكن أن تنمو في الحجم إلى أكثر من 10 م3، وتشكل منزلاً مريحاً لما بين 200 و300 زوج من الحباكين الاجتماعيين. تحمي هذه البنية الرائعة للعش ساكنيه من درجات الحرارة القصوى، وبداخله يعيش كل زوج في حجرة منفصلة تشبه الدورق. خلصت دراسة أجراها باحثون من جامعة ميامي University of Miami في العام 2016 إلى أن الطيور “الأنانية” التي تقضي وقتاً طويلاً في إصلاح أماكن معيشتها الداخلية من المحتمل أن تتعرض للعدوان من رفاقها التي تعمل على ترتيب الجزء الخارجي المشترك. بعد تخويفها انتقلت الطيور الأنانية إلى أداء مهام مفيدة لمجتمع المستعمرة ككل.
ما الذي تخبئه
لا شك أن النمل هي أعظم المزارعين بعد البشر. فهي تربي، اعتماداً على النوع، المحاصيلَ (الفطريات)، أو ترعى الماشية (حشرات صغيرة تسمى حشرات المن) في أعشاش ضخمة تحت الأرض. ومع ذلك فإن هذه المدن الكبرى والعمليات الزراعية التي تبقيها على قيد الحياة غير مرئية إلى حد كبير، مما دفع العلماء إلى إيجاد طرق مبتكرة للكشف عن هندستها المعمارية الخفية. تتمثل إحدى التقنيات في حفر عش مهجور وصب الخرسانة في متاهة الأنفاق والغرف لإنتاج قالب ضخم. عثر على عش المتاهة الذي ترونه في الصورة هنا في سيرادو Cerrado، وهي أكبر سافانا في أمريكا الجنوبية. بنى هذه المتاهةَ المعمارية نوعٌ من النمل القاطع للعشب الذي يحصد العشب وينقله إلى حجر تحت الأرض لاستخدامه كسماد للفطريات الثمينة التي تتغذى عليها المستعمرة. يمكن أن ينقل هذا النمل نحو 40 طناً من التراب، وربما أكثر، لبناء العش. إضافة إلى الغرف التي هي عبارة عن حدائق للفطريات، توجد في المدينة الواقعة تحت الأرض “مكبات نفايات” حيث تتخلص النمل من النفايات. حتى أن المستعمرة تحتوي على نظام لتكييف الهواء: إنها أنفاق حُفرت على نحو يسمح بتدفق الحد الأقصى من الهواء النقي من السطح.
جميعنا معاً
نعلم حالياً أن الاستشعار المغناطيسي Magnetoreception، أي القدرة على اكتشاف المجال المغناطيسي للأرض، أمر شائع جداً في الطبيعة. فقد ثبت أن كل شيء من السلاحف البحرية إلى الطيور المغردة والخفافيش والكركند والقواقع والنمل والنحل والعث تعتمد عليه في تنقلاتها. إنه أمر يثير الإعجاب أكثر إذا أخذنا في الاعتبار أن المجال المغناطيسي لكوكبنا في الواقع ضعيف جداً. هناك نوع من النمل الأبيض، فريد من نوعه في الإقليم الشمالي بأستراليا، يبدو أنه يستخدم هذه الحاسة المغناطيسية في بناء أعشاشه. يُعرف هذا النمل باسم النمل الأبيض المغناطيسي Magnetic termite، وهو يبني أكوامه بحيث تكون حافتها الرقيقة موجهة من الشمال إلى الجنوب. تقول إحدى النظريات إن هذه الطريقة في البناء تضمن الحصول على أوسع الحواف، ومن ثمّ أكبر مساحة ممكنة، في مواجهة الشرق والغرب للاستمتاع بدفء أشعة الشمس في الصباح والمساء، مع تجنب الحرارة الحارقة في منتصف النهار. لدى رؤيتها من الجو، تشكل أكوام النمل الأبيض المتباعدة بانتظام شبكة، وتبدو مثل مقبرة غريبة، كما يظهر في الصورة أعلاه.
مخدع الطير
في عالم الطيور تثير الذكور إعجاب الزوجات المحتملات بتغريدات متكلفة أو حركات رقص أو بمهاراتها في بناء الأعشاش، لكن طيور التعريشة Bowerbirds الأسترالية الكبيرة تذهب إلى أبعد من ذلك. فهي تقضي أياماً في بناء هياكل متقنة من العصي الصغيرة وظيفتها الوحيدة هي الاستعراض. ينسج ذكر طائر التعريشة الكبير جدارين سميكين لتشكيل طريق فخم من القش يبلغ ارتفاعه متراً واحداً، ثم يرتب مجموعة من الأشياء اللافتة للنظر في طرفيه. يمكن أن تشمل مجموعتُه المختارة كل شيء من الأوراق إلى قطع القمامة – البلاستيك (علامة العصر) شائع بنحو خاص – ولدى الطيور أذواق مختلفة إذ يفضل عديد من طيور هذا النوع العناصرَ الحمراء أو البيضاء مثل التوت أو الأزهار أو الأصداف. وما ينم عن ذكاء الطائر هو طريقة عرضه للأشياء وترتيبها تبعاً لأحجامها، مع وضع أصغرها بالقرب من التعريشة، لإعطاء منظور قسري Forced perspective يوهم الناظر بأن الطائر أكبر حجماً مما هو عليه في الواقع. إنها تقنية تستغرق الطيور الصغيرة سنوات لإتقانها، وقد تفسر ملكة الحيلة والفطنة التي يحتاج إليها ذلك سبب امتلاك الأسرة أدمغة أكبر من الطيور الأخرى ذات الحجم المماثل.
بن هور (@benhoarewild)
بن هور عالم طبيعة وكاتب. أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان كنوز الطبيعة Nature’s Treasures (منشورات: DK Children)