أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقالات رئيسية

نظام مناعي للكوكب

هل يمكننا بناء نظام دفاع عالمي ضد العوامل المُمرِضة- مكافئ كوكبي لجهاز المناعة لدينا- لحمايتنا عند حلول الجائحة التالية؟

في معظم الأوقات نتجول جميعاً داخل فقاعة صغيرة، هي بمنزلة نظام دفاعي يمكنه اكتشاف التهديد وتحييده قبل أن تتاح له الفرصة لإلحاق الضرر بنا. هذه هي أعجوبة جهاز المناعة البشري الذي لا نشعر بوجوده إلا عندما نمرض.
ماذا لو تمكنا من منح كوكبنا جهاز مناعة مماثلاً لجهازنا المناعي؟ شبكة صامتة من أقمار اصطناعية وحواسيب عملاقة تتعقب بهدوء أي شيء يمكن أن يسبب الجائحة التالية؛ شبكة مهيأة لسَلسلة جينوم الجاني، وقادرة على تطوير لقاحات وعلاجات بمجرد أن يضغط شخص على الزر الصحيح. هذه هي رؤية خبير التكنولوجيا العالمي د. ديفيد براي David Bray الذي يعتقد أننا في حاجة إلى بناء “نظام مناعي للكوكب”.
يقول براي: “أنا أتحدث عن نظام ديناميكي يتعلم الاستجابة لما هو موجود في عالمنا… إذا فكرتِ في عالمنا ككائن حي ونحن أجزاء من هذا الكائن الحي، فما الذي يتعين علينا فعله، شيء شبيه بجهاز المناعة في أجسامنا، لاكتشاف أن شيئاً ما يحدث وهو ضار بصحتنا؟”.
براي هو زميل متميز في مركز ستيمسون Stimson Center، وهي مؤسسة غير ربحية مقرها في العاصمة الأمريكية واشنطن، وتُجري أبحاثاً لحل المشكلات الكبيرة في العالم الواقعي باستخدام التكنولوجيا. إنه يتحدث بسرعة دماغه- بسرعة كبيرة- ربما لأن لديه كثيراً ليتحدث عنه. بدءاً من سن 15 عاماً حين عمل في وزارة الطاقة، استخدم الأقمار الاصطناعية لرصد حرائق الغابات، وبنى نمذجات حاسوبية لفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، وحصل على درجة الدكتوراه في “الاستجابات التنظيمية للزعزعة” Organisational responses to disruption، وأعد التقارير لمصلحة وكالة المخابرات المركزية CIA حول الإرهاب البيولوجي، وأجرى تحليلاً مستقلاً عن الوضع في أفغانستان لإدارة أوباما.
لا يهتم براي فقط بحل المشكلات الكبيرة؛ بل المشكلات شبه المستحيلة. يقول: “قد تقولين لي إن أحداً لم يفعل ذلك من قبل، تقولين إنه مستحيل. وأجيب: حسناً، هذا ما أريده!”. ويضحك. مثل الوقاية من الأوبئة؟ نعم، يقول، لكنه يوضح أن الهدف ليس بالضرورة منع حدوثها، ولكن اكتشافها والاستجابة لها في أقرب وقت ممكن. ما حدث مع كوفيد، كما يقول، هو أننا أضعنا كثيراً من الوقت قبل أن يؤخذ على محمل الجد.
ولكن هل يمكننا حقاً منع الجائحة اللاحقة من خلال استخدام التكنولوجيا للتعامل مع المشكلة؟ تُشكِّك عالمة الأوبئة من جامعة غلاسكو البروفيسورة سارة كليفلاند Sarah Cleaveland في هذا حيث تقول: “أعتقد أن علينا أن نخفف توقعاتنا بشأن العثور على حلول تكنولوجية سحرية”. وتضيف أنه على الرغم من أننا نقترب من القدرة على فحص فيروس أو جينومه، والتنبؤ بما إذا كان سيمثل مشكلة للبشر، فهذا “غير ممكن” في الوقت الحالي. غير ممكن: هو كل التشجيع الذي يحتاج إليه براي.

 

يمكن لشبكة من الأقمار الاصطناعية أن تساعد على تتبع الأنماط واكتشاف أي شيء غير اعتيادي للمساعدة على تنبيه العلماء قبل ظهور وباء محتمل.

الكشف والدفاع
نظام المناعة الكوكبي هو فكرة اقترحها براي على وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة الأمريكية (DARPA) في العام 2013. كانت الوكالة مشغولة بالعراق وأفغانستان، لذلك طُلبت منه العودة بعد “نحو سبع أو ثماني سنوات وبالطبع… حسناً، ها نحن هنا اليوم”، يقول براي مشيراً إلى حالة كوفيد من جديد.
في العام 2021، وُضع مخطط جديد لهذا المفهوم الذي ربما يكون من الأسهل فهمه في سياق الكيفية التي تعمل وفقها أنظمتنا المناعية. تكتشف أجهزة المناعة البشرية حملة الأمراض Disease carriers من خلال مجموعة متنوعة من المستقبلات Receptors على الخلايا الحية المنتشرة في كل عضو ونسيج. بالمثل يتخيل براي نظاماً يلتقط التهديدات المحتملة عبر شبكة رصد عالمية، نظاماً قد يشمل أجهزة استشعار تنتشر عبر الهواء والتربة والماء، إضافة إلى برامج الذكاء الاصطناعي (AI) Artificial Intelligence المدربة على اكتشاف الإشارات الغريبة في أنماط السلوك البشري والأسواق الاقتصادية التي يمكن أن تشير إلى تدخل مُعدٍ.
لدى رصد تهديد محتمل، ستتولى قوة معالجة النظام الهائلة سلسلته جينياً، وتوصيف تفاعلاته مع الخلايا البشرية، واستخدام تلك المعلومات لمعرفة كيف يمكن وقفه. في عالم مثالي، ستتولى الآلات المهمة بكاملها، مع أقل قدر ممكن من تدخلات البشر، مما يقلل وقت الاستجابة من سنوات إلى ثلاثة أو أربعة أسابيع.
قد يبدو الأمر ضرباً من الجنون. لكن إذا أخذناه جزءاً إثر جزء، فسنرى أننا نقوم بالكثير منه بالفعل، وكل ما نحتاج إليه هو ربط كل الأجزاء معاً. فلنأخذ الإشارات الغريبة، على سبيل المثال، وهو شيء من اختصاص براي. بين العامين 2000 و2005، كان براي رئيس قسم تكنولوجيا المعلومات لبرنامج الاستعداد والاستجابة للإرهاب البيولوجي Bioterrorism Preparedness and Response Program في المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها US Centers for Disease Control and Prevention، وكان جزءاً من وظيفته أن يبحث عما هو غير اعتيادي في البيانات قد يكون بمنزلة مؤشر مبكر على هجوم إرهابي بيولوجي. إذا كان الرئيس سيتحدث في المباراة الختامية لدوري كرة القدم (السوبر بول Super Bowl)، فإن فريقه سيبدأ قبل ثلاثة أيام، ويحدد مستويات أساسية لمبيعات الأدوية التي لا تستلزم وصفة طبية، ومكالمات الطوارئ والغياب عن المدرسة. يقول: “إذا [رأيت] ارتفاعاً مفاجئاً فيما الرئيس يتحدث، فقد يكون ذلك مؤشراً إلى حدث على صلة بالإرهاب البيولوجي”.

 

في الصين ، يُنظر إلى الثوم على أنه علاج لأمراض مختلفة. قبل اندلاع السارس بدأت أسعار الثوم في الصين في الارتفاع. حدث هذا مرة أخرى قبل جائحة COVID

 

مثال آخر هو الثوم في الصين حيث يُعتبر علاجاً لجميع الأمراض. ارتفع سعره بسرعة عندما ضربت متلازمة سارس SARS مقاطعة غوانغدونغ Guangdong في العام 2002، ومرة أخرى في أوائل العام 2020، حين بدأ كوفيد ينتشر. في العام 2002، فهم براي وزملاؤه من ارتفاع أسعار الثوم، إضافة إلى زيادة عدد السيارات التي ظهرت في مواقف السيارات بالمستشفيات، أن شيئاً ما يحدث. يقول: “لقد علمنا بها قبل خمسة أشهر ونصف الشهر من وصولها إلى الساحة العالمية”. يمكن للذكاء الاصطناعي (AI) اكتشاف هذه الأنواع من التغيرات الغريبة، وفقاً لمفهوم براي، مما يشكل عنصراً رئيساً في نظام الإنذار المبكر.
هذا التتبع لكل ما هو غريب ليس سوى جزء صغير من المخطط. سيُحكِم نظام المناعة الكوكبي الرقابة على المرض من خلال الجمع بين طرق التقصي المختلفة.

 

يعتقد د. ديفيد براي أننا في حاجة إلى بناء نظام مناعي للكوكب من خلال كشف ما هو غير اعتيادي في البيانات.

 

مراقبة الصرف الصحي
بعد ذلك: هناك المجاري، وهي من الأماكن التي يقترح براي علينا البحث فيها عن مسببات الأمراض. هنا أيضاً، سُجلت سابقة. في العام 2013، أدى أخذ عينات من المجاري إلى الكشف عن انتشار وباء صامت لفيروس شلل الأطفال، مما أدى إلى إطلاق حملة تطعيم ساعدت على تجنب تفشي عدوى شلل الأطفال أكثر خطورة. حالياً، في معظم أنحاء أوروبا والولايات المتحدة، يساعد تقصي وجود كوفيد19- في مياه الصرف الصحي العلماء على الحصول على صورة غير متحيزة للكيفية التي ينتشر وفقها الفيروس. على سبيل المثال حلل باحثون إيطاليون بأثر رجعي عينات من مياه الصرف الصحي الخام التي جُمعت قبل بدء الموجة الأولى رسمياً، واكتشفوا آثار الفيروس في عينات أخذت من ثلاث مدن إيطالية في ديسمبر ويناير، قبل أسابيع من الإبلاغ عن أول حالة غير مستوردة في أواخر فبراير. ووفقاً للبروفيسور دراغان سافيتش Dragan Savic، الرئيس التنفيذي لمعهد أبحاث المياه Water Research Institute KWR في نيويغين بهولندا، فإننا ننظر بالفعل إلى مستويات المتحورات الجديدة.
يوضح سافيتش أن مياه الصرف الصحي توفر نافذة على ما يحدث حرفياً لدى الجميع. لذلك لا يتعين علينا انتظار بدء الاختبارات الجماعية، أو القلق بشأن ما إذا كان الناس سيُجرون الاختبار حين يتطلب الأمر ذلك. يقول: “هناك أشخاص لا تظهر عليهم أعراض، وهناك أشخاص يتعافون– وهؤلاء لن يذهبوا لإجراء الاختبار- وهناك عدد محدود من مجموعات الاختبار… لكننا نذهب جميعاً إلى المرحاض، لذلك إذا فكرنا في الأمر، فسنجد أنها عينات غير متحيزة”.

“إذا فكرنا في الأمر، فسنجد أن مياه الصرف الصحي توفر عينات غير متحيزة”

لذلك يمكن أن تنبهنا مياه الصرف الصحي مبكراً عندما يصيب مرض ناشئ منطقة جديدة أول مرة. باستخدام الذكاء الاصطناعي (AI)، يمكن أيضاً دمج المعلومات نفسها مع مصادر البيانات الأخرى، مثل أنماط الطقس أو التجمعات البشرية، للمساعدة على الكشف عن الكيفية التي ينتشر وفقها عامل مُعدٍ والتخطيط لتخصيص الموارد.
العنصر الرئيس الآخر في نظام براي هو شبكة الاستشعار الحيوي التي يتصور دمجها في النباتات والحيوانات. في مخططه للعام 2021، يصف عمليات الإرسال من أجهزة الاستشعار الحيوية التي تغذي شبكة حوسبة فائقة. أجهزة الاستشعار الحيوية هذه ليست خيالية. إنها أجهزة واعدة، وفي بعض الحالات، أجهزة مطورة تجارياً بالفعل (من الأمثلة أجهزة استشعار الغلوكوز لمرض السكري) بناءً على مكونات بيولوجية. من المقرر أن تُحدث تأثيراً كبيراً باعتبارها “أنظمة استشعار منخفضة التكلفة يمكن نشرها في الحقول”، وفقاً لعالِم الأحياء الصناعية البروفيسور بول فريمونت Paul Freemont الذي يعمل على تطوير أجهزة الاستشعار الحيوية في إمبريـال كوليدج لندن Imperial College London.
أجهزة الاستشعار الحيوية التي يستخدمها فريمونت هي خرزات فلورية تفقد تألقها عند ملامستها للبروتييزات Proteases، وهي إنزيمات تستخدمها مجموعة متنوعة من الكائنات الحية. تستخدم عديدٌ من الفيروسات- من فيروس نقص المناعة البشرية إلى الهربس- البروتييزَ للتكاثر. صممها فريمونت لاكتشاف أهداف مختلفة، بما في ذلك البروتييز من فيروس نباتي، وكذلك من دودة شيستوسوما مانسونية Schistosoma mansoni، وهي دودة طفيلية. تستخدم التقنية مكونات يقترح الباحثون إمكانية تعديلها للكشف عن مسببات الأمراض المختلفة، ربما في الأجهزة المحمولة في المناطق التي يكون فيها خطر انتقال الأمراض الحيوانية إلى البشر مرتفعاً.

 

عمال يفحصون نظام الصرف الصحي بحثاً عن آثار كوفيد19- في هونغ كونغ في يناير 2021. إن مراقبة مياه الصرف الصحي طريقة ممتازة للكشف عن انتشار مُسببات الأمراض، خاصةً إذا كان عديد من الأشخاص من دون أعراض، أو إذا تعذر إجراء اختبارات جماعية

 

نحو المجهول
ومع ذلك ففي رأي فريمونت، فإن زرع أجهزة الاستشعار الحيوية في النباتات والحيوانات قد يعني الذهاب بالفكرة بعيداً جداً. إنه غير مقتنع بأن أجهزة الاستشعار الحيوية ستساعدنا على استباق انتشار مرض جديد. يقول: “سؤالي هو: كيف يمكننا تضمين أجهزة استشعار لاكتشاف أشياء لا نعرف عنها شيئاً؟… يمكن أن يكون ذلك مفيداً للأهداف الموجودة، بالتأكيد، وللأهداف الناشئة التي نعرفها، لكن المشكلة هي الشيء الجديد تماماً. هل سيكون لديك ما يكفي من الوقت لإعادة تصميم ذاك النظام وإعادته إلى البرية؟”.
إنه سؤال وجيه. لا تستجيب أنظمتنا المناعية فحسب للبكتيريا والفيروسات التي سبق أن قابلتها. بل إنها تكتشف أي غزاة أجانب وتحمينا منها، باستخدام مستقبلات تميز بين “الذات” (نحن) و“غير الذات” (الغزاة). من الصعب تصور كيف يمكننا تكرار هذا النظام على نطاق كوكبي. لكننا نحتاج إلى أن نكون قادرين على معرفة ما قد يشكل أكبر التهديدات من بين عديد من الأمور المجهولة لنا. يقول براي إن هذا سيكون “الجزء الأكثر حداثة” في النظام.
أما د. كيفين إيسفلت Kevin Esvelt- عالِم الكيمياء الحيوية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا Massachusetts Institute of Technology- فلديه أفكاره الخاصة حول اكتشاف مسبِّبات الأمراض الجديدة والخطيرة. تهدف نظرياته في المقام الأول إلى التعامل مع ما يسميه “التنوع المتعمد” The Deliberate Variety للجائحة– وهذا في رأيه مشكلة أكثر صعوبة من مشكلة تحدث بنحو طبيعي. لماذا؟ لأنه، كما يقول، يجب أن نتوقع أن الإرهابيين البيولوجيين سيصمِّمون أسلحةً تتحايل على أي دفاعات نعدها. لذلك نحن في حاجة إلى نهج أكثر انفتاحاً لاكتشاف هذه الأشياء؛ نهج لا يكتشف فقط المتغيرات الجديدة للأمراض القديمة، ولكن شيئاً شبيهاً لم نرَه من قبل.
في ورقة بحثية نُشرت قبل الطبع على موقع arXiv في أغسطس 2021، اقترح إيسفلت مرصداً عالمياً للحمض النووي Global Nucleic Acid Observatory يسلسل جينوم كل شيء نواجهه في الصرف الصحي وخارجه. ولكن كيف سيساعدنا هذا النهج على تحديد تلك الكائنات التي ينبغي أن نتوخَّى الحذر منها بصورة خاصة؟ كما توضح الورقة البحثية، فإن السمة المميزة الحقيقية لأي كائن حي لديه إمكانية أن يسبب جائحة هي النمو الجامح الذي يمكن أن يظهر على شكل انفجار في مستويات تسلسل الجينوم الخاص به.
يوضح إيسفلت: “بحكم طبيعته، يجب أن ينمو أي تهديد خطير نمواً كبيراً… يجب أن يسمح لنا هذا باكتشاف أي شيء يحتمل أن يسبب مشكلة- سواء كانت آفة غازية، أو آفة محاصيل، أو فيروساً وبائياً جديداً- لا علاقة لها بأي شيء رأيناه من قبل، أو حتى شيء جديد تماماً ابتكره أحد خصومنا”.

 

يوضح عمل د. كيفين إيسفلت كيف يمكن لأنظمة الإنذار المبكر اكتشاف الأنواع الغازية، وكذلك الكائنات الحية التي يمكن أن تسبب جائحة

 

ديدان الشيستوسوما المانسونية Schistosoma mansoni الطفيلية. الأنثى (باللون الوردي) تعيش داخل أخدود على الذكر (أزرق). طور البروفيسور بول فريمونت أجهزة استشعار حيوية تفقد فلورتها عندما تتلامس مع الإنزيمات التي تنتجها الديدان

هل يمكن أن يشكل شيء مثل هذا المرصد جزءاً رئيساً من جهاز مناعة الكوكب؟ من جانبه يقول فريمونت إنه اقتراح “مقنع” لحل مشكلة اكتشاف مسببات الأمراض Pathogens الجديدة تماماً. ولكن، للاضطلاع بكل هذا، نحتاج إلى جيوش من جامعي العينات لإرسال العينات بالبريد إلى المختبر كل بضعة أيام. بالمقارنة مع نظام الكشف السلس الذي يتخيله براي، يبدو هذا أمراً شاقاً إلى حد ما. لكن إيسفلت يقول إن الأمر يستحق العناء. ويضيف قائلاً: “إن سلسلة الجينوم في اليوم اللاحق تنطوي على تكلفة ضئيلة مقارنة بتكلفة السلسلة نفسها، وخسارة يوم واحد مقابل الموثوقية هي مقايضة ممتازة”.
لكن التسلسل لن يخبرنا بكل شيء. سيتعين فحص أي مسببات للمرض لديها إمكانية إحداث جائحة بدقة وبالتفصيل على المستوى الجزيئي، ليس فقط لمعرفة ما إذا كانت تشكل تهديدات حقيقية، ولكن أيضاً كيف يمكننا التعامل معها. ويُقرُّ براي: “سيتطلب ذلك كثيراً من البحث”.
في جامعة ولاية واشنطن Washington State University، يهدف مشروع يسمى Deep VZN إلى أن يفعل شيئاً مماثلاً. سوف يصف المشروع Deep VZN آلاف الفيروسات من الحيوانات البرية في 12 دولة، مع التركيز على عائلات الفيروسات التي أتت بكوفيد19- والإيبولا والحصبة. يقول رئيس المشروع د. فيليكس لانكستر Felix Lankester إن فريقه يخطط لفحص البنية الجزيئية لتلك التي جينوماتها “غير معروفة”، بحثاً عن نوع القفل والمفتاح المناسب له بين الجزيئات الموجودة على سطح الفيروسات ومستقبلاتها المحتملة على الخلايا البشرية. سيستخدمون أيضاً خوارزمية لتقييم احتمال انتقال الفيروسات إلى البشر، والنظر فيما إذا كان بإمكان هذه الفيروسات أن تفلت من دفاعاتنا المناعية أو تثبطها. يقول لانكستر: “سيجري توفير هذه المعلومات لتصميم الإجراءات المضادة وتطويرها، مثل اللقاحات ووسائل التشخيص الجديدة”.

“سوف يميز DEEP VZN آلاف الفيروسات من الحيوانات البرية في 12 دولة”

في المستقبل، يتوقع براي أن تضطلع الآلات بكثير من العمل المطلوب. مع قطع برامج الذكاء الاصطناعي (AI) مثل ألفا فولد AlphaFold من ديب مايند DeepMind بالفعل خطوات كبيرة في توقع الهياكل ثلاثية الأبعاد للبروتينات، قد لا يكون مثل هذا التفكير مبالغاً فيه. لذا، إذا تركنا جانباً صعوبة التنبؤ بالكيفية التي ستظهر وفقها الأعراض في بشر حقيقيين (قبل أن يصاب أي منهم بالفعل)، فقد يبدو كل هذا في النهاية ممكناً تماماً.
ولكن الأمور تخرج عن نطاق الممكن قليلاً، عندما نصل إلى أفكار براي حول كيف يمكن الرد على مثل هذه التهديدات. فهو يريد طرح لقاحات مصممة آلياً بلمسة زر واحدة، بل يقترح توزيع الأجسام المضادة في مياه الشرب، وهي خطوة قد تبدو أقل تطرفاً إذا كنا نتحدث عن شيء أكثر خطورة من كوفيد. وهو ما يتحدث عنه. يقول براي: “نحن لا نتحدث عن جائحة بطيئة الانتشار مثل تلك التي لدينا حالياً. إنما عن وضع يكون لدينا فيه ساعة أو أقل للبقاء على قيد الحياة”، مشيراً إلى أن أول مكان لتجربة هذا سيكون في مواجهة استخدام أسلحة بيولوجية في ساحات المعارك.
هذا يطرح سؤال: هل سيُقنع صانعو السياسات بالتفكير مسبقاً قبل حلول جائحة ما؟ تشير كليفلاند إلى أنه حتى بعد كوفيد، ما زال هناك تجاهل لتحذيرات علماء الأوبئة. ومن الأمثلة على ذلك فيروس هندرا Hendra virus، وهو مرض تنقله الخفافيش ويمكن أن يكون قاتلاً للخيول والبشر إذا انتشر. في العام 2020 حذر باحثون أستراليون وأمريكيون من ارتفاع مخاطر انتشار الفيروس خلال الشتاء التالي، لكن من دون جدوى. تقول: “في رأيي كانت تلك فكرة رائعة حقاً. لدينا لقاح. وهذا مرض قاتل. كان لدينا مؤشر جيد على وجود خطر مقبل ومع ذلك، لم نحصل على استجابة”. لحسن الحظ، سارت الأمور على ما يرام، وذلك فقط لأن الخفافيش بقيت بعيدة بفضل محصول غير متوقع من الفاكهة.

 

لذا إذا لم يكن صناع السياسة مستعدين للعمل، فمن الذي سيستثمر في جهاز مناعة لكوكب الأرض؟ يسأل براي: “هل يمكننا إيجاد تحالف للمهتمين؟”. سيكون إقناع الآخرين برؤيتنا صعباً على الدوام لأننا إذا نجحنا، فلن يحدث شيء؛ إن درء جائحة يبدو كأنه إهدار هائل للنقود. ما لم نكن- وربما ما زلنا- نعاني بسبب التداعيات المالية للجائحة الأخيرة.

 

هايلي بينيت Hayley Bennett

(@gingerbreadlady) هايلي كاتبة علمية مقيمة في بريستول بالمملكة المتحدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى