حــــول أصلنا
الباليوبروتيوميكس (تحليل البروتينات العتيقة) Palaeoproteomics هي تقنية جديدة تدرس بروتينات البقايا القديمة، وهي قد بدأت بتغيير نظرتنا إلى التاريخ. فهي لا تمكننا حالياً من سبر أعماق ماض أبعد فحسب، بل تتيح لنا أيضاً رؤية ماضينا بطريقة جديدة.
آندي ريدجواي Andy Ridgway
لقد أحدث الحمض النووي DNA القديم المستخرج من أحافير عظام وأسنان أنواع بشرية تغيُّراً فيما نعرفه عن أسلافنا. وعلى مدى العقدين الماضيين لم يكشف تحليل المواد الجينية عن أنواع بشرية Human species جديدة فحسب، بل سمح أيضاً للآركيولوجيين بإعادة رسم ما كانت عليه هيئة أسلافنا، بعد آلاف السنين من انقراضهم. ولكنه غير قادر على أن يروي لنا القصة كاملة لأن الحمض النووي DNA هش، فهو يتحلل بمرور الوقت إلى درجة تكون معها شيفرته غير مفهومة. وقد عنى هذا عدم قدرتنا على تحليل الكثير من العظام القديمة باستخدام التقنيات الجينية، ومن ثم بقي قسم كبير من شجرة العائلة البشرية متوارياً عن الأنظار.
ولكن على مدى السنوات القليلة الماضية، تولدت رؤى جديدة لفهم تاريخ أسلافنا القدماء بفضل تحليل البروتينات المحبوسة داخل البقايا المتأحفرة. إذ يمكن أن تبقى البروتينات سليمة لفترة أطول بكثير من الحمض النووي DNA، وقد أدى التقدم في التقنيات المخبرية، مثل مقياس الطيف الكتلي Mass spectrometry، إلى زيادة قدرة الباحثين على اكتشاف وتوصيف حتى الكميات الصغيرة منها.
وبين أكثر التقينات الواعدة على الإطلاق تقنية واسعة المدى هي تقنية إطلاق الزناد لتحليل البروتيوميات العشوائي Shotgun proteomics، وهي تقنية تستخلص مواصفات جميع البروتينات داخل أحافير العظام أو الأسنان. فقد أثبت تحاليل “بصمات البروتين” Protein fingerprints هذه بالفعل قدرتها على تحديد نوع الإنسان القديم الذي تنتمي إليه هذه العظام المتأحفرة، حتى بعد فقدان دليل الحمض النووي DNA. وهذا يعني أننا على أعتاب ثورة “باليوبروتيوميكية” Palaeoproteomics إذا جاز التعبير، تعد بتقديم رؤية غير مسبوقة عن أقاربنا القدامى وكيف كانوا يعيشون.
الحفر أعمق بحثا عن الدينيسوفانيين
يحرص علماء الأنثروبولوجيا، بشكل خاص، على معرفة المزيد عن الدينيسوفانيين Denisovans، وهي قبيلة غامضة من البشر عاشت على الأقل قبل 200,000 إلى 50,000 سنة. حاليا، تمكنا من استرداد مادتهم الوراثية من موقع واحد فقط: كهف دينيسوفا Denisova Cave في سفوح جبال ألتاي بسيبيريا. ولكن هناك أدلة على أنهم كانوا أكثر انتشاراً. فالأشخاص الذين يعيشون حاليا في آسيا وأستراليا وبابوا غينيا الجديدة لهم الحمض النووي DNA للدينيسوفانيين.
يقول الدكتور فريدو ويلكر Frido Welker، من جامعة كوبنهاغن University of Copenhagen بالدنمارك، وهو رائد في مجال البروتينات القديمة: “عن كل سؤال لدينا حول الدينيسوفانيين تقريبا لا إجابة لدينا عنه… فنحن لا نحتاج فقط إلى معرفة المكان الذي عاشوا فيه، بل أكثر بكثير إذ لا نعرف حتى أنواع الأدوات الحجرية التي صنعوها، ولا نعرف سلوكهم في الصيد”.
أكثر بقايا إنسان دينيسوفان اكتمالاً التي عثر عليها حتى الوقت الحاضر هو نصف عظم فك سفلي مع سنَّين اكتشفه راهب في كهف بايشيا كارست Baishiya Karst Cave أعلى هضبة التبت في الصين. فقد كان الحمض النووي DNA داخل الفك الذي يُعتقد أن عمره 160,000 عام على الأقل، متحللاً جداً لدرجة لا يمكن معها تحليله. ولكن في عام 2019، تمكن فريق يضم ويلكر من تحليل بروتين الكولاجين في الأسنان ليجدوه مطابقاً لتحليل الدينيسوفانيين الذين عثر على بقاياهم في كهف دينيسوفا. وقد كانت تلك المرة الأولى التي نتعرف فيها على إنسان قديم من خلال بروتيناته فقط.
يُستخدم حالياً تحليل البروتين في الآلاف من شظايا العظام التي استخرجت من مواقع أثرية في معظم أنحاء أوروبا وآسيا لتحديد أي منها ينتمي إلى البشر القدامى، وأي منها ينتمي إلى حيوانات مثل الضباع والماموث. ومن خلال ذلك، فإن مشروع فايندر FINDER البحثي في معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري Max Planck Institute for the Science of Human History، في يينا بألمانيا، يعمل على زيادة عدد عينات العظام المعروف أنها جاءت من البشر القدامى. وسيوفر هذا نطاقاً أكبر بكثير من العظام البشرية القديمة للتحليل.
عظام قديمة، قيمة جديدة
إضافة إلى استخدام الحمض النووي DNA، فقد درس علماء الآثار أشكال العظام وأبعادها لتحديد الأنواع ومعرفة المكان الذي تشغله في ماضينا التطوري. ولكن الكثير مما وجدوه هو مجرد شظايا صغيرة لا يمكن تحديدها. وتقول د. كاترينا دوكا Katerina Douka، والتي تقود مشروع فايندر: “في خمسينات القرن العشرين، أو حتى قبل ذلك، كان يمكن أن يطرح الآركيولوجيون شظايا العظام هذه جانباً لأنها ليست ذات قيمة في نظرهم”.
وتستخدم دوكا تقنية تسمى علم الآثار الحيوانية باستخدام مطياف الكتلة Zooarchaeology by Mass (اختصاراً: التقنية ZooMS) لتصنيف شظايا العظام. فباستخدام التقنية ZooMS، يُستخلص بروتين الكولاجين من العظام، ويجري تكسيره بالتربسين Trypsin، وهو إنزيم يساعد على هضم البروتين في معدتنا. ويقطع التربسين الكولاجين إلى ببتيدات Peptides (سلاسل من الأحماض الأمينية) تُوضع في مطياف الكتلة لقياس كتلها. ولما كانت نسبة الببتيدات في بقايا الإنسان مختلفة مقارنة بتلك الموجودة في الحيوانات، فإن هذا يسمح بالتعرف على عظام الإنسان.
حتى الوقت الحالي، جرى تحليل 11,000 جزء من عظام كهف دينيسوفا باستخدام التقنية ZooMS، وصُنفت عشر عظام بشرية يعود عمر بعضها إلى ما يقرب من 250,000 سنة، وهذا يتجاوز ما قد يصل إليه التحليل الجيني. وفي نهاية الأمر أمكن فقط سلسلة الحمض النووي DNA من ثلاث مجموعات من الهومينين وهي: إنسان نياندرتال ودينيسوفان وهومو سابينس Homo sapiens، ومعظمها يعود إلى قبل 100,000 سنة.
إن تكسر الحمض النووي DNA بمرور الوقت هي مشكلة يعرفها ويلكر منذ أن كان طالباً جامعياً. وعندما كان يحاول سلسلة مواد جينية في روث أحفوري لماعز جبلي منقرض ( مايوتراغوس باليريكوس Myotragus balearicus) لمعرفة ما كان يأكله من خلال التعرف على جينات نباتات هضمها. ويقول: “لم ينجح ذلك لأن الحمض النووي DNA كان متحللا تماماً من ناحية الحفظ… بدا أن أفضل ما يمكن النظر إليه تالياً هي البروتينات”.
في ديسمبر 2020 بدأ ويلكر العمل على مشروع بحثي كبير جديد لسلسلة البروتينات في أحافير هومينين تعود إلى نحو مليون سنة جُمعت من معظم أنحاء إفريقيا وأوروبا وآسيا. وحصل على منحة تعادل 1.5 مليون يورو (1.35 مليون جنيه إسترليني تقريباً) من مجلس الأبحاث الأوروبي لتحليل عينات العظام والأسنان المحفوظة في المتاحف والجامعات. ويقول ويلكر: “الفترة بين 700,000 و200,000 سنة مهمة لفهم مكان نشأتنا، كنوع، وما الذي كانت تفعله أنواع الهومينين في ذلك الوقت، من الناحية السلوكية”.
إنها الفترة التي ظهر خلالها لأول مرة إنسان هايدلبيرغ هومو هايدلبيرغينيسيس Homo heidelbergensis، وهو النوع الذي يُعتقد أننا، كهومو سابينس، قد انحدرنا منه، بعد أن تطور من الإنسان المنتصب هومو إيريكتوس Homo erectus. يقول ويلكر: “هناك العديد من تسميات الأنواع، مثل هومو هايدلبيرغينيسيس الذي يختلف الناس حول أين يجدر وضعه من حيث صلته بنا، أو ما إذا وُجد بالفعل أم لا”. ويضيف: “إن الجيد في الأمر هو أنه بالنسبة إلى تلك الفترة الزمنية ولهومو هايدلبيرغينيسيس على وجه التحديد، يمكن للبروتينات أن تمدنا بمعلومات مفيدة جداً في السنوات المقبلة وتقدم إجابات عن بعض هذه الأسئلة”.
تبدأ تقنية تسلسل البروتيوميات العشوائي التي سيستخدمها ويلكر بثقب العظام أو السن للحصول على مسحوق بحجم رأس دبوس. ويُوضع المسحوق في العادة في حمض الهيدروكلوريك لتحرير البروتينات التي تُقطّع بعد ذلك إلى ببتيدات باستخدام التربسين. كما هي الحال مع التقنية ZooMS، تقاس كتل الببتيدات في مطياف الكتلة. ولكن تقنية تسلسل البروتيوميات العشوائي تختلف عن التقنية ZooMS في أن البيانات من مطياف الكتلة تسمح أيضاً للباحثين بتحديد تسلسل الأحماض الأمينية داخل الببتيدات، وهي بذلك تُحدِّد جميع البروتينات في العينة، وليس بروتينا واحدا فقط.
لذا، وفي حين يمكن بفضل التقنية ZooMS معرفة إن جاءت عظمة من إنسان قديم أم من شيءٍ آخر، يمكن مقارنة تسلسل البروتين من تقنية تسلسل البروتيوميات العشوائي بتلك التي يُعرف بالفعل أنها موجودة لدى أنواع من الهومينين لتحديد النوع المحدد الذي تنتمي إليه. وإضافة لذلك، ونظراً لأن تسلسل الأحماض الأمينية للبروتين يُحدد بواسطة الجينوم، فإن التباين في التسلسل الذي قد يكون موجوداً بين الأنواع يخبر الباحثين شيئاً عن العلاقة التطورية بين الأحفورة التي تُدرس وأنواع الهومينين الأخرى.
النظر إلى الأمام لإلقاء نظرة على الوراء
على مدى السنوات القليلة المقبلة، فمن المتوقع أن تسمح تقنية تسلسل البروتيوميات العشوائي للباحثين بتحديد الأنواع الموجودة في مزيد من المواقع الأثرية وتوفير صورة أوضح للمكان الذي عاش فيه أمثال الدينيسوفانيين. أيضاً، من خلال تحديد الأنواع الموجودة في الموقع، يمكن لعلماء الآثار استخدام القطع الأثرية هناك لتجميع مزيد من المعلومات عنها، مثل الفريسة التي اصطادوها وما إذا كانوا قد استخدموا النار أم لا.
ولكن هذا لن يكون سهلاً. فالعديد من شظايا العظام التي يعمل عليها الباحثون لا تحتوي إلا على عدد محدود من البروتينات بداخلها، فهي في نهاية الأمر، جزء صغير من جزء من الهيكل العظمي. لذلك؛ فهي تحتوي على معلومات أقل بكثير من الشيفرة الجينية بكاملها. كما أن التطور يحتفظ بالبروتينات، وهذا يعني أنها في كثير من الأحيان لا تتغير كثيراً بين الأنواع لأنها تؤدي الوظيفة نفسها. وهذا يحدّ من مدى إمكانية استخدامها لربط عينة عظمية بنوع معين.
ولكن البروتينات أثبتت بالفعل أنها أكثر قدرة على البقاء من الحمض النووي DNA، وهذا يسمح لنا بالنظر إلى ماضٍ أبعد من أي وقت مضى. ففي الوقت الحالي لا نعرف المدى الزمني الذي ستأخذنا إليه تقنية البروتوميات، إلا أن ويلكر يقول: “إنني سعيد جدا لأنني كنت جزءاً مما حدث في هذا المجال في العامين الماضيين… حتى في الوقت الحالي، ما زلت لا أعرف ما هي حدود هذا لعمل. وهذا جيد فقط لأنه يعني أنه ما زال لدينا الكثير من الأشياء لاستكشافها”.