أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقابلاتمقالات رئيسية

فَناء الحشرات

توقفنا عن سماع أزيز الحشرات في مروجنا، ولفَّ الصمتُ حدائقنا. يخبر البروفِسور ديف غولسون أليس ليبسكومب-ساوثويل Alice Lipscombe-Southwell عن سبب تناقص أعداد حشراتنا وكيف يمكننا المساعدة على إعادتها

ما أهمية الحشرات، وما الأدوار التي تؤديها في النظام الإيكولوجي؟
كثيرة جداً، من الصعب معرفة من أين نبدأ. تشكل الحشرات القسم الأكبر من الحياة على الأرض من حيث التنوع البيولوجي. وهي تمثل أكثر من ثلثي جميع الأنواع التي صنَّفناها. تعتمد الطيور وحشرات أخرى والخفافيش وكثير من الثدييات الصغيرة والسحالي وأسماك المياه العذبة على الحشرات كغذاء. لو لم توجد الحشرات لما وُجدت هي أيضاً. 

لكن الحشرات تضطلع بكثير من الأشياء المهمة الأخرى أيضاً. يسميها العلماء ”خدمات النظام الإيكولوجي“ Ecosystem services، وهي عبارة لا تساعدنا على فهم دورها إلى حد ما. فهي تفعل أشياء مثل إعادة التدوير، فاليرقات تساعد على التخلص من الجثث، وتساعد خنافس الروث على التخلص من روث البقر، وتساعد الحشرات الأخرى على تكسير الأشجار الميتة وأوراق الشجر وأشياء أخرى. لذلك فهي مهمة حقاً في دورات المغذيات. إنها تحافظ على التربة صحية، وتنقل البذور، وتفعل أشياء كثيرة مختلفة.

أعتقد أن الشيء الذي يعرفه عنها معظم الناس هو أنها تلقِّح الأزهار. ومن ثم فإن ما يقرب من 87% من معظم أنواع النباتات على الكوكب تحتاج إلى التلقيح بواسطة نوع من الحيوانات، أحياناً، في المناطق الاستوائية، يكون هذا الحيوان طائراً طناناً أو خفاشاً. لكن في 99% من الحالات هي حشرة ما.

باختصار، لو لم تكن لدينا حشرات لانتهت الحياة على الأرض.

تموت أعداد كبيرة من الحشرات. لماذا يحدث هذا؟
هناك مسببات كثيرة. كما تعلمين، لا يوجد سبب واحد لانخفاض أعداد الحشرات، ولكن ربما كان السبب الأكبر هو فقدان الموائل Habitat في المملكة المتحدة، فقد فقدنا القسم الأكبر من أشياء مثل غاباتنا القديمة والأراضي البراح والأراضي البور والمستنقعات والمروج الغنية بالأزهار. من الواضح أن هذا ليس شيئاً يقتصر على المملكة المتحدة. في المناطق الاستوائية، شهدنا إزالة الغابات وما إلى ذلك. في الأساس نحن نستبدل الموائل الطبيعية والمتنوعة بيولوجياً لنشيِّد مكانها المدن، أو نعتمد على الزراعات الأحادية النوع Monocultures of crops، ولذلك تأثير هائل. وما يرتبط بذلك ربما يكون ثاني أكبر مسبب لانخفاض أعداد الحشرات، وهو ازدياد المبيدات الحشرية المختلفة التي نستخدمها في الزراعة، وكذلك في الحدائق وفي شوارعنا.

ولكن بعد ذلك هناك مجموعة كاملة من الأشياء الأخرى، مثل الأنواع الغازية Invasive species وتغير المناخ والتلوث الضوئي الذي يؤثر في العث الليلي وما إلى ذلك. إنها تشبه نوعاً من العاصفة المثالية. تعلمين، قد تتحمل الحشرات شيئاً أو اثنين، لكنها لا تستطيع مواجهة هذه العاصفة العاتية مع ما تمثله من مختلف الضغوط التي تؤذيها.

أتذَكَّرُ حين كنتُ طفلةً، عندما كنا نخرج في السيارة كانت أعداد كثيرة من الحشرات ترتطم بالزجاج الأمامي. لم أعدْ أرى هذا.
لقد سمعتُ هذا من كثير من الناس، وهذا هو الجانب الوحيد الدال على انخفاض الحشرات في الوعي العام. كما تعلمين لا يهتم الناس كثيراً بالحشرات، فمعظمهم لا يأبهون لها. ولكن كانت هناك تلك الظاهرة التي تضطر السائقَ إلى التوقف لتنظيف الزجاج الأمامي للسيارة، وهو ما أتذكره عندما كنتُ أصغر سناً. في وقت ما قبل بضعة عقود كان الزجاج الأمامي والمصابيح الأمامية والشبكة الأمامية ومقدمة السيارة بكاملها عبارة عن كتلة من أحشاء الحشرات الجافة المتناثرة. ولم يعد يحدث هذا على الإطلاق.

هل نشهد هذا الانخفاض في الحشرات في معظم أنحاء العالم؟
إن دراسات الحشرات طويلة المدى منحازة نحو أوروبا وأمريكا الشمالية حيث يوجد كثير من العلماء المهتمين مثلي بالحشرات. ليست لدينا أي بيانات تقريباً من إفريقيا وأمريكا الجنوبية ومعظم جنوب شرق آسيا، وهو أمر مقلق حقاً، لأن هذا هو المكان الذي نجد فيه معظم التنوع البيولوجي. كانت هناك دراسة واحدة أو اثنتان من المناطق الاستوائية، وهي تُظهر انخفاضاً كبيراً في أعداد الحشرات، ولكن بالنسبة إلى معظم الحشرات الاستوائية، ليست لدينا أي بيانات. يمكنني القولُ إنني على ثقة تامة بأنها آخذة في الانخفاض هناك أيضاً، لأننا نشهد فقداناً هائلاً للموائل وتغيراً مناخياً وكل هذه المشكلات البيئية الأخرى التي تؤثر في تلك البلدان.

ماذا سيحدث إذا فقدنا الحشرات؟ كيف سيبدو المستقبل؟
ستكون الحياة صعبة. تعتمد معظم الفواكه والخضراوات التي نأكلها على الحشرات للحصول على محصول جيد. لذلك إذا فقدنا المُلقِّحات، فسيكون من الصعب حقاً توفير نظام غذائي صحي للبشر الذين تتزايد أعدادهم.

لكن الأمر لا يقتصر على عملية التلقيح. لقد ذكرتُ قبل قليل أن الحشرات تساعد على الحفاظ على صحة التربة؛ ولدينا مشكلات كبيرة مع تدهور التربة في معظم أنحاء العالم. تعتمد صحة التربة على جميع الكائنات الصغيرة التي تعيش فيها، ونحن نحتاج إلى تربة صحية لزراعة المحاصيل. نحتاج أيضاً إلى الحشرات لإعادة تدوير أشياء مثل روث البقر. من الضروري جداً إعادة تدوير جميع العناصر الغذائية الموجودة في روث البقر.

هناك بالفعل مثال مثير للاهتمام حقاً حول أهمية ذلك. عندما استعمرنا أستراليا وأخذنا الماشية إليها، لم تكن هناك خنافس روث يمكنها التعامل مع روث البقر، إذ كانت الخنافس معتادةً تدويرَ روث الجرابيات، وهو جاف حقاً.

البروفِسور ديف غولسون يترك نحلة طنانة تقترب ليفحصها من قرب

في غياب حشرات تزيل روث البقر كان الروث يبقى ليجف على شكل كتل صغيرة صُلبة. في النهاية غُطيت الأراضي الطبيعية بكاملها بطبقة من روث البقر الجاف، ولم يتمكن العشب من النمو عبرها. في وقت ما غطى روث البقر الجاف 15,000 كم2 من أستراليا. ومن ثم أدخلوا خنافس الروث القادرة على التعامل مع روث البقر. كان هذا أحد الأمثلة على عملية إدخال ناجحة جداً لحشرة إلى الطبيعة. لقد سارت بعض عمليات إدخال الحيوانات إلى الطبيعة على نحو خطأ، لكن خنافس الروث التي عُمد إلى إدخالها أكلت كل الروث، والعشب الآن ينمو يانعاً، ويُعاد تدوير العناصر الغذائية.

هذا يُظهر لنا أننا نتعامل مع وجود الحشرات وهذه الأمور التي تفعلها كأمر مسلم به. وعندما لا تكون موجودة، عندئذ نلاحظ المشكلات.

هل نعلم كم عدد الحشرات التي ما زال يتعين علينا اكتشافها؟
لقد تمكنَّا من تسمية 1.1 مليون نوع من الحشرات حتى الوقت الحالي تقريباً. ونحن نعثر على أنواع جديدة كل يوم. هناك بلا شك كثير مما لم نصنفه بعد، أو لم نسمِّه. لكن العلماء يجدون صعوبة في تقدير عددها بالضبط. هناك محاولات لتقدير أعدادها وتشير معظم التوقعات إلى أن هناك ما بين مليون و10 ملايين نوع من الحشرات التي لم نسمِّها بعد. من الواضح أن هذا نطاق ضخم، لذلك من الواقعي أكثر أن نقول إن هناك أربعة أو خمسة ملايين نوع أخرى.

لكن هذا يعني أننا سمَّينا نحو 20% منها فقط. إنه لأمر مدهش جداً أن تكون هناك كل هذه المخلوقات المذهلة التي لم نكتشفها بعد.

هل هناك أي شيء يمكن أن نفعله في حياتنا اليومية لمساعدة الحشرات؟
ترَين هذه المشكلات البيئية، مثل احتراق الغابات المطيرة وتشعرين بالعجز حيالها. إنه أمر محزن. تتساءلين: ”ما الذي يمكنني فعله للمساعدة؟“. لكن الأمر مختلف مع الحشرات.

”معظم الحشرات لم تنقرض بعد، ويمكنها أن تتكاثر بسرعة كبيرة، لذلك إذا توافرت لها الظروف المناسبة فستتعافى مجموعاتُها بسرعة“

إنها تعيش في حدائقنا ومتنزهاتنا المحلية وعلى حواف الطرقات، كما تعلمين، إنها في كل مكان. وحتى الأشياء الصغيرة تُحدث فرقاً في النهاية. لحسن الحظ لم تنقرض معظم الحشرات بعد، ويمكنها أن تتكاثر بسرعة كبيرة، لذلك إذا توافرت لها الظروف المناسبة، فستتعافى مجموعاتها بسرعة، وهذا بخلاف الباندا أو النمور.

المكان الواضح للبدء، إذا كنتِ محظوظة بما يكفي وكانت لديكِ حديقة، هو زراعة كثير من الأزهار الصديقة للنحل وللحشرات الملقِّحة الأخرى. ازرعي بعض الأزهار البرية ولا تقصي العشب بنمط متكرر، وازرعي بعض الأشجار المزهرة إذا كانت لديك حديقة كبيرة بما يكفي. وجود بركة سيجلب مجموعة متنوعة من الحشرات. ووجود خلية نحل خشبية صغيرة للنحل سيؤدي خدمة جيدة لبعض النحلات الانفرادية. لا تستخدمي أي مبيدات. يبدو لي أن من الجنون أن نرش السموم في حدائقنا، وأن ترشها مجالس البلديات في شوارعنا، وما إلى ذلك.

أكثر الأشياء التي يمكنك أن تضطلعي بها بسيطة حقاً، وعديد منها يتضمن أن تفعلي أقل وليس أكثر، مثل تقليل جز العشب، وتقليل رش المبيدات الحشرية، وعدم الإكثار من ترتيب الحديقة، وترك بعض الحشائش تُزهر. والأشياء الصغيرة مثل هذه تُحدث فرقاً حقاً.

توجد 22 مليون حديقة خاصة في المملكة المتحدة. لذا تخيلي فقط لو كانت معظمها مراعيةً للحشرات وللحياة البرية. هذا من شأنه أن يُحدث فرقاً حقاً. سيكون نوعاً من شبكة وطنية من البقع الصغيرة من المحميات الطبيعية المصغرة. سيكون ذلك رائعاً.

يكره كثيرون الحشرات، ويقولون: ”ما نفع الدبور؟ وما نفع البعوض؟“. هل هناك أي طريقة يمكننا من خلالها تغييرُ فكرهم؟
حسناً، هناك طرق مختلفة لمحاولة إقناع الناس بأن الحشرات تستحق أن نعتني بها. يمكنك استخدام الحجة القائلة بأنها مهمة، فهي في أكثر الأحيان تفعل أشياء ذات قيمة لنا، حتى إن لم نعترف بها. الدبابير، على سبيل المثال، هي ملقِّحات فعالة، وكثير من الناس لا يدركون ذلك. كما أنها جيدة حقاً في مكافحة الآفات، فهي تأكل حشرات المن واليرقات التي تغزو محاصيلنا.

ولكن ربما توجد بعض الحشرات التي لا تفعل أي شيء مفيد على الإطلاق ولا يمكنك العثور على حجة اقتصادية ونفعية لإنقاذها. لكنني أعتقد أنه من المحزن حقاً أن نفكر في أن الأنواع التي تستحق إنقاذها هي فقط تلك التي تفعل شيئاً مفيداً لنا. هذا أناني على نحو لا يُصدَّق. هذه مخلوقات موجودة على الكوكب منذ ملايين السنين، أي قبلنا بوقت طويل جداً. وتعلمين، سواء كانت تفعل شيئاً مفيداً أو لا، سواء وجدناها جميلة أو لا، فهي بالتأكيد لديها الحق نفسه في الوجود هنا مثلنا، أليس كذلك؟

علينا أن نحاول أن نكون أكثر تسامحاً مع الطبيعة، وأن نقدرها من أجل ما هو في مصلحتها هي. نحن نعيش على هذه الصخرة السابحة في الفضاء مع قشرة رقيقة من الحياة المتشبثة بسطحها. ما أعنيه هو أن الأمر برمته فوق التصور وغير معقول حقاً. بقدر ما نعلم، قد لا توجد حياة أخرى في الكون، أو قد تكون بعيدة جداً عنا وقد لا نلتقيها على الإطلاق، وبالتأكيد لا شيء مثل [الحياة هنا] على الأرض. إنها فريدة من نوعها. إنها موطننا. إنها تعطينا كل ما نشتهي. كما تعلمين، إنها جميلة. إنها مصدر إلهام. إنها تُطعمنا وكل الأشياء الأخرى. ونحن لا نعتني بها جيداً كما تستحق. وأجد أن هذا غير مقبول على الإطلاق. على أي قدر من الغباء نحن حتى لا نعتني بموطننا، وبكل المخلوقات التي تعيش عليه. يجب أن نُقدِّر جميع رفاقنا المرتحلين معنا على هذه الصخرة السابحة في الفضاء.

هذه المخلوقات الصغيرة تستحق أن تعيش. أنا أعتقد أنها مدهشة، في الواقع. كلما أمضيتِ وقتاً أطول تتأملين الحشرات، ستدركين كم هي رائعة ومثيرة للاهتمام، وكم هو مقدار ما لا نعرفه عنها، ولن نعرف ذلك أبداً إذا قضينا عليها جميعها. هناك الملايين من الحشرات التي لم نكتشفها بعد؛ من يدري ما أسرارُها؟

أجد أنه أمر محزن جداً، فكرة أن هناك أنواعاً تنقرض ولم يتسنَّ لنا حتى أن نراها. أنواعاً لن نعرف بوجودها أبداً، لأنها ستكون قد زالت. وهذا فظيع جداً.


البروفِسور ديف غولسون Prof Dave Goulson

ديف أستاذ علم الأحياء من جامعة ساسكس University of Sussex. أبدى اهتماماً كبيراً بالحشرات طوال حياته مكرِّساً نحو 30 عاماً للتخصص في النحل الطنان، وأسَّس صندوق حفظ النحل الطنان Bumblebee Conservation Trust. ألَّف عدداً من الكتب العلمية التي لقيت رواجاً آخرُها: الأرض الصامتة: تدارك فناء الحشرات Silent Earth: Averting The Insect Apocalypse (منشورات: Jonathan Cape). يمكن متابعة نصائحه حول العناية بالحياة البرية على قناته على YouTube، أو تتبعه على تويتر: Twiter @DaveGoulson

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى