كيف فتح كسوف الشمس نافذةً جديدة على الكون
لقد مكّنت عدسة الجاذبية - التي أظهرها كسوف شمسي حدث قبل أكثر من قرن من الزمن - العلماء من مراقبة مناطق أوسع من الكون مما كان ممكناً في السابق.
في 8 أبريل 2024 حظيت قطعة من الأرض في أمريكا الشمالية بفرصة رؤية المشهد النادر والرائع لكسوف الشمس الكلي. خلال هذا الحدث المذهل حجب القمرُ المتموضع في موقع مثاليٍّ الشمسَ بالكامل، فاستحال النهار ليلاً بضعَ دقائق.
شاهد الحدثَ الملايينُ من الناس بشغف، ولكن من منظور علمي، فإن المشهد ببساطة لا يمكن مقارنته بالتأثير الهائل لكسوف الشمس في 29 مايو 1919 في النماذج النظرية المقبولة أو الاعتقادات السائدة في ذلك الوقت.
”لقد لاحظ علماء الفلك تشوُّهاً كبيراً في فهمنا للفضاء والزمن“
في وقت لاحق نشرت صحيفةُ نيويورك تايمز مقالةً على صلة بالحدث بعنوان: ”أضواء النجوم والكواكب كلها مائلة في السماء؛ حماس متفاوت لدى رجال العلم إزاء نتائج أرصاد الكسوف “ Lights All Askew In The Heavens; Men of Science More or Less Agog Over Results of Eclipse Observations. (لم يكن من الممكن الاتصال بالنساء العالمات للتعليق!). لم يكن العنوان مبالغاً فيه. لقد لاحظ علماء الفلك تشوُّهاً كبيراً ليس فقط في فَهمنا للجاذبية، بل أيضاً في فهمنا للفضاء والزمن كمفاهيم فيزيائية.
من منظور فيزيائي فلكي، ليست لكسوف الشمس أهميةٌ خاصة، فهو مجرد محاذاة لحظية للشمس والقمر والأرض، وليس له تأثير يُذكَر في أي شيء سوى بضع دقائق من الارتباك بين النهار والليل محصور مكانياً.
لكن هذه الظاهرة تمنح علماء الفلك فرصة خاصة لرؤية الأشياء التي لا نراها بسبب سطوع الشمس. أشياء مثل الهالة الشمسية الضبابية، مثلاً، أو أي نجوم قريبة. كانت النجوم القريبة هي التي وجدها علماء الفلك منحرفة في العام 1919 أو مختلفة عما يتوقعونه.
كل هذا يتعلق بنظرية النسبية العامة لألبرت آينشتاين Albert Einstein. النظرية التي نُشرت في العام 1915 كانت بمنزلة إعادة صياغة أساسية للكيفية التي تعمل وفقَها الجاذبية. بدلاً من أن تكون قوة بين الأجسام، تقول النسبية العامة إن الجاذبية هي في الواقع تحني Bend الفضاء في وجود أجسام ضخمة مثل النجوم والكواكب والمجرات.
تسقط التفاحة نحو الأرض ليس لمجرد وجود قوة بين التفاحة والأرض، بل لأن الأرض تحني الفضاء حول نفسها.
وكما يحدث، عندما ينحني الفضاء بسبب شيء له كتلة، لا تتغير مسارات الأجسام الضخمة الأخرى فحسب، بل الضوء أيضاً. يُطلَق على هذا التأثير اسم ”عدسة الجاذبية“ Gravitational lensing، وقد قدَّم بعضاً من التأكيدات التجريبية الأولى على أن نظرية الفضاء المنحني الغريبة التي وضعها آينشتاين تعمل بالفعل.
تضمنت الأوراق الأصلية التي نشرها آينشتاين مجموعة من التنبؤات التي يمكن استخدامها لتأكيد النسبية العامة، أو استبعادها. كان أحدُ هذه التنبؤات هو أن كتلة الشمس يجب أن تحني ضوء أي نجم يمر بجوارها.
هذا التأثير صغير ولكن يمكن اكتشافه: يجب أن تكون زاوية انحراف شعاع ضوء نجم يلامس حافة الشمس فقط جزءاً صغيراً من الدرجة. المشكلة هي أنه يستحيل تماماً رؤية أي نجوم بالقرب من الشمس بسبب ضوئها الساطع. إلا في أثناء كسوف الشمس الكلي.
سمح الكسوف الكلي للشمس في العام 1919 للفلكي آرثر إدينغتون Arthur Eddington وزملائه بتصوير مواقع النجوم حول الشمس وقياسها خلال تلك اللحظات القليلة من الظلام.
عندما عادوا وفي جعبتهم تأكيد التأثير، استُقبل استنتاجُهم بالترحيب على نطاق واسع باعتباره نجاحاً باهراً للنسبية العامة، وعلى الفور جعل ذلك اسم آينشتاين على كل لسان.
في هذه الأيام تُعَد عدسة الجاذبية واحدةً من أدوات علم الفلك ذات الاستخدامات المتعددة، مما يفتح طرقاً جديدة رائعة للاستكشاف الكوني. نظراً إلى أن العدسات يمكن أن تعمل على تكبير الصور أو تغييرها أو تشويهها، فإنها تتيح لنا رؤية الأشياء التي لن تتمكن تلسكوباتنا من اكتشافها.
لقد سمحت لنا، في العام 2022، بمراقبة أبعد نجم منفرد على الإطلاق. رُصد إيريندل Earendel في صورة التقطها التلسكوب الفضائي هابل Hubble Space Telescope وظهر فيها مثل لطخة مشوهة بالقرب من عنقود مجرِّي Galaxy cluster، فقد ثُنيَت الصورة وضُخمت بسبب كتلة العنقود.
كيْتي عالمة في الفيزياء الفلكية النظرية. تشغل حالياً منصب كرسي هوكينغ Hawking Chair في علم الكون والتواصل العلمي in Cosmology and Science Communication في معهد بيريمتر للفيزياء النظرية Perimeter Institute for Theoretical Physics
حتى الأشياء غير المرئية يمكن الكشف عنها عن طريق تأثير عدسة الجاذبية. ولأن التأثير يعتمد فقط على الكتلة، فيمكننا استخدامه لرسم خريطة للمادة المعتمة Dark matter أو الثقوب السوداء Black holes التي تبتلع الضوء.
يتمثل جزء كبير من العلم في عملية إنشاء أدوات لتحسين ملاحظة وفهم العالم الطبيعي. لكن في بعض الأحيان يبني الكون الأدوات بنفسه. والأمر متروك لنا، ونحن نحدِّق في السماء، أياً كانت درجة شغفنا بها، لمعرفة كيف نستخدمها.