أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فنون وعلوم إنسانية

هل ستنقرض اللكنات

بقلم: أندي ريدغواي

كلامنا آخذ بالتغير، والأبحاث المبتكرة التي تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية تمنحنا فكرة جديدة عن سبب وكيفية حدوث ذلك.

هناك جدال يقسم الأمة. إنه مصدر مجادلات لا حصر لها في أماكن العمل والمدارس في جميع أنحاء البلاد. كيف يجب أن ننطق كلمة «سكون» Scone [كعكة مسطحة مدوّرة]؟ هل يجب أن تكون للكلمة قافية تتناغم مع ‘gone’ أم مع ‘own’؟ ستعتمد إجابتك على المكان الذي أتيت منه. وإذا نطقتها أشبه بلفظة ‘gone’، فمن المرجح أن تكون من جنوب بريطانيا أو شمال إنجلترا أو اسكتلندا. أما إذا نطقتها مثل بلفظة ‘own’، فأنت على الأرجح من منطقة ميدلاندز. والكلمات التي نقولها وكيفية قولها نقولها يحددها المكان الذي نعيش فيه في الجزر البريطانية لأجيال. إنها جزء لا يتجزأ من هويتنا، وهي تربطنا بالأماكن التي نشعر بأنها الأقرب إليها وبالطبقة الاجتماعية التي ننتمي إليها، وهي تأتي مع الكثير من التبعات الاجتماعية والثقافية. ولكن على الرغم من أن اللهجات Dialects الإقليمية (الكلمات التي نستخدمها) واللكنات (كيف ننطقها) منتشرة في جميع أنحاء العالم، فإن هناك من يقول إنّ أيامها باتت معدودة. وبعد كل شيء، لا يبقى سوى عدد قليل منا في البلدة أو المدينة نفسها طوال حياته، ونحن نتعرض للكنات لا حصر لها في كل يوم، سواء على متن الحافلة أم على نتفليكس Netflix. هل يعني هذا المزيج من التأثيرات أن الاختلافات الإقليمية ستصبح عما قريب شيئاً من الماضي؟

بفضل حزم البيانات التي تولدها منصات التواصل الاجتماعي مثل تويتر Twitter والطرق الجديدة لتتبع اللكنات باستخدام تطبيقات الهواتف الذكية، بدأنا نفهم المزيد عن الكيفية التي تتغير بها طريقة حديثنا. وتتكشف عن هذا بعض النتائج المدهشة، التي لا تُظهر أن اللكنات تتطور فحسب، بل تظهر لكنات جديدة تماماً.
تضمنت الأساليب التقليدية لدراسة اللهجات واللكنات تجوّل الباحثين في أنحاء البلاد وهم مزودون بالميكروفونات التي تمكنهم من إجراء مقابلات مطولة. ولدينا الآن لغويات فورية للبيانات الكبيرة. فحديثا، أنجز البروفيسور جاك غريف Jack Grieve، خبير التباين اللغوي في جامعة برمنغهام University of Birmingham، مشروعا بحثيا تضمن تحليل 200 مليون تغريدة تتكون من 1.8 بليون كلمة منشورة من جميع أنحاء المملكة المتحدة في عام 2014. وعن طريق مطابقة التغريدات بموقعها، يمكنه إنشاء خرائط لكلمات مختلفة، ثم مقارنة هذه الخرائط بخرائط مماثلة جُمعت كجزء من مشروع أصوات Voices project لهيئة الإذاعة البريطانية BBC- وهو مسح أجري ما بين عامي 2004 و2007 عبر الإنترنت للهجات واللكنات. والأهم من ذلك أن الخرائط تميل إلى التطابق- مما يؤيد استخدام غريف لبيانات تويتر- وجاء أمر واحد بصوت عالٍ وواضح: لا تزال اللكنات الإقليمية قوية. يقول غريف، بلكنة كندية: «من الواضح أنك ترى الاختلافات بين الشمال والجنوب في الكلمات التي نستخدمها، ويمكنك أن ترى ظهور ويلز واسكتلندا وأيرلندا الشمالية في البيانات». لذلك، مثلاً، تستخدم «الأريكة» غالباً في الجنوب بصيغة ‘sofa’، وبصيغة ‘settee’ في الشمال والميدلاندز، و‘couch’ في اسكتلندا.

ويكشف بحث غريف على تويتر أيضاً عن كيفية تغير الكلمات التي نستخدمها. يخترع البشر باستمرار كلمات وعبارات جديدة لمساعدتنا على التعبير عن أنفسنا وخلق شعور بالانتماء إلى المجتمع. ومن خلال تحليل نحو تسعة بلايين كلمة نُشرت في تغريدات في الولايات المتحدة ما بين عامي 2013 و2014، تمكن غريفُ من تحديد مكان «ولادة» الكلمات الجديدة، وكيفية انتشارها. فقد وجد، مثلاً، أن لفظة «Baeless»، التي تعني أعزب، نشأت في الجنوب العميق Deep South؛ ولفظة ‘Mutuals’، للإشارة إلى الأشخاص الذين يتبعون بعضهم البعض على وسائل التواصل الاجتماعي، نشأت في الساحل الغربي للولايات المتحدة؛ ولفظة ‘Lit’، لوصف شيء جيد أو مثير للإعجاب، ظهرت لأول مرة في نيويورك. وبعد ذلك خطط غريف للبحث في التغريدات الواردة من المملكة المتحدة، لمعرفة ما إذا كان سيمكنه العثور على كلمات جديدة تظهر وتنتشر هناك أيضاً.

لكنات رقمية
ماذا عن اللكنات؟ من المثير للدهشة أن تويتر يمكنه أن يخبرنا بهذه الأمور أيضاً، وهذا كله يرجع إلى الطريقة التي نتحدث بها. ويقول جورج بايلي George Bailey، وهو خبير بالصوتيات من جامعة يورك
University of York، بلكنة أهل مانشستر Mancunian اللطيفة: «ستجد الكثير من طرق التهجئة المبتكرة على تويتر، فكثير من الناس يكتبون الكلمات كما ينطقونها. في مانشستر، مثلاً، يكتب بعض الأشخاص كلمة ‘City’ (مدينة) هكذا: ‘citeh’، التي تمثل طريقة النطق النمطي لأهل مانشستر.
صارت بعض التغيرات في كيفية التحدث في المملكة المتحدة واضحة بالفعل. خذ ما يسميه اللغويون «إيقاف» (th-stopping)- أي تغيير طريقة نطق حرفي ‘th’، حيث، مثلاً، تتغير ‘Thing’ إلى ‘Ting’. ويقول بايلي: «ظهر هذا على الأرجح في لندن، لكنك ستجد أنه يستخدم على تويتر في جميع أنحاء البلاد، ربما لأنه اعتُمد في العديد من المناطق المختلفة وفي كثير من الثقافات الفرعية المختلفة».
والسؤال الذي لم تتم الإجابة عنه بعد هو مدى كون تهجئة الكلمات المنشورة على تويتر انعكاساً حقيقيّاً للكيفية التي ينطقها بها أحدهم بصوت عال. يقول بايلي: «في كثير من الأحيان عندما نتحدث، تكون طريقة نطقنا للكلمات غير واعية نسبياً، لكن عليك أن تختار متعمداً كيفية تهجئة هذه الكلمات على تويتر». لمعرفة مدى قرب الاثنين من بعضهما البعض، سيتطلب الأمر تسجيل كيفية تحدث الأشخاص مع تتبع استخدامهم للغة على تويتر- وهو أمر لم يُنفذ بعد.

قوى التغيير
ومع ذلك، ففي الوقت نفسه يكشف تطبيق للهواتف الذكية المزيد عن الكيفية التي تتغير بها لكناتنا. وقد تَمّ تنزيل تطبيق «لكنات اللغة الإنجليزية» English Dialects، الذي طوره د. أدريان ليمان Adrian Leemann، وهو خبير التباين اللغوي في جامعة لانكستر Lancaster University، من قبل 50,000 شخص بُعيد إطلاقه في عام 2016. وتُطرح على المستخدمين أسئلة حول كيفية نطقهم لبعض الكلمات، وتُقارن إجاباتهم مع «باستطلاع لكنات اللغة الإنجليزية» Survey of English Dialects – وهي دراسة مؤثرة أجريت بين عامي 1950 و1961. والنتائج التي ظهرت حتى الآن مثيرة للاهتمام. ويقول ليمان: «كان هناك تقارب كبير بين جوانب اللهجة الإنجليزية الجنوبية الشرقية في معظم أنحاء غرب البلاد، والميدلاندز والشمال». بمعنى آخر، يتحدث الكثير من الشماليين اليوم مثل الجنوبيين- على الأقل في بعض جوانب لكنتهم.

لنأخذ مثال استخدام النطق القوي للحرف «u» في كلمات مثل «but» و «butter»- وهي سمة نموذجية في اللكنة الإنجليزية الشمالية. يقول ليمان، الذي يصف لهجته بأنها سويسرية متأثرة بقوة بلكنة أمريكا الشمالية: «يبدو أن هذه السمة تختفي ببطء في الشمال. على الرغم من أنها لا تزال موجودة بقوة هناك، فإننا وجدنا تغيراً كبيراً مقارنة بفترة خمسينات القرن العشرين». صار الحرف ‘u’ الجنوبي اللين أوسع انتشاراً.

تلاحظ هذه التغيرات في اللكنات لدى بعض الناس أكثر من غيرهم. وعند تحليل البيانات من سبع مدن شمالية إنجليزية، بما في ذلك ليدز وليفربول ومانشستر، وجد ليمان نمطاً متميزاً في نطق الحرف «u». ويقول ليمان: «يميل الأشخاص الكثيرو التنقل إلى استخدام النطق الجنوبي للحروف المتحركة. ومن ثمَّ فمن
تنقلوا أكثر وسافروا في جميع أنحاء البلاد أكثر، سواء للعمل أم الدراسة، لديهم أكثر اللكنات استواء. ومن المثير للاهتمام أن هناك اختلافات بين الجنسين أيضاً، حيث تكون النساء أقرب احتمالاً من الرجال لاستخدام النطق الجنوبي. يضيف ليمان: «النساء يقُدن التغيير».

يُنظر أيضاً إلى تقارب لكنات المملكة المتحدة من حيث خاصية تُعرف بـ«تفخيم الراء» Rhoticity: مدى وضوح حرف «r» في كلمات مثل «arm». (الممثلان الكوميديان راسل هوارد Russell Howard وستيفن ميرشانت Stephen Merchant من أمثلة المتحدثين «الأكثر تفخيما للراء»). وتظهر النتائج المستقاة من التطبيق أن صوتاً مميزاً للحرف «r» يُسمع اليوم في منطقة وست كانتري West Country وفي لانكشاير حول مدينتي بريستون وبولتون، كما كان الحال في خمسينات القرن العشرين، لكنه صار أقل انتشاراً في أي مكان آخر في البلاد (كان يُسمع سابقاً في المناطق الشرقية مثل أكسفورد وريدنغ).
مجتمعة، ترسم التغيرات في لكنات المملكة المتحدة التي كشف عنها تطبيق English Dialects صورة معقدة. لكن على وجه العموم، يشير هذا المشروع إلى وجود تقارب مؤكد ومستمر، حتى صارت الاختلافات الإقليمية أقل وضوحاً. واستخدم ليمان تطبيقه لدراسة اللهجات واللكنات في البلدان الأخرى أيضاً. ويقول: «في ألمانيا وسويسرا الناطقة بالألمانية، ستجد أيضاً أنماطا للتقارب». في سويسرا، مثلاً، تنتشر اللكنة التي يتحدثون بها في زيورخ.

بوتقة لغوية
في الولايات المتحدة هناك دليل على حدوث تغير أكثر حدة في اللكنة. وفي بلدة ليبرال Liberal في جنوب غرب كانساس، تطورت لكنة جديدة تماماً منذ ثمانينات القرن العشرين وتحول سكان المدينة من %20 إلى %60 من اللاتينيين خلال عقدين. وأعطى هذا التدفق للناطقين بالإسبانية لكنة إسبانية مميزة، حتى بين من لا يتحدثون الإسبانية.

تتشكل لكنات جديدة تماماً في أماكن أخرى في الولايات المتحدة، أيضاً، فيما يوصف بأنه «تغيّر حروف العلة في المدن الشمالية». وفي المدن المحيطة بالبحيرات الكبرى، مثل شيكاغو، وبافالو وكليفلاند، والطريقة التي ينطق بها حروف العلة تتغير. لذلك، مثلاً، تُنطق «بت» ‘bit’ بشكل يشبه ‘bet’، فيما تُنطق ‘bet’ وكأنها ‘but’. لا يوجد اتفاق على سبب ذلك، ولكن هناك نظرية واحدة مفادها أن كل ذلك بدأ بتدفق الناطقين باللغة الإنجليزية ذوي اللكنة الألمانية في القرن التاسع عشر، الذي ما زال له تأثير غالب على اللكنات المحلية حاليا.

لا تحدث التحولات في اللكنات دائماً في صورة انتقال جغرافي سلس. وتقول د. ناتالي برابر Natalie Braber، خبيرة اللغويات من جامعة ترنت في نوتنغهام، بلهجة اسكتلندية غربية: «في بعض الأحيان، ترى التغيرات تقفز من مدينة إلى أخرى، ولا تصل إلى المناطق الريفية بينهما». قد يحدث هذا لأن تغيّر اللكنات يكون أبطأ في المناطق الريفية. وكما تقول برابر: «تضم القرى الصغيرة عدداً أقل من الأشخاص الذين يهاجرون إليها مقارنة بالمدن، ومن ثمَّ يكون هناك تواصل أقل مع المجموعات الخارجية التي تجلب لكناتها».

يمكن رؤية مثال واضح على ذلك في لكنة لندن المتعددة الثقافات Multicultural London English (MLE)، التي يتضمن التحدث بها عناصر من لكنات الكاريبي ومنطقة غرب إفريقيا وآسيا. وفي هذه الحالة، تُصدر الحروف المتحركة في كلمات مثل (طعام) Food و(أزرق) Blue و(طاقم) Crew من الجزء الأمامي من الفم مع صوت «oo» أكثر وضوحاً، وهناك أيضاً النطق المتباين لحرف th في نهاية الكلمة th- Stoppinاو مايعرف الانتهاء بحرف th، من بين سمات أخرى. على الرغم من أنها بدأت في لندن، فإن جوانب من اللكنة MLE تنتشر إلى المدن الأخرى. ووجد مشروع بحثي في جامعة مانشستر متروبوليتان Manchester Metropolitan University، مثلاً، جوانب متعددة من اللكنة MLE لدى سكان مانشستر الشبان. وأظهرت أبحاث أخرى سمة تُعرف الابتداء بحرف الـ«th-fronting»، حيث يُستبدل صوت «th» بحرف «f» أو «v»، مثل نطق «fink» بدلا من «think» و «bave» بدلا من «bathe»، التي تنتشر شمالاً من الجنوب الشرقي، وتقفز من مدينة إلى أخرى.

تقول برابر: «أعتقد أن التطور» يمثل طريقة أفضل لوصف ما يحدث. لا أعتقد أن اللهجات واللكنات ستختفي؛ لأنها جزء كبير جدّاً من هويتنا. ولكننا نلاحظ اختفاء بعض اللكنات الريفية التقليدية لأن الناس صاروا يعيشون أكثر في المدن. لكن لا يمكن أن تخطئ في التعرف على شخص من ليفربول على أنه من برمنغهام».

من الصعب معرفة ما سيقودنا إليه ذلك، لكن تقريراً بعنوان «صوت عام 2066» Sound of 2066، أعدَّتهُ لحساب بنك HSBC عالمة الصوتيات د. دومينيك وات Dominic Watt من جامعة يورك University of York، ومدرب اللكنات بريندان غان Brendan Gunn، يلقي نظرة سريعة على ما ستكون عليه لكناتنا خلال 50 سنة من الآن. يتوقع أن يحدث التغيّر الأكبر في المدن البريطانية، في ضوء النسخ المتطرفة من التغيرات التي نراها بالفعل. ويقول التقرير سيضيع صوت ‘th’ القياسي كلياً في لندن، حيث سيسود الانتهاء بحرف ‘th’ والابتداء ‘th’ تماما. كما يشير إلى أنه بحلول عام 2066، سيكون الحرف المتحرك ‘u’ كما يُنطق في الشمال هو نفس النسخة الجنوبية، أو على الأقل ستكون هناك نسخة «مشوشة» في مكان ما بين الاثنين.

فإذا نحينا التوقعات الطويلة الأجل جانباً، فإن الصلة بين طريقة حديثنا وبين هويتنا هي ما يجعل هذا الحقل البحثي رائعاً. وخلال عملها، كثيرا ما تُسأل برابر عن كيف «ينبغي» أن تُنطق الكلمات. وتقول «يشعر الناس بالقلق أحياناً من أنهم قد يقدمون الإجابة الخاطئة. ولكن، في الحقيقة، لا توجد إجابات صحيحة أو خاطئة- ليست هناك طرق صحيحة أو خاطئة لقول الأشياء. ما لم تكن الكلمة هي ‘scone’، فمن الواضح أنها تُنطق على قافية كلمة ‘own’.
لكنة المستقبل؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى