لم يدُم الضوء في أول الأمر. بدأ كل شيء ساخناً جداً. مجرد إشعاع، في البداية: صادر عن نبضات بدائية ما لبثت أن تلاشت في ظلام الزمكان الممتد بنحو مفرط، والمخبَّأ خلف جدار النار الذي أحرق كل فيمتومتر من الكون الوليد. لم يكن هناك مصدر للضوء، لا وجود لنقطة اشتعال ينتشر منها؛ كان كل شيء، في كل مكان، وكان ذلك الكل مكان يتسع. كان الكون ينتفخ، والفضاء يهرب في أعقابه، وينشر الضوء على وجه الخليقة حتى تشكلت قطيرات: وُلدت المادة ساخنة زاعقة. مزقت الجسيمات الأولى البلازما الحارقة وانبثقت منها على شكل موجات، مع انتشار الاهتزازات الصوتية وتصادمها. كان الكون عبارة عن بحر من الأيونات – بروتونات وإلكترونات غير مقترنة، مع نثار متفرق من الهيليوم ونوى الضوء الأخرى – وُلد نووياً ساخناً من المصهر الشامل لكل شيء. نفث الكون النار التي تحولت ببطء إلى رماد ذري. التفَّت البروتونات موجبة الشحنة والإلكترونات السالبة معاً على نحو لولبي لتكوين ذرات متعادلة – هي الأولى في الكون – معظمها من الهيدروجين، ولم تعد بلازما، ولا أيونات، بل غاز. برد الغاز وهدأ. وهكذا استراح الكون مئة مليون سنة.
نسمي المرحلة اللاحقة عصور الكون المظلمة. (نحن علماء الفلك نصف الأمور حرفياً كما هي). كان الضوء المنبعث من الانفجار الكبير يتلاشى، ويمتد باتجاه الطيف الراديوي؛ لم تكن النجوم الأولى قد اتقدت بعد. على مدى دهور امتلأ الكون بضباب هيدروجيني مظلم انتشر مع توسع الكون، وتلاشى ما تبقى من حرارته.
ولكن…
أمكن للضباب أن يشعر بثقله ذاته. عندما بردت موجات البلازما الهائجة، تركت قمم موجاتها وراءها، مطبوعة في الغاز مثل عيوب صغيرة. بضع ذرات هنا؛ ومجموعة أرق قليلاً هناك. كتلة الذرة ضئيلة، لكن أعطها بعض الوقت وستعثر على جاراتها. شكَّل الضباب الأكثر كثافة سحباً: وشكلت الغيوم الأكثر كثافة عُقداً. صارت العقد أثقل وسحبت الغاز إلى مدار حولها، وراحت تدور وتتصادم معاً بقوة هائلة ضغطت الغاز إلى حد الاشتعال. الغاز نفسه الذي ظل خامداً على مدى عصور لا حصر لها، في وسط أضيق سحابة، عاد وتحول إلى فرن نووي متوهج بالحرارة. وهكذا وُلدت النجمة الأولى: إنه الفجر الكوني.
وسط ضباب الكون الكثيف، انبثقت النجوم إلى الحياة: نقاط صغيرة من الضوء الساطع، تتلألأ في الظلام. تجمعت معاً حيث تجمعت كبرى الكتل: بدأ عصر المجرات. وُلدت كل مجرة في بركة ضحلة من نورها، متوارية تكتنفها الغيوم الكثيفة المظلمة التي شكلتها، مثل ضوء المدينة يخنقه الضباب. تجعل تقلبات الفيزياء الذرية من الهيدروجين درعاً نجمياً فعالاً: أعطِ ذرة الهيدروجين فوتوناً من الضوء المرئي وسوف تستهلكه بالكامل، وتدفع إلكترونها إلى حالة أعلى من الطاقة، لتتجشأ الضوء لاحقاً في اتجاه عشوائي. لكن هذه الدرع مقيَّدة بذاتها. حمل الضوء المنبعث من المجرات الأولى إشعاعات أقوى أيضاً: ضوء فوق البنفسجي، ذو طاقة عالية جداً إلى درجة لا تستثير إلكترون ذرة هيدروجين غير حذرة فحسب بل تمحقه تماماً. بدأت فقاعات من ضوء المجرة الفالق للهيدروجين تنمو وتحفر ثقوباً في كتلة الغاز الباردة والكامنة بين المجرات. وعلى مدى بليون سنة ملأت الفقاعات الكونَ وانشطرت كل ذرة هيدروجين تقريباً إلى جزأين، تاركةً البروتونات والإلكترونات المنفصلة بعضها عن بعض هائمة في الكون مرة أخرى – ليست ناراً هذه المرة، بل ضباب منتشر ومشتت من الغاز المتأين من جديد.
”عندما ننظر عبر الكون، إلى المجرات التي يأتي ضوؤُها القديم إلينا من زمن ماضٍ سحيق، يمكننا أن نبدأ في رؤية خُبُو هذا الضوء، كأننا نشاهد الفيلم الكوني في الاتجاه المعاكس“
ما زلنا نحاول أن نعرف كيف مزقت النجوم الأولى الكون إرباً إرباً. نحن نسميها ”إعادة التأيُّن“ Reionisation، ومعرفتنا بها تأتي في المقام الأول من نهايتها. الكون المتأين هو الكون الشفاف للضوء المرئي؛ عندما ننظر عبر الكون، إلى المجرات التي يأتي ضوؤُها القديم إلينا من زمن ماضٍ سحيق، يمكننا أن نبدأ في رؤية خُبُو هذا الضوء، كأننا نشاهد الفيلم الكوني في الاتجاه المعاكس – ينتشر الغاز المحايد السميك ويكتنف المجرات حتى تختفي تقريباً تماماً عن الأنظار.
نحن مع ذلك محظوظون لأن لدينا طرائق لاجتياز الضباب. قد يُستهلك الضوء المرئي، لكن الأطوال الموجية الأطول للإشعاع – الأشعة تحت الحمراء والميكروية والراديوية – يمكن أن تنتقل من دون عوائق، وضوء النجوم كامل الطيف. باستخدام التلسكوبات الجديدة مثل التلسكوب جيمس ويب الفضائي، يمكننا أن نَلِجَ إلى حقبة إعادة التأين من خلال التقاط الجزء المكون من الأشعة تحت الحمراء في ضوء المجرات. وبفضل التلسكوبات الراديوية الجديدة، قد نفلح على نحو أفضل حتى مع التقاط الترددات المنخفضة لضوء الراديو المنبعث من الهيدروجين المحايد أو الممتص بواسطة الهيدروجين نفسه.
إن فهم إعادة التأين يماثل فهم النجوم والمجرات الأولى. ربما في يوم من الأيام سنشاهدها وهي تخرج من لفائف ولادتها، شرارات صغيرة تمتد عبر بحر من الظلام لتُغيِّرَه، على نحو لا رجعة فيه، إلى أبد الدهر.
كيْتي عالمة في الفيزياء الفلكية النظرية. تشغل حالياً منصب كرسي هوكينغ في علم الكونيات والتواصل العلمي Hawking Chair in Cosmology and Science Communication في معهد بيريميتر للفيزياء النظرية Perimeter Institute for Theoretical Physics.
تعليق واحد