لطالما مثّل الإبداع البشري لغزاً، لكن اكتشافا جرى مصادفة أدى إلى طفرة في فهمنا لهذا الموضوع المراوغ.
تضمنت معظم دراسات الدماغ الطلب إلى المتطوعين أداء مهام معينة- مثل مطابقة الكلمات أو إجراء عمليات حسابية- أثناء مراقبة أدمغتهم بواسطة إحدى تقنيات التصوير الشعاعي. مكّن ذلك العلماء من إنشاء “خرائط” تفصيلية لما يحدث عندما نؤدي المهام. ومع ذلك، فطوال سنوات عديدة، لم يفكر أحد في النظر إلى ما يحدث في أدمغتنا عندما لا نفعل شيئا. ولحسن الحظ، كان هناك كثير من البيانات الواجب تقديمها لأن معظم الدراسات الدماغية تضمنت فترات استراحة طُلب فيها إلى المتطوعين الاسترخاء وعدم التفكير في أي شيء محدد. سجّل الباحثون نشاط أدمغتهم في هذه الحالة إضافة إلى المراحل النشطة، لكنهم تجاهلوه.
في نهاية المطاف، لوحظ مصادفة أن النشاط الدماغي المشاهَد في حالات “عدم التفكير” كان متشابهاً لدى معظم الأشخاص. أطلق على هذا النمط اسم شبكة الوضع الافتراضي Default Mode Network(اختصارا: الشبكة DMN)، وقد اتضح أنها مفتاح الإبداع البشري.
شبكة الوضع الافتراضي هي عكس نمط كهربائي آخر يُعرف باسم شبكة التحكم التنفيذي Executive Control Network، (اختصارا: الشبكة ECN) وهي تضيء عندما نكون في حالة “فعل”. في شبكة التحكم التنفيذي تُطلق العصبونات الدماغية إشاراتها بسرعة، لكن في مناطق محدودة نسبيا. هذا النشاط موجه نحو الأهداف، حيث يحصُر الدماغ في مجال مركّز من التفكير. عندما يتوقف الشخص عن السعي إلى تحقيق هدف معين، فإن نشاطه العقلي ينتقل إلى شبكة الوضع الافتراضي، التي تتميز بالنشاط المنخفض في مجموعة كبيرة ومنتشرة من مناطق الدماغ. هذه الحالة تُشعر المرء بالراحة والاسترخاء. تتمركز الأفكار الناتجة عنها حول الفرد، وتتضمن سيناريوهات اجتماعية سابقة ومتخيّلة. قد يتذكر المرء، مثلا، محادثة جرت في وقت مبكر من ذلك اليوم، أو يتدرب على ما سيقوله لشخص آخر من المقرر أن يلتقيه لاحقاً.
في شبكة الوضع الافتراضي، يأتي الخيال إلى الصدارة. ولأن الدماغ غير مقيد بالحاجة إلى صياغة وتنفيذ خطة عمل معينة، فبإمكانه تجربة الكثير من الأفكار المختلفة، ومن ثم تخيل ومقارنة نتائجها. كما أنه يسمح للأفكار والذكريات بالارتباط المؤقت بطرق غير عادية، وإنشاء مشهد داخلي شبه سريالي يمكن أن تطير فيه الأسماك وتتحدث الخراف. بيد أن الخيال ليس هو نفسه الإبداع. قد يأتي الدماغ غير المقيّد تماماً بأفكار خيالية، لكنها قد تبدو أمتارا معتوهة فحسب. لكي تكون مبدعاً، يجب أن تكون الأفكار مفيدة (مثل مصيدة فئران أفضل) أو محفوفة بالموهبة (مثل لوحة بريشة دالي Dalí). لذلك فمن أجل تسخير الناتج من شبكة الوضع الافتراضي، يجب على الدماغ تفعيل شبكة التحكم التنفيذي، أو على الأقل جزء منها.
عادة ما يؤدي تفعيل شبكة التحكم التنفيذي إلى إيقاف تشغيل شبكة الوضع الافتراضي تلقائياً، والعكس صحيح- فنحن نتقلب من حالة إلى أخرى. ومع ذلك، تشير الأبحاث إلى أن المبدعين يمكنهم تفعيل كلتا الشبكتين في وقت واحد. في دراسة أجريت في العام الماضي، فُحصت أدمغة أشخاص أثناء محاولتهم التفكير في استخدامات مبدعة لجورب، وللصابون وغلاف العلكة. لم يتمكن بعض المتطوعين من أداء المهمة: فلم يفكروا إلا في أشياء مثل «تغطية القدمين» و «صنع الفقاعات» و«احتواء العلكة». اقترح متطوعون آخرون نظاماً لتنقية المياه، وختماً للمظاريف وسلكا للهوائي. وجد أن هؤلاء المفكرين المبدعين، على عكس الآخرين، يفعّلون كلا من شبكة الوضع الافتراضي وأجزاء من شبكة التحكم التنفيذي في الوقت نفسه. هل يمكنك تعلّم كيفية تفعيل هذا النمط العصبي بعينه؟ حتى الآن، لم يختبره أحد بصورة مباشرة. ومع ذلك، يتسم نشاط الدماغ بالنمطية Habitual، مثل السلوك الذي ينتجه، فإذا شعرت بنقص في الإبداع في ذاتك، يمكنك تشجيعه على النمو.
اضبط إبداعك
عندما تكون في وسائل النقل العام، انظر من النافذة بدلاً من استخدام هاتفك. أظهرت الدراسات أن أحلام اليقظة والشعور بالضجر يمكن أن تسمح للعقل بالشرود، مما يساعد على تعزيز الإبداع.
قُص صفحات من جريدة وأعد ترتيب الكلمات لإنتاج عبارات صحيحة نحويا لكنها مفرغة من المعنى. عن طريق الاحتفاظ بالكلمات داخل بنية القواعد النحوية، ستحتفظ الجمل الجديدة بنوع من المعنى، مما يجبر الدماغ على النظر إلى المحتوى بطريقة جديدة- وهي مهارة سهلة للتفكير الإبداعي. قلّل درجة الإضاءة: وجدت دراسة أجراها علماء نفسيون في عام 2013 في جامعتي شتوتغارت وهوهنهايم Stottgart and Hohenheim في ألمانيا أن الإضاءة الخافتة يمكن أن تحسن الإبداع، وذكروا أن الظلام يخلق شعورا بالتحرر، مما يحفّز “أسلوب معالجة استكشافيا محفوفا بالمخاطر “.
إذا كنت تقرأ قصة، توقف عن قراءتها عند منتصفها وفكّر في خمس نهايات مختلفة محتملة.
حوّل تجربتك المرئية الحالية إلى شيء غريب. مثلا، تخيل أن كلا من الأشياء من حولك انقلب رأساً على عقب. هل يمكنك أن ترى استخداماً جديداً لأي منها في هذه الحالة؟
اقطع أحلام اليقظة عن طريق بمحاولة التفكير في طريقة لاستخدامها في الحياة الواقعية، ربما عن طريق صقلها وتحويلها إلى قصة، أو نادرة ترويها في حفلة.