أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاءفلك وعلم الكونيات

زُوَّار من نجوم أخرى

«أَخْذُ قطعةٍ من المذنب والعودة بها إلى الأرض يُعُّد بمثابة الإنجاز الأمثل الذي تسعى أي بعثة مذنبات إلى تحقيقه»

الدكتور ستيوارت كلارك Dr Stuart Clark
(@DrStuClark)
كاتب في علم الفلك.
وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان الكون المجهول The Unknown Universe، (14.99 جنيه إسترليني، من WW Norton).

في عام 2017 تعرَّف علماء الفلك على مذنب من نظام شمسي مختلف تماماً يمرُّ عبر مجموعتنا الشمسية. واكتشفه تلسكوب بان-ستارز Pan-STARRS في مرصد هالياكالا Haleakala بهاواي، وأطلق عليه اسم أومواموا Oumuamua، وهي كلمة تعني المستكشِف بلغة أهل هاواي. وفي البداية، بدا كأنه كويكب إذ لا يتبعه ذنب مثل بقية المذنبات، ولا تحيط به سحابة الغاز المعروفة بالهالة Coma.
لكن في وقت لاحق، بدأ يتسارع بطريقة لا يمكن شرحها بفعل جاذبية الشمس أو الكواكب، وعلى الرغم من أن هذا أدى إلى ظهور عناوين شنيعة في بعض وسائل الإعلام تصفه على أنه مركبة يقودها فضائيون، فإن هذا السلوك هو بالضبط ما تفعله المذنبات. ويحدث ذلك لأن حرارة الشمس تؤدي إلى انبعاث الغازات من المواد الجليدية تحت سطح المذنب، وأن الغاز المنفلت يعمل بمثابة محرك صاروخي صغير.
وفي عام 2018 رُصد مذنب آخر بين نجمي Interstellar وهو يتجول عبر المجموعة الشمسية. ومَرّ المذنب المسمى بوريسوف Borisov بأقرب نقطة من الشمس في ديسمبر 2019 وقُدر أنه كان يفقد كيلوغرامين من الغبار و 60 كيلوغراماً من الماء في كل ثانية.
ومن الواضح أن فكرة استخدام مركبة معترض المذنب لرؤية شيء من نظام شمسي آخر تثير حماس الفريق العلمي، لكنهم أيضاً واقعيون بشأن فرصهم في استهداف أحدها بالفعل.
ويقول د. كولين سنودغراس، وهو عالم فلك من جامعة إدنبره: «في الحقيقة إنها فرصة بعيدة المنال». وهذا لأنه ليست لدينا أي فكرة عن عدد المرات التي يمر بها بنا مثل ذلك. وقد تكون مجرد ضربة حظ أننا رصدنا اثنين خلال سنوات طويلة من مراقبة السماء. وسيعرف علماء الفلك أكثر عندما يبدأ تلسكوب المسح الكبير الشامل Large Synoptic Survey Telescope (اختصاراً: التلسكوب LSST) بالعمل في عام 2022.

لقد قطعنا شوطاً طويلاً منذ أن ساد النظر إلى المذنبات على أنها مجرد أشباح غامضة تعبر السماء وتُنبئ بالكوارث والأمراض. لكننا الآن نفهم أن هذه الأجرام السماوية الغامضة هي كبسولات زمنية من عصر سابق من تاريخ المجموعة الشمسية. إذ يمكنها إخبارنا عن الأيام التي كانت فيها الكواكب في طور تشكلها. وقد تكشف المذنبات أيضاً عن بعض المكونات الكيميائية التي يحتمل أنها وُجدت في بدايات تكوين الأرض، ومن ثمَّ ربما أسهمت في نشأة الحياة.
لذلك، ليس من المستغرب أن تحرص وكالات الفضاء المختلفة في جميع أنحاء العالم على استكشاف المذنبات باستخدام المركبات الفضائية. ويجري حاليّاً تطوير مركبة معترض المذنب Comet Interceptor، المقرر إطلاقها في عام 2028 وستسمح لنا بمعاينة هذه الأجرام الجليدية معاينة تفصيلية. لكنها ليست البعثة الأولى لزيارة مذنب.
ففي عام 1986 أطلقت أوروبا والاتحاد السوفييتي واليابان مركباتٍ بُرمجِت لتمرّ بالقرب من مذنب هالي. ومن بينها، كانت المركبة الفضائية الأقرب إليه وهي مهمة غيوتو Giotto، التي مولتها وكالة الفضاء الأوروبية (اختصارا: الوكالة إيسا ESA).
لقد قدمت لنا الصورة الأولى لنواة Nucleus المذنب الجليدية، وأظهرت أن الغاز كان يُقذف في الفضاء من نفّاثات على سطحه.
والتقت مركبة المذنبات الأحدث التي أطلقتها الوكالة إيسا، روزيتا، بالمذنب 67P/تشوريوموف-غيراسيمنكو
67P/Churyumov- Gerasimenko، وتابعته لمدة عامين بين عامي 2014 و2016. وقد كشفت عن معلومات لا سابق لها حول ما يفعله المذنب عندما يقترب من الشمس، ومن ثم يتجه من جديد نحو الفضاء العميق. وصار لدينا شيء واضح تماماً. يقول د. كولين سنودغراس Colin Snodgrass، وهو عالم فلك من جامعة إدنبره University of Edinburgh، وكان ضمن فريق روزيتا: «هناك الكثير من العمليات التطورية التي تجري على الطبقات السطحية للمذنب. فقد تغير السطح بالفعل فيما كنا ننظر إليه عبر روزيتا».
لقد راقب العلماء تآكل مناطق عليه، بينما دُفنت أخرى تحت مواد تتساقط على السطح. ويقول سنودغراس: «كنا نعرف دائماً أن المذنبات تتآكل، لكن القدر الذي تتغير به في كل مرة تمر فيها بالشمس كان شيئاً خبرناه فعليا مع روزيتا».

النجوم الصخرية الحقيقية
هذه أخبار جيدة وسيئة في الوقت نفسه للفلكيين. ففي حين يعني هذا أننا نعرف المزيد عن الكيفية التي تعمل بها المذنبات أكثر من أي وقت مضى، إلا أنه يخبرنا أيضاً أن أسطحها ليست سجلاً في حالته الأصلية Pristine للبُنى الأصلية التي بنيت منها الكواكب. وجميع المذنبات التي زرناها حتى الآن تسمى المذنبات قصيرة الدورة Short-period comets. إنها أجرام قديمة تشكلت في الأطراف الخارجية للمجموعة الشمسية، وراء الكواكب العملاقة، ثم سقطت في مدارات أقرب حول الشمس. وهنا تعرضت بصورة دورية لضربات الشمس وللتغيير، وربما يجعل هذا من الصعب التعرف على حالاتها الأصلية.
ولحسن الحظ، ولمساعدتنا على فهم كيفية تكوين الكواكب، هناك فئة أخرى تسمى المذنبات طويلة الدور Long-period comets. فهي تدور على مدارات عملاقة. وفي عام 1997 ظهر المذنب هيل-بوب Hale-Bopp في سمائنا وكان مرئياً بالعين المجردة لمدة 18 شهراً. وبناءً على مداره الحالي، ربما كان آخر موقع له قريب من الأرض قبل نحو 4200 عام. قبل عام من ظهوره، في 1996، مرّ مذنب هياكوتاكي Hyakutake في مدار سيستغرق اكتماله نحو 70000 عام. كل هذه المذنبات لها أسطح يجب أن تكون أقرب إلى حالاتها البكر.
وهناك أيضاً المذنب العرضي Occasional الذي يتجه نحو الشمس للمرة الأولى. وهذه هي المذنبات التي نحتاج إلى دراستها إذا كُنَّا نريد فك أسرار المجموعة الشمسية في بداياتها. وإضافةً إلى كونها سجل في حالته الأصلية، يعتقد علماء الفلك أنها تشكلت في الأصل بين الكواكب العملاقة؛ مما يجعلها أكثر تمثيلاً للبُنى الفعلية التي تشكلت منها الكواكب في الأصل. ومن ثم، دفعتها بعيدا تفاعلاتُ الجاذبية مع الكواكب المتكوِّنة حديثاً إلى مسافات شاسعة، فقد حافظ عليها البرد الشديد.
وإذا تمكنا من رؤية أحدها عن قرب؛ فسيكون ذلك فرصة لدراسة منطقة مختلفة تماماً من المجموعة الشمسية المبكرة. لكننا لا نعرف بتاتاً متى ستأتي، وتستغرق المركبة الفضائية في أحسن الأحوال نحو عقد من الزمن لتصميمها وبنائها، في الوقت الذي يكون فيه المذنب قد جاء ومضى. لذا، كيف سنتمكن من رؤية أحدها عن قرب؟
هنا يأتي دور معترض المذنبات.
حصل سنودغراس على التمويل من الوكالة إيسا وسيقود البعثة مع البروفيسور غيرانت جونز Geraint Jones من جامعة يونيفريسيتي كوليدج لندن University College London. وسيُطلق معترض المذنب في عام 2028 وسينتظر في الفضاء حتى يُعثَر على المذنب المستهدف. وسيكون تصميم وتخطيط المهمة فريداً من نوعه، إذ لا يوجد مذنب معين في الاعتبار. ويقول سنودغراس: «لم يصمم أحد مهمة من دون فكرة أولى عن الهدف. هذه مهمة لم يسبق لها مثيل».
يكون عادة للبعثة الفضائية هدف محدد يسمح للمهندسين بحساب المسار الأمثل، ومن ثم كمية الوقود المطلوبة والتي يحددون من خلالها حجم خزانات الوقود وكذلك حجم الكتلة المتاحة للاستخدام للأجهزة العلمية. وبعبارة أخرى، فإن الهدف يحدد حجم المركبة الفضائية.
ويتيح اللقاء المقترح أيضاً لفريق التصميم تحديدَ المكانِ الأمثلِ لوضع الألواح الشمسية والأدوات. إلا أن أي من هذا غير معروف في حالة مركبة معترض المذنب. ولا يعرف الفريق الاتجاه الذي سيسلكونه نحو هدفهم، أو مدى بعد المذنب عن الشمس، أو إلى أي مدى سيكون بعيداً عن الأرض. لذلك عليهم تصميم مهمة مرنة إلى أبعد حد.

لننتقل إلى الجوانب الفيزيائية الفلكية
سيلتقط معترض المذنب صوراً لسطح المذنب بجودة مماثلة لتلك التي التقطتها روزيتا للمذنب 67P، وسينظر في الاختلافات في التكوين بين المذنبين. ويقول البروفيسور ستيفن لوري Stephen Lowry، خبير المذنبات من جامعة كنت University of Kent: «نتوقع أن يكون التركيب الكيميائي لهذه المذنبات مختلفاً تماماً عن المذنبات الشبيهة بالمذنب 67P».
وذلك لأنها تشكلت على مسافة أقرب من الشمس؛ مما يعني أن البيئة الأكثر دفئاً لابد أن تؤثر في عدد الجزيئات العضوية على أسطحها ونوعها.
ليست الكيمياء فقط هي التي قد تكون مختلفة، إذ أنّ المذنبات طويلة الدور قد تكشف أيضاً ما إذا كانت الكواكب تشكلت بعنف أو برفق. ويقول لوري: «كانت إحدى النتائج الخمس الأولى لروزيتا هي شكل المذنب». وكان المذنب 67P جرماً يشبه أثقال التمارين Dumbbellshaped، وقد أظهر التحليل أنه تكوّن نتيجة اندماج بين مذنبيْن تَكوَّنا بشكل مستقل. وقد كانت نتيجة مهمة جداً لأنها أظهرت أن المذنبات المكتملة قد تندمج بسلاسة؛ أي أن سرعة الاصطدام يجب أن قريبة من سرعة المشي. على الرغم من ذلك، كان يُعتقد أن تكوين الكوكب حدثٌ أعنف بكثير. وإذا تكرر النمط في مذنب طويل الدورة Long-period comet، فقد يعني ذلك أن أفكارنا حول تكوين الكواكب ككل تحتاج إلى مراجعة.
وسيبدأ البحث عن هدف للبعثة في عام 2022، عندما يبدأ مشروع تلسكوب جديد جريء عملياته. فيجري حالياً بناء تلسكوب المسح الشامل الكبير The Large Synoptic Survey Telescope (اختصارا: التلسكوب LSST) في تشيلي. وبفضل مرآة عرضها ثمانية أمتار، سيتمكن التلسكوب LSST من مسح السماء بأكملها كلَّ بضعِ ليالٍ. ومن المتوقع أن يكتشف المئات والآلاف من المذنبات والكويكبات في المجموعة الشمسية، أكثر مما هو معروف في الوقت الحالي. وقد يتمكن من العثور على هدف قبل إطلاق معترض المذنب المقرر في عام 2028.
ويقول سنودغراس: «لا نتوقع حقيقة أن تكون لدينا خيارات كثيرة من الأهداف. وخلال الفترة التي يجب أن تعمل فيها البعثة، ربما لن يكون هناك سوى حفنة منها يمكننا الانطلاق إليها».
ومن بين هذا العدد القليل، فهناك أيضاً احتمال أن يعثروا على شيء نادر بالفعل: مذنب من نظام شمسي آخر تماماً. وحدد علماء الفلك جُرمين بين نجميين من هذا القبيل، بدءاً من أومواموا في عام 2017 وبوريسوف في عام 2018. وكلا الجرمين اتبع مساراً يشير إلى أنهما غير متأثرين بجاذبية الشمس، وإنهما كانا ببساطة مجرد عابرين للمجموعة الشمسية، وفي الطريق حرفت جاذبية الشمس مسارهما. وعلى الرغم من أنه سيكون من المستحيل تقريباً تحديد النجم الذي تكوّن حوله، إلا أن النظر إلى مذنب عن قرب سيكون وسيلةً رائعة لمعرفة ما إذا كانت عمليات التكوين حول النجوم الأخرى مماثلة لتلك التي حدثت في مجموعتنا الشمسية.
ويقول سنودغراس: «في الواقع، سيكون مثيراً للاهتمام أن نرى شيئاً ما آتياً من نظام آخر ومعرفة نقاط التشابه والاختلاف… فإذا كان يمكننا الوصول إلى أحدها، أعتقد أنه سيكون قراراً سهلاً إلى حد ما أن يقول فريق علمي: دعنا نذهب إليه. قد تكون هذه فرصة فعلاً لا يمكنك رفضها».

كشف أسرار الحياة على الأرض
وبغض النظر عن الهدف الذي سيذهب إليه برنامج معترض المذنب، يخطط الفلكيون بالفعل لما يجب فعله بعد ذلك. فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو الدور الذي أدته المذنبات في أصل الحياة على الأرض، وهذا يرجع إلى إجراء جرد للتكوين الكيميائي لسطحها. وعلى وجه الخصوص، يبحث علماء الفلك عن جزيئات حاملة للكربون، يشار إليها غالباً بالجزيئات العضوية Organic molecules لأنها كانت ضرورية للحياة على الأرض. ويقول جيانريكو فيلاكشيوني Gianrico Filacchione، عالم المذنبات من معهد فيزياء الفضاء الفلكية وعلم الكواكب في الفضاء Institute for Space Astrophysics and Planetology (اختصاراً: المعهد INAF-IAPS) في روما بإيطاليا: «إن تكوين المادة العضوية مهم فعلاً… فهناك عالَم من المركبات العضوية التي يجب تحديدها». والطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي بلا شك إعادة عينة إلى الأرض وتحليلها باستخدام معدات المختبرات الحالية بأقصى ما لديها من قدرة.
ولتحقيق هذا الهدف، اقترح فيلاكشيوني وزملاؤه بعثة أمبيشن (الطموح) AMBITION على الوكالة إيسا كجزء من خطة عام 2050 طويلة الأجل. وإذا تقرر المضي بها قدماً، فستهبط بعثة أمبيشن على مذنب، وتجمع عينة من المادة الجليدية وتعيدها إلى الأرض في كبسولة مبردة. ويقول فيلاتشيوني: «أخذ قطعة من المذنب والعودة بها إلى الأرض سيكون الإنجاز الأمثل الذي تسعى أي بعثة مذنبات إلى تحقيقه».
ومع ذلك، حالياً يُسلّط الضوء على معترض المذنب. ويقول سنودغراس: «بالنسبة إلينا، هذه فرصة للذهاب ورؤية مذنب يزور المجموعة الشمسية لأول مرة. سيبدو سطحه كما كان عليه عبر بلايين السنين». لكن لرؤيته يتطلب الأمر إعادة كتابة الطريقة التي تُصمم بها البعثات الفضائية ويُخطط لها. وفي حين أن مثل هذا العمل سيطرح ما يكفي من التحديات ويزيد منها، يقول سنودغراس إنه يجدها مثيرة أكثر من كونها مخيفة. وعلى الرغم من أنه يضيف بعد ذلك بحسٍ فكاهي، «هذا لأنني لست مهندساً وليس مطلوباً إليَّ تشغيلها».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى