أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاء

تــــخــــــضـــــــــيـر الكوكب الأحمر

إذا كانت أمام البشر فرصة لإنشاء مستعمرة على المريخ بنجاح، فسنحتاج إلى اكتشاف طريقة لإنتاج الغذاء على الكوكب الأحمر

جيمس روميرو James Romero

قبل أربع سنوات، في عام 2016، جلس فيغر ويْملينك Wieger Wamelink، عالم البيئة النباتية من جامعة واغنينغين Wageningen University، في فندق نيو وورد هوتل New World Hotel في هولندا مع 50 ضيفاً لتناول وجبة فريدة من نوعها. ربما بدت الأمور عادية بما فيه الكفاية من نظرة سريعة على قائمة الطعام، حتى وإن بدا أنها مُعدّة على يد طاهٍ متميز، بدءاً من مقبلات البازلاء المهروسةً، يليها حساء البطاطس والقراص مع خبز الجاودار ومخفوق الفجل، ثم مثلجات الجزر في الختام.
ولكن الشيء الذي جعل تلك المناسبة غير اعتيادية هو أن معظم الخضراوات المستخدمة في صنع الوجبات زرعها ويْملينك وفريقه في تربة تحاكي تربتي المريخ والقمر.
منذ ذلك الحين، زرعوا عشرة محاصيل رائعة، بما في ذلك الكينوا والجرجير والطماطم، باستخدام تربة أُنْتِجت باستخدام صخور بركانية مسحوقة جُمِعَت هنا على الأرض. وأنتج الفريق تربتهم لتحاكي تربة القمر والمريخ عن طريق تصنيف جزيئات الصخور إلى أحجام مختلفة ومزجها بنسب تتطابق بتحليلات تربة المريخ التي أجرتها المركبات الجوالة التي هبطت على الكوكب الأحمر.
في البداية أعدت التربة لإتاحة اختبار المركبات الجوالة وبدلات الفضاء على الأرض؛ لمعرفة مدى جودة تعاملها مع المواد الموجودة على سطح المريخ والقمر. قلة اعتقدوا أنه يمكن زراعة تلك التربة بالفعل.
في البدء كانت هناك مخاوف بشأن بنية التربة، بصورة خاصة بعد المحاولات الأولى للزراعة في نماذج من تربة القمر التي بدت عصية نتيجة وجود شظايا صخرية صغيرة حادة وقاطعة اخترقت جذور النباتات. أما على المريخ؛ فقد تركت حركات المياه القديمة والتعرية المستمرة للرياح سطحاً أكثر تسامحاً على الكوكب، وقد أثبتت محاكاة التربة نجاحها.
من الناحية التغذوية، فإن يقول ويْملينك إنه لا يوجد فرق بين المحاصيل “المريخية” والمحاصيل المزروعة في تربة الأرض، وفيما يتعلق بالنكهة، فإن أكثر ما أُعجبه هو حلاوة الطماطم.
يحاول ويْملينك وفريقه حالياً تحسين غلة المحاصيل عن طريق ري تربة المريخ المحاكاة بالبول البشري الغني بالنتروجين، وهو مورد من المحتمل أن يكون متاحاً بسهولة خلال المهمات المأهولة إلى الكوكب الأحمر. كما يخطط لإدخال البكتيريا التي من شأنها تثبيت مزيد من النتروجين في الغلاف الجوي وستتغذى كذلك بأملاح البركلورات Perchlorate salts السامة الموجودة في تربة المريخ.
في مكان آخر، بجامعة فيلانوفا Villanova University في بنسلفانيا، يقود البروفيسور إد غينان Ed Guinan وأليسيا إغلين Alicia Eglin مشروع الإبهام الأحمر Red Thumbs project، وقد حققا العديد من النجاحات في زراعة التربة المحاكية لتربة المريخ التي صنعاها. فقد أحضر باحثا فيلانوفا في البدء صخوراً جُمِعَت من صحراء موهافي، ثم زادا تربتهما النموذجية باستخدام مزارع ديدان الأرض، نظراً لقدرة هذه الحيوانات على إطلاق النتروجين من المواد العضوية الميتة من خلال الحفر والتغذية.
في عام 2018 احتل مشروع الإبهام الأحمر عناوين الصحف عندما أثارت وسائلُ الإعلام الدولية الحماسةَ بعد أن نجح فريق غينان وإغلين في إنتاج الشعير وعشبة الدينار (الجنجل) Hops.
كُل السَلَطة التي ترغب فيها، وغِضْ النظر عن البطاطس
بعد مرور عامين أضاف غينان وإغلين الطماطم والثوم والسبانخ والريحان والكرنب والخس والجرجير والبصل والفجل إلى المحاصيل المزروعة في دفيئاتهما Greenhouse. وقد تباينت جودة المحاصيل، ولكن النجاح الأبرز حققه محصول الكرنب الذي نما في الواقع أفضل في تربة المريخ المحاكاة مقارنة بالتربة المحلية. في حين عانت المحاصيل الأخرى، مثل البطاطس التي نحن بحاجة إليها؛ لأنها غنية بالسعرات الحرارية. فقد اتضح أن البطاطس تفضل التربة السائبة غير المضغوطة، ولم تنمُ لأن التربة المحاكاة صارت ثقيلة وكتيمة (لا يتسرب الماء من خلالها) عند سقايتها، وقد أدى ذلك إلى تعفن البطاطس.
تعتقد إغلين أن مفتاح النجاح قد يكمن في زراعة عدة محاصيل تعطي غلة قليلة، فهذا قد يتواءم مع أنظمة إيكولوجية طبيعية أكثر مما تسمح به زراعة نوع واحد فقط. حتى على الأرض، فإن إنتاج الزراعات أحادية المحصول يتدهور في كثير من الأحيان بمرور الوقت؛ لأن العناصر الغذائية الأساسية لذلك النبات المزروع تنضب تدريجياً ولا تُعوّض بعد كل حصاد.
للتغلب على هذا التأثير؛ غالباً ما يُدخل المزارعون أنواعاً ثانوية في المنطقة المزروعة نفسها. وهي لن تتنافس مع المحصول الرئيسي؛ لأن أنظمة جذورها ضحلة، لكنها ستُثبِّت النتروجين لتحسين خصوبة التربة. وتخطط إغلين حالياً لاختبار ذلك من خلال زراعة فول الصويا – الذي قد يكون مصدراً حيوياً للبروتين- والذرة جنباً إلى جنب مع عشب القُطَيفة Pigweed، وهو نبات مورق يشتهر باستخدامه في تحضير طبق الكالالو الكاريبي النباتي.
ولكن، مهما كان النجاح الذي تحققه هذه المشروعات، يجب ألا يغيب عن بالنا أن التربة المحاكاة محكومة بقيود فعلية، كما توضح كريستِل باي Christel Paille من وكالة الفضاء الأوروبية ESA. وتشارك باي في البرنامج البديل لنظام دعم الحياة الإيكولوجي الدقيق Micro-Ecological Life Support System Alternative programme (اختصاراً: البرنامج MELiSSA)، والذي يستكشف مجموعة من التقنيات لاستخدامها في المهمات المأهولة طويلة المدى، مثل المفاعلات الحيوية البكتيرية التي تعيد تدوير نفايات رواد الفضاء إلى هواء وماء وطعام. وفي حين قدم البرنامج MELiSSA الدعم إلى ويْملينك، فإن باي تشير إلى أن أي نجاحات تحققها التربة النموذجية يجب أن تضع في الاعتبار حقيقة أنها تستند إلى عينات جغرافية محدودة.
وتقول “إنه خط أساسي من الأبحاث، ولكن ربما ليس شيئاً يمكننا تعميمه على أي موقع على سطح المريخ. نحن دائماً حذرون جداً بشأن المادة المحاكاة. فمن الصعب جداً في محاكاة واحدة أن نجمع كل خصائص سطح المريخ”.
ولعل الطريقة الوحيدة للتغلب على ذلك هي جمع عينة من سطح المريخ نفسه وإعادتها إلى الأرض. ففي 30 يوليو 2020 أطلقت وكالة ناسا مركبة برسيفرنس روفر Perseverance Rover الجوالة من كيب كانافيرال في فلوريدا لكي تهبط على المريخ في رواسب دلتا نهرية قديمة في فوّهة جيزيرو Jezero Crater. فإذا سارت الأمور وفقاً للخطة المرسومة، فستجد المركبة الجوالة نفسها في فبراير المقبل فيما يُعتقد أنه من أكثر الأراضي خصوبة على الكوكب الأحمر. وبفضل نظام الطاقة المعتمد على البلوتونيوم، يجب أن تكون المركبة قادرة على قضاء ما يصل إلى عقد من الزمن في تحليل سطح المريخ. وبينما بحثت البعثات السابقة عن علامات على الظروف الصالحة للحياة التي وُجدت في الماضي، تهدف برسيفرنس إلى المضي أبعد من ذلك من خلال البحث عن علامات على وجود حياة ميكروبية في الماضي.
أيضاً، وفيما يعد أمرا مهمّا جدا لأولئك الذين يأملون بزراعة أغذية على المريخ، ستجمع المركبة عينات من الصخور والتربة وتخزنها استعداداً لمهمة روبوتية مستقبلية محتملة لإعادتها إلى الأرض لتحليلها. حتى ذلك الحين، فإن التربة المحاكاة هي كل ما لدينا للعمل عليه.
ما زال يتعين علينا أن نتعلم الكثير في هذه الأثناء. وعلى سبيل المثال، بدلاً من زراعة الأنواع الفردية، يفضل البرنامج MELiSSA – بإدارة باي- تقييم النباتات داخل نظام إيكولوجي قائم بذاته وداعم للحياة. هنا، تتوازن فوائد الكتلة الحيوية الصالحة للأكل وإنتاج الأكسجين وحتى معالجة المياه مع الموارد اللازمة لزراعة كل نبات وإدارة نفاياته. ولكن توقع ما سيكون عليه أداء المحاصيل على كوكب المريخ سيتطلب تحسين فهمنا الأساسي لبيولوجيا النبات.
تقول باي: “يتعلق الأمر بفهم الأمور على المقياس الجزيئي…. نحن بحاجة إلى وصف ما يحدث تحت الأرض، مثل تنفس الجذور. كيف تُمتص الغازات مثل الأكسجين وتكون متاحة للجذر. وكيف ينتشر ثاني أكسيد الكربون الناتج من ذلك؟”

معوقات النمو
وحتى إن نجح خلط تربة محاكية مناسبة، فما زالت هناك تحديات أخرى يجب التغلب عليها. ويقع المريخ في مدار يبعد نحو 70 مليون كيلومتر أبعد عن الشمس من الأرض. ونتيجة لذلك، يمده ضوء الشمس بـ%43 فقط من الطاقة، الأمر الذي يجعل متوسط درجات الحرارة عليه في حدود 60 درجة سيليزية تحت الصفر. كما أن ميل الكوكب ومداره الإهليلجي جداً يجعلان الاختلافات الموسمية عليه شديدة جدا.
هناك عقبة أخرى تتمثل بالغلاف الجوي للمريخ، وهو أرق بكثير من غلاف الأرض الجوي ويفتقر إلى النتروجين الضروري لنمو النبات. وبدلاً من ذلك، يهيمن عليه ثاني اكسيد الكربون وهو ضروري للتمثيل الضوئي، ولكنه بتراكيز منخفضة جداً لدرجة أن أي نبات ينمو على السطح سيعاني للحصول على ما يكفي منه لتحفيز النمو.
كما يعرِّض الغلاف الجوي الرقيق تربة المريخ للإشعاع الكوني. وهذا يخلق بيئة معادية لأي كائنات دقيقة قد تدخلها لإعادة تدوير العناصر الغذائية من المواد النباتية الميتة. أيضاً، أظهرت جينيفر وادزوُرث Jennifer Wadsworth من مركز المملكة المتحدة لعلم الفلك الأحيائي UK Centre for Astrobiology أن الإشعاع الشمسي قد ينشط مركَّبات الكلور في تربة المريخ، ويحولها إلى أملاح بيركلورات سامة. هذه المواد سامة إذا أُكلت قد تؤدي إلى قصور في الغدة الدرقية، وهذا يمنع إفراز الهرمونات المنظمة لعملية التمثيل الغذائي (الأيض) Metabolism. كما تطرح المعادن الثقيلة السامة، مثل الكادميوم والزئبق والحديد الموجودة في التربة، تحديات من نوع آخر.
يقول ويْملينك: “يوجد في تلك التربة كل ما يمكن أن تفكروا فيه مما هو سام للبشر فيما يتعلق بالمعادن الثقيلة…. بالنسبة إلى النباتات، فهذه ليست مشكلة لأنها ستخزنها في مكان ما. ولكن إذا أكلنا تلك النباتات؛ فقد تكون مشكلة بالنسبة إلينا”.
قد يكون الخيار الآخر هو التقنيات الخالية من التربة المستخدمة بالفعل على الأرض. ففي حالة الزراعة الهوائية Aeroponics تكون النباتات معلقة في الهواء في حين تُرشّ جذورها برذاذ مغذٍ؛ في حين تغمر الزراعة المائية Hydroponics على الجذور في سائل مغذٍ. وقد تنتج هذه الأساليب محاصيل أكبر وأسرع نمواً، وقد اسْتُخدِمت بالفعل لزراعة الخس بنجاح في محطة الفضاء الدولية (ISS). في الواقع، كان رواد الفضاء سعداء جداً بحصادهم، كما يقول ويْملينك، لكن العلماء على الأرض أصيبوا بخيبة أمل بسبب قلة عينات الخس التي أعيدت إلى التحليل بعد أن أُكل الكثير منها.
نقص السعرات الحرارية
على الرغم من الإقبال على الخس في محطة الفضاء الدولية، إلا أن الزراعة المائية أو الهوائية ربما لا تكون كافية وحدها للحفاظ على حياة رواد الفضاء في رحلات طويلة المدى إلى المريخ، وذلك مرة أخرى بسبب مشكلة زراعة البطاطس.
يقول ويْملينك: “من الصعب جداً زراعة البطاطس بتقنية الزراعة المائية، ولن يكون مجرد تناول الخس والطماطم كافياً لأنك بحاجة إلى السعرات الحرارية…. تنمو البطاطس بشكل أفضل في التربة، حيث ستحصل على الكثير من المحصول لكل متر مكعب ويمكن إعادة تدوير المواد العضوية التي لا تأكلها”.
سواء نَمَتْ في التربة أم الماء أم الهواء الرطب، فمن المرجح أن يؤدي الطعام أكثر بكثير من مجرد دور غذائي بسيط في أي نقطة خارجية تقام على المريخ. وقد يكون الجلوس لتناول وجبة لذيذة أمراً لا يقدر بثمن بالنسبة إلى الصحة الذهنية وإلى راحة أي من رواد الفضاء الطلائعيين الذين سيعيشون على بعد ملايين الكيلومترات من الوطن. من يدري، ربما سينتهي الأمر إلى وضع خبز الجاودار ومخفوق الفجل على قائمة الطعام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى