1. الانــتــبــاه – من طيف واسع إلى تركيز دقيق، فهو صديقك المرن
عانينا جميعاً هذا الشعورَ المزعج عند تشتّت انتباهنا عن المهمة الجاري تنفيذها. لكن لا تقسُ على عقلك السريع النسيان: لقد تطورت أدمغتنا، لسبب وجيه، لتصبح قابلة للتشتت. نحن نثمّن القدرة على التركيز، لكننا نحتاج للمرونة في تركيز انتباهنا. إذا ركزنا بشدة، فسنفقد أزيز الأرضية الذي ينبهنا إلى وجود دخيل، أو نفحة الدخان التي تعلن عن نشوب حريق.
اتضح أن الانتباه أشد تعقيداً وغرابة مما يبدو. إذا نظرت ملياً إلى شيء ما- صورة لمشهد طبيعي، مثلا- قد تشعر بأنك تلاحظ كل شيء لكنك، في الواقع، تستوعب منه بضعة أجزاء فقط في كل مرة. والسبب هو أنه كلما زاد تركيزك، ضاقت رؤيتك. تمخض العمى الإدراكي Inattentional blindness، وهو الاسم الذي يُعرف به، عن عشرات البراهين، وأشهرها مقطع فيديو لمجموعة من الأشخاص يمررون كرة سلة إلى بعضهم. مع استمرار التمريرات، يسير شخص يرتدي بذلة غوريلا إلى منتصف المجموعة ويضرب بيديه على صدره قبل أن يتسلل مبتعدا ببطء. إذا عرضت الفيديو على أشخاص لم يسبق لهم رؤيته وطلبت إليهم مسبقاً ملاحظة الكرة عن كثب، فإن معظمهم سيفشلون في رؤية الغوريلا لأنها تقع خارج إطار التركيز الدقيق لانتباههم.
وكذلك فقد أظهر تعدد المهام Multitasking فشله في المختبرات. فقد أظهرت الأبحاث التي أجريت مؤخراً في جامعة برينستون Princeton University أن احساسنا بالاهتمام بأكثر من شيء في آن واحد هو مجرد وهم- فما يحدث بالفعل هو أن أدمغتنا تتحول سريعاً ذهاباً وإياباً من شيء إلى آخر. حتى عندما نركز على مهمة واحدة، يتشتت انتباهنا عدة مرات في الثانية، فتتحقق أدمغتنا من عدم وجود شيء مهم يحدث في مكان آخر. يخلق هذا فجوات في تركيزنا تستغرق أجزاء من الثانية. عندما نحاول أداء مهام متعددة، تتضخم هذه الفجوات لدرجة لا ننفذ معها أي مهمة بشكل جيد. ولهذا السبب، فإن استخدام الهاتف أثناء القيادة أمر خطير جدا.
جسديا، يتعلق الانتباه بالنشاط العصبي في مناطق الدماغ المعنية بمهمة الانتباه. إذا كنت تستمع إلى الموسيقى، مثلا، فستلتمع العصبونات في القشرة السمعية Auditory Cortex (بالقرب من الأذنين)؛ وإذا كنت تدرس صورة، فسيكون هناك نشاط في دماغك البصري Visual Brain (في الجزء الخلفي من الرأس). أما المناطق الواقعة في الفصين الجداريين للدماغ Parietal Brain Lobes (في أعلى الجزء الخلفي من الدماغ) فتوجّه الانتباه إلى فضاء ثلاثي الأبعاد. كلما زاد تركيزك على شيء ما، زادت حدة النشاط واستمراره. وما يعرف بالموجات الدماغية غاما Gamma Brainwaves، التي تُحدثها عصبونات تُرسل إشاراتها بسرعة تزيد على 25 مرة في الثانية الواحدة، تشير إلى تركيز شديد، في حين أن الموجات الدماغية الأبطأ تُشير إلى انتباه أكثر تشتتاً وشروداً.
للجزء الخلفي من الفص الجداري أهمية خاصة للانتباه لأنه يوجه تركيزك، مثل يد توجّه ضوء مصباح. يمكن لهذه المنطقة جعل الشخص أعمى فعليا عن أجزاء كاملة من العالم- كل شيء في النصف الأيسر من مجاله البصري، مثلا. وعلى الرغم من أنه يمكنه رؤية ما هناك، فإنه لا يراه فعليا لأنه لا يجذب انتباهه. ولا يرى ذلك إلا عندما يرغمه شخص آخر على الانتباه إليه.
لكن العمى المرتبط بالانتباه أمر نعايشه جميعاً بدرجة أقل، وقد يصل إلى جميع مجالات حياتنا. ربما لا يكون الأفراد على دراية تامة بأنهم يعيشون في منزل قذر، أو أن شخصاً ما يحبهم أو يكرههم، أو أنهم يلبسون دائماً جوارب غريبة أو أن شريك حياتهم يخونهم. قد يكون هذا الجهل نعمة، لكنه قد يؤدي إلى كارثة. يعد التركيز على المهمة الجاري تنفيذها مهارة مهمة يجب تعلّمها، ولكن في بعض الأحيان قد يكون من المهم توسيع مجال اهتمامنا.
اضبط انتباهك
ضع مخططاً لحياتك، وقسّمه إلى مجالات مثل العمل، والأسرة، والصحة وما إلى ذلك. راجعه بانتظام، مع مراعاة ما إن كان أي أمر يحتاج إلى الانتباه في كل مجال. إذا كان الأمر كذلك، ضع علامة على هذا المجال حتى تنتهي منه. والهدف هو الحفاظ على الرسم البياني واضحا. عن طريق النظر في حياتك على نطاق واسع، ستتأكد من أنك لا تركز على مجال واحد على حساب المجالات الأخرى.
اقرأ، أو شاهد أو استمع إلى شيء جديد كل يوم. سيحفز هذا الموضوع غير المألوف مناطق الدماغ غير المستغلة بشكل كاف، مما يسهل تنشيط خلايا الدماغ تلك مرة أخرى في المستقبل، ويساعد على زيادة انتباهك الإجمالي.
خذ فترات راحة قصيرة من المهام التي تحتاج إلى اهتمام طويل. عندما نفعل الشيء نفسه لفترة طويلة، يفسر الدماغ المحفز المستمر باعتباره غير مهم بشكل متزايد، ويصبح أكثر عرضة لتشتت الانتباه.
مارس التمارين البدنية قبل عمل أي شيء يحتاج إلى تركيز شديد. وجدت دراسة أجرتها جامعة إلينوي University of Illinois أن أطفالاً في سن التاسعة ركزوا بشكل أفضل بعد 20 دقيقة من السير على جهاز الركض مقارنة بما فعلوه بعد 20 دقيقة من الراحة. أظهرت قياسات نشاط الدماغ بعد التمرين وجود نمط ارتبط سابقاً بتركيز الانتباه.