عندما يُتخذ الغائط شكلاً للتمويه
ما الذي يمكن أن يكون أفضل من الاختباء من مفترس؟ أن تظهر على هيئة شيء ينفر من أكله. إليكم الأنواع الحيوانية التي تشبه الغائط.
بن هور BEN HOARE
إن إحدى الطرق المفيدة في الطبيعة لكي لا يصير حيوان لقمة سائغة لفريسته هي أن يبدو على هيئة شيء ليست له قيمة غذائية، والأفضل من ذلك أن يكون طعمُ هذا الشيء مقززاً. ويُطلق على هذا الشكل المعقد من الدفاع عن النفس اسم ‘التنكر’ Masquerade. ويقول خبير آليات التنكر الدكتور جون سكيلهورن John Skelhorn من جامعة نيوكاسل Newcastle University، إن التنكر يختلف عن التمويه القائم على التخفي. لنأخذ مثلا ‘ضفدع روث الطيور’ ثيلوديرما أسبيروم Theloderma asperum الذي يعيش في جنوب شرق آسيا. وقد تلاحظه الحيوانات المفترسة، مثل الثعابين والطيور، بسهولة عندما يجلس القرفصاء على ورقة شجر، لكنها تخطئ في التعرف عليه عندما يبدو على شكل فضلات الطيور فتعف عنه وتمضي في سبيلها. ويقول سكيلهورن: “فضلات الطيور مثالية للتنكر لأنها شائعة جداً في البيئة”، مضيفاً أن الوضعية غالباً ما تكون جزءاً من الخدعة: “عندما أمسكت بأحد هذه الضفادع الصغيرة، لملم أطرافه بشكل مقنع جداً. فقد قلَّد حتى التقزّح اللوني الطفيف الذي يكسو البراز”.
كتلة روث
لقد طورت النباتات شتى الطرق الإبداعية لنشر بذورها. ولعل أكثرها إبداعاً نوع من العشب في مقاطعة كيب بروفنس في جنوب إفريقيا يُدعى سيراتوكاريوم أرغينتوم Ceratocaryum argenteum، تقلِّد بذوره اللامعة الشبيهة بحبات الخردق (أعلى) روث الظباء (أسفل). وفي غضون ساعات، تندفع خنافس الروث الكادحة Dung beetles لتدحرج ‘الروث’ بعيداً، وتدفنه في الأرض (تدفن الخنافس الروث لاستخدامه كمصدر طعام لها أو ليرقاتها). والأكثر من ذلك، أنه من أجل خداع الأجهزة الحسية الهائلة لهذه الخنافس، تنضح بذور الأعشاب أيضاً بمزيج كيميائي يشبه رائحة براز الظباء. وفي عام 2015 اكتشف باحثون من جامعة كيب تاون University of Cape Town أن خنافس الروث تكتشف الحيلة في النهاية وتكف عن وضع بيوضها في البذور. لكن في ذلك الحين تكون البذور قد دُفنت بأمان؛ إذ تنفع الحيلة لفترة كافية تضمن لها النجاح.
يرقات أم فضلات؟
تشبه اليرقات آلات مضغ سريعة النمو ويحتوي لحمها على كمية أكبر من البروتين مما في لحم الدجاج، لذلك ليس من المستغرب أنها على قائمة طعام العديد من الحيوانات آكلة الحشرات. والفراشات خطافية الذيل الآسيوية Asian
swallowtail,، أو بابيليو سوثوس Papilio xuthus، هي واحدة من الفراشات العديدة التي تدافع يرقاتها عن نفسها من خلال نسخ شكل ولون وحتى رائحة فضلات الطيور. لكن التنكر يقتصر على اليرقات الصغيرة التي لا تتحرك كثيراً، مثل تلك التي تظهر في هذه الصورة. مع الوقت، تكبر اليرقات في الحجم وتبدأ بالتنقل ولا يمكنها أن تظهر على شكل براز، لذلك خلال انسلاخها الأخير تتنكر باللون الأخضر، وكرادع إضافي، ترسم زوجاً من ‘العيون’ المزيفة المخيفة أعلى رأسها. ويقول عالم الحشرات ومقدم البرامج على شبكة بي بي سي الدكتور روس بايبر Ross Piper: “إن الفراشة خطافية الذيل الآسيوية تُظهر مرونة مذهلة…. عند الحاجة، تغير يرقاتها تكتيكاتها وتعتمد استراتيجية دفاعية مختلفة”. اختبرت دراسة يابانية نماذجَ تتْبعها يرقة من نوع آخر تحاكي البراز، ووجدت أنها خدعت الطيور فقط عندما تكورَّت فصارت شبيهة بالفضلات الملتفة؛ أما اليرقات المُقلِّدة التي ظلت أجسامها مستقيمة فكانت فريسة سهلة. وليس من الواضح ما إذا كانت اليرقات خطافية الذيل تضطر هي أيضاً إلى اتخاذ وضعيات لا تشبه وضعيات اليرقة الأصلية من أجل البقاء.
شبكة الخداع
إن الحياة بالنسبة إلى العنكبوت الغازل المداري Orb-weaver spider هي عملية موازنة. ويتعين على العنكبوت سايكلوزا غينّاغا Cyclosa ginnaga اجتذاب فريسة حشرية لذيذة، على أن يتجنب الدبابير التي تتغذى عليه. تقول الدكتورة سارة غودإيْكِر Sara Goodacre من مختبر العناكب SpiderLab بجامعة نوتنغهام University of Nottingham: “إنها تلعب لعبة دقيقة…. لمن تعطي الأولوية: لصيد عشائها أم الدفاع عن نفسها؟”. ويضيف العنكبوت نوعاً خاصاً من الحرير المنفوش إلى شبكته لتقليد فضلات الطيور المتناثرة، وهذا كما تُظهر التجارب، يجذب مزيداً من الفرائس المحبة للبراز، مثل الذباب. ويضيف كذلك إلى شبكته غصينات ووريقات، لها التأثير نفسه. وقد أجريت تجارب أخرى لاختبار ما إذا كانت هذه التقنية دفاعية، عن طريق طلاء العناكب الفردية أو شبكاتها بلون غامق. ووجد الباحثون أن العناكب القاتمة (ومن ثم الأكثر وضوحاً) كانت في الواقع أكثر عرضة للهجوم، ربما لأنها تبدو أقل شبهاً بالبراز. فهل يستخدم هذا العنكبوت تقليد البراز لجذب الفريسة أم الدفاع عن نفسه من مفترسيه، أم كليهما؟ لم يتمكن الباحثون من إصدار حكم دقيق. لكن لا يمكننا أن ننكر أنه فنان موهوب.
تصوير الجماد
يتقن العث البالغ ويرقاته فن التنكر كل الإتقان؛ والبراز مجرد واحد من جملة من الأشياء غير المستساغة التي يقلدها، من الأوراق الميتة إلى نبات الأشنة والأغصان واللحاء وحتى الحجر. وتعيد فراشة ماكروسيليكس مايا Macrocilix maia من جنوب آسيا تصوير مشهد بكامله: تشبه أجنحة العثة البالغة المفرودة براز طير طُرح للتو، كما تصوّر ذبابتين زائرتين بأجنحتهما وأرجلهما وعينيهما الحمراوين.
كيف تتطور مثل هذه الحيل المدهشة؟ يقول سكيلهورن: “تتفوق الطيور علينا في رؤية الألوان ويمكنها تمييز تفاصيل أدق. لذا تفرض الحاجة إلى خداعها ضغطاً انتخابيا Selection pressure قوياً. وبمرور الوقت، تتطور الأمور نحو الإتقان”. ومع ذلك، يحذر من أنه قد تكون هناك أيضاً أمور أخرى لم تؤخذ بالحسبان. فقد أجريت القليل من الأبحاث حول هذا النوع، وقد تكون هناك أسباب تطورية أخرى، غير الخداع، جعلت فراشة M. maia تُطوِّر هذا الرسم المدهش على جناحيها.
العناكب المخادعة
تقول غودإيكر: “هناك العديد من الطرق التي تلجأ إليها العناكب لتغيير هيئتها”، لكنها موهوبة في تقليد البراز. وفي معظم أنحاء العالم يبدع العديد من مجموعات العناكب في هذه الحيلة، كما تقول. وتضيف: “من الواضح أن لديها البنية الجينية للتنكر”. وقد تشمل هذه الحيلة المخادعة مجموعة من التكيفات المظهرية، ومنها مثلا اتخاذ حجم فضلات الطيور -لونها وملمسها وغشاءها- عندما تتقادم.
وبعض أنواع العناكب المخادعة، مثل فريناراكني ديسيبيانس Phrynarachne decipiens في جنوب شرق آسيا (الصورة 1، في الصفحة المقابلة) وعنكبوت بي. روغوسا P. rugosa الإفريقي (2)، تزيد درجة الإيهام بأن تصدر رائحة تشبه رائحة الروث المطروح حديثاً وتنسج شبكة مشعثة حول نفسها. كما تلملم العناكب التي تحاكي البراز أطرافها، وتغير هيئتها لتبدو مثل بقعة لا شكل لها، سقطت دون اكتراث. وتقول غودإيكر: “إن ما تفعله بأرجلها يجعل التنكر أقوى، وسرعان ما تعيدها بسهولة إلى وضعها الطبيعي”.
تخدم قدرة العناكب التي تقلد البراز استخدامات مختلفة لدى الأنواع المختلفة. فالعنكبوت سيلينيا إكسكافاتاCelaenia excavata (الصورة 3) يتصيد العثة في الليل، لذلك يتنكر في النهار على ما يبدو للدفاع عن نفسه ضد مفترسيه ومنها الطيور. ومن ناحية أخرى، يصطاد العنكبوت أركيس كروتولوس Arkys curtulus (الصورة 4) خلال النهار، ويستخدم كثيراً على ما يبدو تقليد البراز لجذب الذباب المحب للروث إلى هلاكه.