كيف يمكن أن يساعد تقدُّم علم الأدلة النووية على تنظيف تشرنوبل
خلافاً للاعتقاد الشائع، فإن المواد المشعة لا تتوهج. لكن فريقاً من خبراء علم الأدلة النووية Nuclear forensics يعملون على جهاز يجعلها تفعل ذلك. نوا ليتش Noa Leach، مراسلة مجلة بي بي سي ساينس فوكس، التقت العلماءَ الذين صمموا الجهاز المبتكر
في قسم الفيزياء الموجود تحت الأرض بجامعة بريستول University of Bristol، أخبرني د. دْيف ميغسون-سميث Dave Megson-Smith كم يُزعجه ارتداء البدلة الواقية من المواد الخطرة كلما ذهب إلى تشرنوبل.
يقول عالم الفيزياء النووية: ”بمجرد دخولكِ إلى الموقع، تبدئين في التعرُّق. وفجأة، تفقدين القدرة على تمييز ما يحيط بكِ. وتشعرين بأنك في مكان غير آمن“.
ويضيف زميله د. يانيك فيربيلين Yannick Verbelen وهو يقف بجوار ميغسون-سميث: ”أنت ملفوفة بالبلاستيك وتتعرقين. إنها من الأساس بيئة مرهقة بسبب وجود إشعاعات حولك ولا ترغبين في البقاء أكثر من اللازم“.
بينما كنا نتحدث في الطابق السفلي، بدأت تتكوَّن لديَّ فكرة عما يعنيه ذلك. بالطبع نرتدي معاطف المختبر الزرقاء الرقيقة بدلاً من البدلات الواقية من المواد الخطرة، لكن الحرارة المنبعثة من الآلات الكبيرة التي تدور حولنا تجعل من السهل فهم الشعور بعدم الرغبة في البقاء في القسم. يضاف إلى ذلك أن بعض الآلات تحتوي أيضاً على شذرات من المواد المشعة التي جُلبت من المواقع النووية.
ميغسون-سميث وفيربيلين مختصان في الاستجابة للكوارث وعمليات التطهير، وهما اختصاصيان فيما يعرف بـ”علم الأدلة النووية“ Nuclear forensics: وهو جمع العينات المشعة من مناطق الكوارث لتحليلها في مختبرهما. ومن خلال هذا يأملون استخلاص معلومات مثل ما إذا كانت العينة التي لا يزيد حجمها عادة على حبة رمل جاءت من الغبار المتساقط أو من مفاعل الاندماج النووي.
ولكن تركيزهما ينصب حالياً على تسهيل التعرُّف على المواد المشعة في مناطق الكوارث. والفكرة التي توصلا إليها هي جعلها تتوهج باللونين الأصفر والأخضر المضيء باستخدام أداة جديدة أطلقوا عليها اسم ”النجم المعتم“ Dark Star.
من مسافة آمنة
”الميزة الرئيسة لجهاز استشعار بصري، مثل هذا، هو أن العلماء يمكنهم تقصي الإشعاعية من مسافة آمنة والحد من خطر التعرض لها“
بدلاً من الاعتماد على عدادات غايغر Geiger وتردداتها المتسارعة المألوفة في عديد من الأفلام، سيكتشف النجم المعتم اليورانيوم باستخدام كاميرا تعمل بالأشعة فوق البنفسجية Ultraviolet قد ينتهي الأمر بتركيبها على درونة أو روبوت. الميزة الرئيسة لحيازة جهاز استشعار بصري، مثل هذا، هو أن العلماء يمكنهم تقصي الإشعاعية من مسافة آمنة ومن ثم الحد من خطر التعرض لها.
يُعَد النجم المعتم أقوى جهاز تصوير بالأشعة فوق البنفسجية في العالم. وفي اسمه تشير كلمة ”النجم“ إلى ضوئه شديد السطوع، في حين تشير كلمة ”المعتم“ إلى أن الضوء غير مرئي للعين البشرية. صُمم ليعمل باستقلالية ويعاير نفسه مع البيئة ويضيء أيَّ مادة مشعة ويسجل البيانات. كل ذلك في حين يبقى العلماء في مأمن بعيداً عن الأذى. القسم الأكبر من عدادات غايغر يُحمل باليد ويتعين استخدامه عموماً في أماكن قريبة. كما أن هذه العدادات تكشف عن وجود مادة مشعة في مكان قريب ولا تكتشف موقعها على وجه التحديد.
حقق ميغسون-سميث وفيربيلين وفريق مشروعهما الصغير اختراقاً بفضل هذه التكنولوجيا في شهر مارس من العام 2024، عندما سافروا إلى مناجم اليورانيوم المهجورة التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة في صحراء أريزونا بالولايات المتحدة الأمريكية، وأجروا بعض التجارب.
الفريق معروف دولياً باستخدام الروبوتات لتتبع انتشار الحوادث الإشعاعية ومخاطرها. عندما أسقطت شاحنةٌ في أثناء سيرها في غرب أستراليا في يناير 2023 كبسولةً مشعة قوية بما يكفي لقتل من يلمسها في غضون ساعات، ظل الفريق على أهبة الاستعداد للعثور عليها، علماً أنها بحجم أصغر أظافرك.
أما النجم المعتم، فهو في الأساس نظام استشعار متطور جداً، لا يختلف عن الكاميرا الرقمية باهظة الثمن، ولكن يمكنه التقاط صور لأشياء لا يمكننا رؤيتها.
يقول فيربيلين: ”على النقيض من الفكرة التي طرحها مسلسل عائلة سيمسونز The Simpsons، فإن اليورانيوم لا يتوهج في الظلام… إنه مجرد معدن ثقيل لا يختلف كثيراً عن الرصاص، وإن كان مشعاً قليلاً… ولكن، عندما يتعرض اليورانيوم للماء والهواء في البيئة الطبيعية، فإنه ’يصدأ‘ ويشكل أكاسيد اليورانيوم. وعندما تتحد هذه الأكاسيد مع عناصر أخرى، فإنها تُشكل معادن تتوهج في الظلام، مع القليل من المساعدة“.
هذه المساعدة هي ما يسميها العلماء ”الفلورة المحفَّزة“ Stimulated fluorescence. فعندما يمتص اليورانيوم نوعاً آخر من الإشعاع، وهو في هذه الحالة الأشعة فوق البنفسجية، يبعث ضوءاً استجابةً لذلك وهو ما نَعُده توهجاً.
لكن الأمر ليس بسيطاً أو مباشراً مثل تسليط مصباح الأشعة فوق البنفسجية على المادة المشعة. يوضح فيربيلين: ”لجعل معادن اليورانيوم تتوهج عن طريق التألق (التفلور) Fluorescence، نحتاج إلى مصدر ضوء للأشعة فوق البنفسجية أقوى بكثير من ذلك المستخدم للكشف عن النقود المزيَّفة في السوبر ماركت… ولا توجد مقابس كهربائية في مناجم اليورانيوم المهجورة لتوصيل مصادر الضوء. كيف يمكننا حل هذه المشكلة؟ هنا يأتي دور النجم المعتم“. تُزوِّد الجهازَ بالطاقة بطاريةُ ليثيوم أيون قابلةٌ لإعادة الشحن ويمكن تركيبه على حامل كاميرا عادي ثلاثي القوائم.
ظلال السلامة
التألق (التفلور) الذي ينتجه النجم المعتم قوي بالطبع. وهو يكفي – وفقاً للعلماء – لإغراق مناجم أريزونا في وهج مخيف. ولكنّ له مع ذلك مخاطرَه؛ فالتعرُّض المباشر له من شأنه أن يسبب ما يعادل حروق الشمس. وحتى التعرض لأجزاء صغيرة من الأشعة فوق البنفسجية المتناثرة المنعكسة من جدران المناجم يمكن أن تلحق الضرر بالبصر.
لذلك، على الرغم من عدم الحاجة إلى البدلات الواقية من الخطر، يتعين على فريق الكشف عن الأدلة النووية وضعُ نظارات شمسية. وهذا ما يجعل مظهرهم غريباً وهم يعملون في أعماق الأرض. يقول فيربيلين مازحاً: ”لو رآنا أحد، لظنَّ أننا مجانين، من دون أدنى شك“.
سيعود النجم المعتم قريباً إلى مناجم أريزونا، لكنه سيُثبَّت هذه المرة على مسيَّرات (درونات) وروبوتات متحركة. توفر المناجم مكاناً جيداً لاختبار المعدات التي قد تستخدم لاحقاً في أماكن مثل تشرنوبل وفوكوشيما، ”لن يكون التجوال فيها آمناً بالتأكيد“، يقول فيربيلين.
في الوقت الحالي، تبقى بدلات الوقاية من الخطر إلزامية في المناطق الخطرة. ومع ذلك يؤكد كل من ميغسون-سميث وفيربيلين أن الإشعاع ليس شيئاً يدعو إلى الخوف. فهما يتعرضان لكمية أكبر من الإشعاع عندما يحلقان فوق القطب الشمالي في كل رحلة إلى الولايات المتحدة مما يتعرضان له في مناجم اليورانيوم. يقول ميغسون-سميث إن القليل من الخوف يشير إلى أن المرء عقلاني ويحسب حساب المخاطر، قبل أن يضيف فيربيلين: ”لكن لا داعي للخوف إذا كنتِ تعرفين ما تفعلين. ولهذا السبب فإن النجم المعتم مهم جداً. نحن حالياً قادرون على رؤية المادة المشعة من مسافة 3-10 أمتار (10-33 قدماً). لم يعد الأمر يتطلب أن نقف بجوار المادة“.