أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
أجهزة ذكيةتكنولوجيا

نـظــــرة إلـى الــداخـــل

التصوير المقطعي بالميون هو تقنية للتقصي غير تدخلية Non-invasive تعتمد على جسيمات تنتقل عبر الفضاء بسرعة الضوء تقريباً. وهي تكشف لنا أسراراً مدفونة في أعماق الأهرام والبراكين القديمة.

روبرت بانينو Robert Banino

في 13 أكتوبر 2016، كان مهدي الطيوبي واثقاً بأن مشروعه مسح الأهرام (سْكان بيراميدس) ScanPyramids يسير على الطريق الصحيح. في ذلك اليوم التقى الطيوبي وفريقه لجنةً من علماء المصريات لإخبارهم عن تجويف صغير لم يكن معروفاً من قبل عثروا عليه في الوجه الشمالي لهرم خوفو، المعروف أيضاً باسم هرم الجيزة الأكبر. بدأ مشروع ScanPyramids قبل 12 شهراً فقط من ذلك التاريخ، لكنه كان يحقق بالفعل نتائج واعدة.
ثم في وقت لاحق، في العام 2017، ظهر ما يبدو أنه اكتشاف كبير: عثر الباحثون على فراغ ضخم داخل الهرم البالغ عمره 4,500 عام. وعلى الرغم من عدم معرفة الاتجاه الدقيق للتجويف، تمكن فريق الطيوبي من تأكيد أنه كان بطول نحو 30 متراً ويقع فوق السرداب الكبير، وهو الممر الذي يربط حجرة الملكة بالغرفة التي تحتوي على تابوت الفرعون خوفو. كانت أول بنية مهمة تُكتشَف داخل الهرم منذ القرن التاسع عشر.
قال الطيوبي عند إعلان النبأ في نوفمبر 2017: “لا نعرف ما إذا كان هذا الفراغ الكبير أفقياً أو مائلاً. لا نعرف إن كانت له بنية واحدة أم عدة بنى متتالية. ما نحن على يقين منه هو أن هذا التجويف الكبير موجود، وهو لافت للنظر، ولم تتوقع- على حد علمي- أي من النظريات وجوده”.
ولكن ربما كان الأمر الأروع من الاكتشافين هو أنه عُثر عليهما من دون المساس بأي حجر من حجارة الهرم الذي بقي سليماً تماماً. لم يتطلب الأمر حفر الهيكل أو تفكيكه. لم تُثقب ثقوب في أي من جدران الغرفة، ولم تُفتح ممرات مغلقة. لقد توغل الفريق عميقاً داخل الكتل الجيرية المكدسة واحدة
فوق الأخرى لجدران المدفن الذي يبلغ ارتفاعه 140 متراً وتعرفوا على تجاويف بداخله لم يكن أحد يعلم بوجودها. وما جعل هذا الإنجاز
المذهل ممكناً هو تقنية تُعرف باسم التصوير المقطعي بالميون Muon tomography تتيح للعلماء استكشاف مواقع كانت في
الماضي بعيدة المنال.

جاءت من الفضاء الخارجي…
التصوير المقطعي بالميون يشبه إلى حد ما استكشاف الفضاء في الاتجاه المعاكس. بدلاً من استخدام أدوات جرى تصميمها على الأرض لاستكشاف الفضاء، تعتمد التقنية على الأشعة الكونية Cosmic ray المنتجة في الفضاء للتوغل في عمق الأشياء على الأرض.
الأشعة الكونية هي جسيمات عالية الطاقة تتدفق عبر الفضاء بسرعة تقارب سرعة الضوء. إنها من نتاج الشمس وأحداث السوبرنوفا (المستعرات العظمى) Supernovae خارج المجموعة الشمسية وحتى الانفجار الكبير (العظيم) Big bang. إنها تسافر في كل اتجاه طوال الوقت وهناك كثير منها بحيث إنها تصطدم باستمرار بجزيئات الأكسجين والنتروجين في الغلاف الجوي للأرض. وعند ذلك تطلق سلسلة من الجسيمات الأخرى، مثلما تفعل الكرة البيضاء التي تفرق حزمة الكريات الحمر في لعبة السنوكر. معظم هذه الجسيمات لا تتجاوز الغلاف الجوي. لكن البعض منها يصل إلى الأرض. وهذه هي عموماً “الميونات”.
يوضح البروفيسور رالف كايزر Ralf Kaiser، الفيزيائي من جامعة غلاسكو University of Glasgow: “[عندما] يضرب جسيم كوني عالي الطاقة الغلاف الجوي العلوي، فإنه ينتج وابلاً اًكثيفا من الجسيمات”.
الميون Muon هو جسيم أولي، مثل الإلكترون Electron، ولكنه أثقل منه بـ 200 ضعف. يمنح الوزن الثقيل والانتقال بسرعة كبيرة الميونات قدرةً أكبر على اختراق المواد الكثيفة مقارنة بأنواع الإشعاع الأخرى، مثل الأشعة السينية أو أشعة غاما. ولكن خلافاً للأشعة السينية وأشعة غاما، لا تُلحق ميونات الأشعة الكونية الضررَ بالمواد التي تمر عبرها.
يقول كايزر: “[يمكن للميونات] عبورُ عشرات الأمتار من الخرسانة. ستمر أيضاً عبر جسمك من دون أن تُحدث أي شيء… إنها منتشرة في كل مكان، قادرة على الاختراق وبلا تكلفة. إنها موجودة في كل مكان وهي جزء من البيئة الطبيعية”.
باختصار، الميونات هي ما نحتاج إليه للنظر داخل الهياكل التي لا يمكننا الدخول إليها، مثل غرف الأهرام المسدودة والكهوف المغلقة في المواقع الأثرية والقنوات داخل البراكين. ولكن لفعل ذلك يحتاج الأمر إلى التقاط الميونات التي مرت عبر الهيكل واستخدامها لإنشاء صورة لما هو موجود بداخله.

البحث عن الظلال
يشبِّه د. جيوفاني ماسيدونيو Giovanni Macedonio، الباحث الرئيس في مشروع فيزوفيوس للتصوير الشعاعي بالميون MUon RAdiography of VESuvius (اختصاراً: المشروع MURAVES) العمليةَ بأخذ صورة بالأشعة السينية. عندما يقع جسم، لنقل إنه ذراعك، بين مصدر الأشعة السينية والكاميرا، يمتص ذراعك بعض الأشعة السينية التي تمر عبره. تحدد الكثافة المختلفة للجلد والعضلات والأوعية الدموية والعظام مقدار الأشعة السينية التي تصل إلى الكاميرا- فكلما زادت كثافة تلك الأشياء، زادت الأشعة السينية التي تمتصها.
يقول ماسيدونيو: “[في الأساس] نرى ظلال الأجزاء المختلفة”. كلما خفت الظلال، كان الجزء أكثر كثافة، وبفضل تلك المعرفة يمكن التمييز بين الأجزاء الداخلية. ينطبق المبدأ نفسه على التصوير المقطعي بالميون والأشياء التي نريد النظر بداخلها مثل جبل فيزوف البركاني.
يقول ماسيدونيو: “بدلاً من الأشعة السينية، لدينا الميونات. تأتي الميونات من كل الاتجاهات حول الأرض، لكن ما يهمنا هو تلك التي تتحرك تقريباً في خط أفقي لتتمكن من اختراق البركان. الميونات التي تمر عبر بركان فيزوف تنتج ظلاً خلفه”. وبوضع كاشفات الميون في مكان قريب، يتمكن ماسيدونيو وزملاؤه من رسم صورة لهذا الظل ودراسة كثافات المواد المرتسمة فيه والبدء في تمييز الهياكل داخل جبل فيزوف.
لكن دراسة شيء كبير مثل البركان تتطلب قدراً من الصبر، لأن الميونات صغيرة جداً ونحو 100 منها فقط تضرب أي متر مربع في الثانية. لذلك وعلى رغم أنها تقصف الأرض باستمرار، فإن جمع ما يكفي منها للحصول على معلومات مفيدة عن شيء بحجم فيزوف يستغرق بعض الوقت.
يقول ماسيدونيو: “إن تدفق الميونات ليس قوياً. يمتص البركان معظمها، لذلك نحن في حاجة إلى كثير من الوقت، نحتاج إلى شهور”.
عندما يحصل الباحثون على صورة في النهاية، ماذا يمكنهم أن يفعلوا بها؟ هل يمكنهم استخدامها للتنبؤ بالانفجارات البركانية؟ لا، ليس تماماً. لكن ما يمكنهم فعله هو فهم العلاقة بين هندسة القنوات البركانية ونمط الانفجارات البركانية. وعلى وجه الخصوص ما الظروف التي قد تُسبب إطلاق سحب الرماد (التي يمكن أن تعطل حركة الطيران وتُسبب انهيار سطوح المنازل) أو تدفقات الفتات البركاني (مزيج شديد الحرارة من شظايا الصخور والغازات سريعة الحركة قادر على حرق أي شيء في طريقه) إذا ثار فيزوف. وإذا جُمعت هذه المعلومات مع البيانات الزلزالية وبيانات الأرصاد الجوية، يمكن تنبيه أو إجلاء السكان الذين قد يلحق بهم ضرر عندما يحين موعد ثوران البركان.

الأماكن المناسبة للنظر إليها
تُمكِّن التطورات الحديثة في تكنولوجيا التصوير المقطعي من استخدام التصوير المقطعي بالميون في مجموعة متزايدة من التطبيقات (انظر: “سلامة البنى”)، لكن التقنية نفسها ليست بجديدة. فقد استخدمها المهندس إي. بي. جورج
EP George للتحقق من كمية المواد فوق منجم في أستراليا في العام 1955، بعد أقل من 20 عاماً من اكتشاف الميونات (اكتشفها كارل أندرسون
Carl Anderson وسيث نيدرماير Seth Neddermeyer في العام 1936). وقبل نهاية ستينات القرن العشرين كان الفيزيائي الأمريكي الشهير لويس ألفاريز Luis Alvarez يستخدم التصوير المقطعي بالميون للبحث عن غرف مُخفاة داخل الأهرام.
يقول كايزر: “إذا نظرت إلى الورقة البحثية الأصلية التي كتبها ألفاريز، وقياساته للهرم، فستجد أنه فعل كل شيء بنحو صحيح تماماً. لقد أنجز ذلك بذكاء شديد. لم يعثر على أي تجاويف، لكنه كان لسوء حظه ينظر داخل الهرم الخطأ”.
كان ألفاريز ينظر داخل هرم خفرع. فلو أنه وضع كاشفه أمام الهرم المجاور، هرم خوفو، فلربما سبق مشروع ScanPyramids بما يقرب من 50 عاماً.
كل هذا يقطع شوطاً نحو شرح سبب ظهور كاشفات الميون في عدد متزايد من المواقع الأثرية. بتحسين عمليات التصوير التي تقدم صوراً أعلى دقةً وأقل تكلفة، وتطوير مزيد من أجهزة الكشف المحمولة، يعمل التصوير المقطعي بالميون على توسيع نطاق الاستكشاف بتزويدنا بنافذة، نافذة نطل منها على أماكن لا يمكننا الذهاب إليها.
وما أكثر مثلَ هذه الأماكن. جبل إيشيا، في إيطاليا، على سبيل المثال، هو لسان صخري يبلغ ارتفاعه 60 متراً ويمتد حتى خليج نابولي. إنه جزء مبني من المدينة حالياً، ولكن قبل ما يقرب من 3,000 عام، في القرن الثامن قبل الميلاد، كان هو موقع بارثينوب Parthenope، المستعمرة اليونانية القديمة التي أصبحت نابولي فيما بعد.
يتكون اللسان إلى حد كبير من الطفة Tuff، وهي حجر أصفر ناعم من الرماد البركاني استُخدم في كثير من الأحيان في المباني القديمة. ولذا يوجد نظام معقد من الأنفاق والكهوف أسفل جبل إيشيا من حيث استُخرجت الطفة على مدى أجيال لاستخدامها كمادة للبناء.
تجري دراسة الأنفاق والكهوف منذ سنوات، ولكن في العام 2017 أدرك فريق من علماء الفيزياء من نابولي وفلورنسا أن خصائص جبل إيشيا يمكن أن تجعل منه الموقع المثالي لاختبار كاشف الميون الذي كانوا يطورونه، ويرجع ذلك جزئياً إلى وجود عديد من التجاويف المعروفة بالفعل (هكذا سيكون لدى الفريق ما يمكن أن يقارنوا نتائجهم به)، ولكن أيضاً لأنه ليس مجرد أرض دُفنت التجاويف تحتها.
يقول البروفيسور جوليو ساراتشينو Giulio Saracino من جامعة نابولي فيديريكو الثاني University of Naples Federico II والمعهد الوطني الإيطالي للفيزياء النووية National Institute of Nuclear Physics (INFN): “جبل إيشيا ليس تلة منعزلة؛ إنه مغطى بالكامل بالمباني… لذلك لم يكن اختباراً سهلاً. لكنه كان مثيراً جداً للاهتمام لأنه لم يكن واضحاً في البداية ما إذا كانت كل المباني ستتداخل مع القياسات”.
ومع ذلك، كان الاختبار ناجحاً: لم ينجح الفريق في تحديد مجموعة مختارة من التجاويف المعروفة فحسب، بل وجدوا أيضاً علامات على وجود تجاويف أخرى كانت مُخفاة سابقاً. يقول ساراتشينو: “اكتشفنا التجويف الجديد، وأعدنا بناءه بأبعاده الثلاثة، وتمكنا من إعطاء علماء الكهوف فكرة عن موقعه تحت الأرض، لأنه لا توجد طريقة للوصول إليه في الوقت الحالي”.

مشروعات مؤجلة
من جبل إيشيا، انتقل الفريق إلى موقع أثري آخر كثير الكهوف في كوما Cuma، وهي بلدة قريبة من نابولي يُعتقد أنها موقع أول مستعمرة يونانية على البر الرئيس لإيطاليا. توقف العمل هناك بسبب جائحة كوفيد19- التي تُعد مجرد واحدة من العقبات التي تعترض التحريات الجارية بالتصوير المقطعي بالميون، لأن ما هو مطلوب توافره ليس فقط الخصائص الجغرافية والطوبولوجية الصحيحة، بل أن يتيح الوضع السياسي ذلك أيضاً، كما يشرح البروفيسور نورال أكشورين Nural Akchurin من جامعة تكساس التقنية Texas Tech University.
ويقول: “كنا نحاول إدخال نموذجنا الأولي [كاشف الميون] إلى تركيا لتصوير موقع أثري في ليميرا Limyra. لكن الوضع السياسي في تركيا كان مضطرباً. كانت هناك محاولة انقلاب [في العام 2016]، وتوقف كثير من المشروعات فجأةً عاماً أو عامين… لذلك قلنا “حسناً، لنعمل فقط على نموذج أولي آخر”، لأننا في حاجة إلى تحسين الأمور. لكننا لم نتخلَّ عن نشر أجهزتنا في مكان ما في تركيا، وهناك موقعان مرشحان لذلك. في الوقت الحالي، نجرب الأشياء في المختبر. ولكن خلال وقت قصير قد نتمكن من نشر أجهزة الكشف، ربما خلال هذا الصيف، إذا سمح كوفيد بذلك”.
أثَّر كوفيد أيضاً في مشروع ScanPyramids. فقبل تعليق العمل في العام 2020، كشف التصوير المقطعي المستمر بالميون في هرم خوفو عن جزء إضافي من التجويف الأصغر المكتشف في العام 2016 (مما يقترح أنه ممر يمتد خمسة أمتار على الأقل داخل الهرم، ومن المحتمل أن يكون مائلاً إلى الأعلى) وأمكن تحسين حساب الأبعاد المقدرة للتجويف الكبير المكتشف في العام 2017 (يُعتقد حالياً أن طوله لا يقل عن 40 م).
إذا سارت عمليات التحصين العالمية بلقاحات كوفيد وفقاً للخطط المرسومة، فمن الممكن استئناف العمل في مشروع ScanPyramids والمشروعات الأخرى قريباً. وعندما يحدث ذلك، فقد نكتشف مزيداً من الأسرار المخبأة داخل بعض أقدم البنى الطبيعية، أو تلك التي صنعها الإنسان في العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى