أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم الاجتماعيةعلم الإنسانعلم الاجتماع

لماذا يتملكنا الغضب ؟

في كل مرة نلقي فيها نظرة على هواتفنا أو نتحقق من مواقع وسائل التواصل الاجتماعي تقابلنا تغريدات غاضبة وعناوين تثير الغضب. لماذا يتملكنا الغضب جميعاً، وهل ثقافة الاتصال المستمر بالشبكة هي التي تستثير غضبنا؟

إيمي فليمنغ Amy Fleming

لقد صار الغضب العاطفة التي تميز القرن الحادي والعشرين، مثل شارة رُسم عليها إصبع يوجه الاتهام ونتباهى بحملها. من ردة الفعل المتهجم على شاي يوركشير تي Yorkshire Tea، عندما نُشرت صورة للسياسي المحافظ ريشي سوناك Rishi Sunak مع علبة منه في فبراير من هذا العام، إلى الغضب الذي اعترى معسكري بريكزت Brexit المؤيد والمعارض لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعبرت عنه حشود تنتظر متحفزة على تويتر لمهاجمة أي شخص يعارضها أيديولوجياً. صار الغضب مترصدا ومملوكاً ومبجلاً أكثر من أي وقت مضى.
بغض النظر عن الموقف الذي تتخذه حيال كل حالة بمفردها، صار الغضب والمناداة بصوت عالٍ بإنزال القصاص – غالباً مع قلة اهتمام بالسياق، ومن دون أي تعاطف مع شخص ربما ارتكب خطأ لدى كتابة جملة من 280 حرفاً أو أقل – ظاهرةً مقلقة. إذ صار بوسع أي شخص لديه هاتف ذكي ودون أن يعرِّف عن هويته أن يتنمر وهو جالس في الحافلة على الآخرين ويسيء إليهم، بل ويذلهم ويستخف بهم. إذن، فهل نحن أمام خطر أن يتسلل هذا الغضب التلقائي والتهجم الاستقطابي من خلف شاشاتنا إلى الواقع المعاش بلحمه ودمه؟ أم، وربما ما هو أكثر إثارة للقلق أن منصات الإنترنت إنما هي مجرد مرآة تعكس ما كان موجوداً بالفعل أمامها؟

استياء وإحراج
من الصعب علمياً قياس ما إذا كنا نزداد غضباً أم أننا ببساطة ننفس أكثر عما في دواخلنا. ويستند أحدث تقرير صدر حول العواطف عن غالوب Gallup Global Emotions Report إلى 151,000 مقابلة مع أشخاص في 140 دولة. منذ أن بدأ إصداره في عام 2016، وجد التقرير أن عدد المستجيبين الذين شعروا بالغضب قد ارتفع، إذ يبلغ المتوسط العالمي حالياً %22. (يبلغ الغضب في المناطق التي تمزقها الحرب ضعف ذلك، إذ عبر عن شعور بالغضب %43 من مواطني فلسطين و%44 من مواطني العراق). ومع ذلك، فإن ما يمكن للطبيب النفسي والمؤلف الدكتور آرون باليك Aaron Balick قوله بثقة هو إنه في عصر الإنترنت “ازدادت القدرة على الإصابة بعدوى الغضب العاطفية، بالتأكيد يمكنك أن ترى الغضب يعتري الناس بسهولة أكبر”.
فمثلا، ارتفعت الاعتداءات على موظفي شركة النقل في لندن Transport for London بنحو %25 في السنوات الثلاث الماضية، من 505 إلى 628، في حين وجد تقرير 2019 للنادي الملكي للسيارات RAC’s 2019 Motoring Report الذي يستطلع آراء سائقي السيارات أن 3 من كل 10 سائقين تعرضوا لإساءة المعاملة على الطرق في العام الذي سبق، في حين تضاعف خلال 12 شهراً، عدد الأشخاص الذين قالوا إن أكثر ما يخشونه هو السلوك العدواني للسائقين الآخرين.
مع ذلك، وإلى وقت قريب، كان إظهار الغضب دليلاً على العدائية أو الافتقار إلى القدرة على ضبط النفس والتعقل. وكان السواد من الناس يتكتمون على غضبهم المحتدم تحت السطح، لأن الغضب كان مقصورا للدفاع عن الدين. لكن حالياً، كما تقول المؤرخة الدكتورة باربرا روزينواين Barbara H Rosenwein، فإن الغضب “صار للناس العاديين وصار شائعاً… وصار غضب أي شخص سلوكا فاضلا”. وأياً كانت القضية التي تحبذها، وسواء كنت تؤيد الحركة النسوية أم النشاط البيئي أم بريكزت، صار التعبير عن السخط نوعاً من الشجاعة والنُبل، وهو شكل من أشكال التفوق الأخلاقي. لكن هل هو مفيد بالضرورة؟

الاستشاطة غضباً
تقول الدكتورة ناديا هيْم Nadja Heym، عالمة النفس من جامعة جامعة نوتينغهام ترينت Nottingham Trent University، والمتخصصة بالاختلافات الفردية، وعلم نفس الأمراض والسلوك المعادي للمجتمع: “إن للسلوك العدواني تكلفة اقتصادية باهظة…. له تأثير كبير في العلاقات والأداء في العمل والصحة النفسية والصحة بشكل عام”. وفي حين أنه لا يمكننا تجنب الغضب الناشئ، فإن السماح له بأن يستمر ويصير مزمناً يزيد من خطر تجاوز الحدود إلى الإساءة. وتقول هيْم: “من المفيد التنفيس عن غضبك إلى حد ما…. [لكن] ما يمكن أن يكون ضاراً هو مدى شدته وتكرار التعبير عنه، والوقت الذي يستغرقه”.
وباعتباره غريزة أساسية للبقاء كردة فعل على استفزاز أو إحباط أو تهديد، فإن الغضب هو الدافع لاستجابة القتال أو الهروب Fight or flight response. تقول هيْم: “إنها عاطفة ملموسة يمكنها أن تحركنا جسدياً وتمدنا بالنشاط”. فتتسارع ضربات القلب ويُفرز الجسم الأدرينالين ويستبد بك الغضب. وللسيطرة على هذه الغرائز الحيوانية المرتبطة باللوزة الدماغية Amygdala، تمدنا القشرة الجبهية الحجاجية Orbitofrontal cortex بمعلومات حول السياق، بينما تراقب الفصوص الأمامية Frontal lobes وتضبط عواطفنا. لكن يمكن أن يختل هذا النظام في بعض الأحيان بفعل الوراثة الجينية أو أن نتعلم الغضب من خلال التشبه بالآخرين (مثل أن ننشأ في منزل عنيف) أو بسبب ضعف إدارة الغضب.
وتقول هيْم: “لدينا هذه الاستجابة القلبية الوعائية غير السارة [عندما نشعر بالغضب] التي قد تثير المزيد من المشاعر السلبية، ونشعر بأننا بحاجة إلى التخلص منها”. وقد يؤدي التنفيس عن ذلك على شكل ثورة من الغضب إلى الإحساس بالارتياح، لكن كلما فعلنا ذلك أكثر، “زاد ربطنا لذلك التخفيف بانفجار الغضب”. ويمكن لهذا أن يدفعك إلى أن تستشيط غضباً بشكل متهور بدلاً من أن تتعلم كيف تسيطر بصورة إيجابية على غضبك. وبالمثل، سيسهل اجترار الغضب ومواصلة التفكير فيه حدوث مزيد من الانفجارات الغاضبة. وتضيف هيْم: “إذا واصلنا اجترار ذاك الغضب، والمحفزات التي سببته، فإننا نحمل تلك المشاعر السلبية معنا، وهي قد تتفاقم بمرور الوقت”.

غضب دائم مع دوام الاتصال بالشبكة
المشكلة في الاتصال الدائم عبر وسائل التواصل الاجتماعية والمنافذ الإخبارية تكمن في احتمال التعدي على حدودنا وهوياتنا وقيمنا في كل مرة ننظر فيها إلى هواتفنا، مما يحولنا جميعاً إلى علب كبريت سريعة الاشتعال. ويقول باليك: “يمكنك أن تقول إن الناس في حالة غضب مزمنة”. وهو يشبِّه ضيق هامش التسامح لدينا بما يحدث أثناء قيادة السيارة. “أنت في حالة توتر خفيف أو مرتفع؛ إذا تجاوزتك سيارة، من المرجح أن تصرخ من النافذة. بينما إذا كنت هادئاً نسبياً، وحدث الأمر نفسه، سيكون لديك هامش يتيح لك ضبط أعصابك. يميل الأشخاص المتصلون بوسائل التواصل الاجتماعي التي يسودها الغضب إلى امتلاك هامش قليل لاحتواء غضبهم أيضاً”.
يولي باليك اهتماماً خاصاً لوسائل التواصل الاجتماعي بعد أن حلل نفسياً السلوك على الانترنت خلال العمل على كتابه الديناميكيات النفسية للشبكات الاجتماعية The Psychodynamics Of Social Networking. ويرى باليك إن لإخفاء الهوية دوراً كبيراً في التعبير عن الغضب عبر الإنترنت، حيث من المرجح أن يستخدم الأشخاص حسابات مجهولة الهوية على تويتر أكثر من فيسبوك. ويقول “يزداد احتمال التعبير عن الغضب والسخط، ولا سيما إذا كان لديك حساب مجهول الاسم”. وبالمثل، فإن عدم الكشف عن هويتنا والأمان النسبي الذي نشعر به داخل سياراتنا يمكن أن يولدا سلوكاً مسيئاً إلى حد صادم، مما يسلط الضوء على مدى قدرتنا على إساءة التصرف عندما نعتقد أنه يمكننا فعل ذلك والإفلات من عواقبه.
لقد بُرهن على قوة عدم الكشف عن الهوية في تجربة مشهورة نشرها في عام 1970 الدكتور فيليب زيمباردو Philip Zimbardo، أستاذ علم النفس الفخري في جامعة ستانفورد Stanford University. وفي التجربة، طُلب إلى طالبات إعطاء صدمات كهربائية لطلبة آخرين في حين أخفيت هوية بعضهن بأن طلب إليهن ارتداء رداء بقلنسوة وتخفيف الإضاءة. ليس من الصعب توقع أي مجموعة أعطت صدمات ضعفي الأخرى.
في عام 1976، منح عالم النفس البروفيسور إد دينر Ed Diener مجموعةً من 1,300 طفلاً الفرصة لسرقة الحلوى والمال أثناء مشاركتهم في الهالوين عند المرور على المنازل طلباً للحلوى أو المال. وقد سرق الأطفال أكثر عندما لم تكن هويتهم معروفة. كما أنهم سرقوا أكثر عندما كانوا في مجموعات بدلاً من الذهاب بمفردهم. تقول هيْم إن الناس أكثر ميلاً أيضاً إلى التعبير عن سلوك غاضب وعدواني عندما يكونون ضمن حشد. وتقول: “يشعر الناس بأنه يصعب التعرف عليهم، ونشعر بأننا مقيدون وبأن مساحتنا الشخصية منتهكة”.
بهذه الطريقة، يتكرر كثيراً الغضب المُعدي الذي تعبر عنه حشود تويتر ويمثل قوة مرعبة. يعاد تغريد تغريدة واحدة غير حكيمة مع رفض محتواها، فتنتشر فيروسيا بسرعة، وفي غضون أيام يصير المغرّد الأصلي منبوذاً، ويتلقى تهديدات بالقتل ويفقد وظيفته. وفي هذه الأثناء يستمتع المغردون الغاضبون بانتصارهم ويبتهجون للتأييد الجماعي الذي حصلت عليه تبريراتهم. وإذا أطلقتَ تغريدة غاضبة، فإن تعبير المغردين الآخرين عن إعجابهم بها وإعادة تغريدها قد يصب الزيت على نار غضبك، الأمر الذي قد يكون مثيراً في حد ذاته، أو قد يسعدك كثيراً لدرجة أنك تتوقف عن الشعور بالغضب. يقول باليك: “الغضب عاطفة درامية…. قد يكون له أثر تراكمي إذ يصير مرتبطاً بالإحساس المثير الذي تحصل عليه من خلال حسابك، حتى وإن كانت عاطفة غير لطيفة مثل الغضب، وهذا إلى حد كبير ما هي عليه العدوى العاطفية”.
لكن هل صُمم تويتر للحفاظ على تدفق الغضب؟ يقول باليك: “لا أعرف إن كان التصميم متعمداً…. ما أعرفه هو أن العواطف الجياشة التي تسرِّع نبضات القلب، مثل الغضب والخوف، تميل إلى أن يكون لها فعل معدٍ أكبر”. فإذا كانت هذه الموضوعات تميل إلى أن تكون أكثر تداولاً، فمن المحتمل أن تدفع الخوارزميات باتجاه تعزيز العدوى.
وفي حين أن الناس قد يحصلون على فرصة للتنفيس عن غضبهم على تويتر، فإن ذلك غير مفيد برأي باليك. يقول: “إن معالجة الغضب أمر مفيد”. مثلا، إذا غضبت من شخص ما بسبب استفزازه المستمر لك ثم اعتذر منك، فذلك معالجة للأمر. كما أن الحديث عنه مع صديق أو شريك سيساعدك على معالجته. ويضيف: “أما مجرد الصراخ في الشوارع ‘أكره أن يستفزني الناس’ فيندفع آخرون لقول: ‘أنا أيضاً أكره أن يستفزني الآخرون!’ فإنه لن يعود عليك بأي فائدة، إنه ينتشر فحسب”.
من الصعب العثور على أدلة على مدى تأثير الغضب في تويتر على الحياة الواقعية بعيداً عن الشاشات الذكية. يقول باليك: “إن وسائل التواصل الاجتماعي امتداد لما هو موجود بالفعل”. فالفقر وعدم المساواة وعدم الثقة في السياسيين وتهديد حقوق الإنجاب والإقصاء الاجتماعي والعديد من القضايا الحقيقية الأخرى تغضب الناس. ويضيف: “في بعض الحالات، قد تكون [وسائل التواصل الاجتماعي] مُسرِّعاً، مما يزيد من حالات الغضب والإحباط والاستقطاب الموجودة بالفعل”. ويمكن للمرء أن يجادل أيضاً في أن الطريقة التي ننظم بها مصادرنا الإخبارية تغذي الاستقطاب. يقول باليك: “تعزز مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر الانحياز التأكيدي Confirmation bias”. “إذا كنت تقف موقفا معينا من قضية ما، فسوف يوجهك الانحياز التأكيدي الفطري لديك إلى قبول الأخبار والقصص التي تتفق مع رأيك، ثم ينسج حولك تويتر أو فيسبوك فقاعة تنتقي ما يصلك. ويمكن القول إن هذا يزيد نوعاً من السخط الذي يشعرك بأنك محق ويحض عليه وقد ينتج منه فعلاً سلوك خارج الشبكة الاجتماعية”.

وتنفس…
هناك استراتيجيات لمساعدتك على التعقل عند الغضب. تقول هيْم: “الأمر كله يتعلق بمحاولة السيطرة على تلك المشاعر القوية”. وتقول إن هناك أدلة على إمكانية أن نجني فوائد إيجابية من طريقة تسمى ‘إعادة التقييم المعرفي’ Cognitive reappraisal. وهذا يعني العودة خطوة إلى الوراء بعيداً عن الاستفزاز ومحاولة رؤيته من وجهة نظر مختلفة. التركيز على التنفس أو العد وقد يساعد على ذلك. تقول هيْم: “إذا تجاوزك أحدهم وركن سيارته في الفسحة الموجودة أمامك مباشرة، سيولِّد هذا لديك ردة فعل غاضبة…. قد تبدأ بالتمتمة أو الصراخ، وقد تضغط على بوق السيارة، وقد يخرج البعض من السيارة ويهاجمون ذاك الشخص. لكن قد تساعد محاولة إعادة تقييم الموقف، وتعلم كيفية السيطرة على قشرة الجبهة الأمامية Prefrontal control المسؤولة عن السلوك المعرفي في إثباط الرغبة في التنفيس عن الغضب”.
لكن محاولة كبح المشاعر الغاضبة ليست هي الإجابة الصحيحة. وتحذّر هيْم من أنه “إذا كتمت غضبك كثيراً ولم تنفّس عنه، قد يؤدي ذلك إلى نتائج عكسية”. وقد يكون تصريف طاقتك الغاضبة من خلال ممارسة الرياضة مفيداً. أما إذا كنت تغلي وعلى وشك أن تفقد أعصابك، تقول هيْم إنّ صرف استجابتك الغاضبة عن مصدر الغضب قد يساعد على تجنب حدوث كارثة. وتقترح: “اضرب مقعد السيارة بدلاً من الخروج من السيارة وضرب أحدهم…. لمجرد التخلص من تلك الرغبة في تفجير غضبك الذي تشعر به في هذه اللحظة، لأن فقدان السيطرة قد يجعلك تدفع الثمن غالياً”.
كما تظهر ممارسة التأمل الواعي Mindfulness نتائج واعدة إذ يساعد على تدريب العقل على رؤية وفهم ما يحدث في اللحظة الراهنة دون ردة فعل. تقول هيْم: “كلما مارست التأمل الواعي Mindfulness، حققتَ مزيداً من التحسُّن في ممارستها…. ستتعلم أن هذه المشاعر السلبية هي تجارب عابرة. يرتفع معدل ضربات قلبنا، نستثار ونريد أن نرد، لكن السيطرة على حالتك تساعدك على رؤية كيف أن هذا الأمر عابر وكيف يتلاشى، ومن ثم يمكننا التعامل مع المشكلة بطريقة مجدية أكثر”.
تقول هيْم إن التهجم اللفظي قد يكون مؤذياً مثل العدوان العنيف. سواء كنت على وشك الرد على تغريدة مستفزة، أم طفل يجد صعوبة في النوم أم على بوق سيارة زعق في وجهك أثناء القيادة، فإن الرسالة هي “حاول أن تأخذ خطوة إلى الوراء، وخذ نفساً، وأخرج نفسك من لحظة الاستياء تلك، وأعد تقييم الوضع عن وعي قبل أن تتصرف”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى