في سياق الصحة النفسية، الرهاب Phobias أكثر خطورة بكثير من الشعور الخفيف بالنفور. يكره كثير منا الطيران، أو إلقاء كلمة أمام زملائنا، وقد لا نشعر بالسعادة إذا اقترب منا كلب كبير، مهما كان لطيفاً. ولكن ما دمنا نستطيع أن نتحمل هذه الأنواع من المواقف من دون أن نشعر بكثير من الضيق، ولم تتأثر حياتنا سلباً بها، فإننا لا نعاني الرهابَ إزاء أيٍّ منها.
على النقيض من ذلك فإن الأشخاص الذين شُخصت إصابتهم برُهابٍ إزاء شيء ما قد يشعرون بخوف شديد وتغمرهم مشاعر ضيق ساحقة. وقد تكون ردود فعلهم قوية إلى درجة أنها قد تؤثر في ممارسة شؤون حياتهم اليومية. الرهاب من الطيران، والرهاب الاجتماعي، والخوف من الكلاب (حتى اللطيفة منها) هي أمثلة شائعة، ولكن هناك العشرات من الأمثلة الأخرى، بما في ذلك بعض الأمثلة الغريبة تماماً، مثل رهاب الثقوب أو النخاريب Trypophobia، وهو الخوف الشديد لدى رؤية مجموعة من الثقوب (مثلما هي الحال مع بعض الفطائر والقطايف)، ورُهاب السكون Sedatephobia (الخوف من الصمت) ورُهاب الكِبَر Gerascophobia (الخوف من الشيخوخة).
هل الرُهاب اضطراب؟
”الرُّهاب هو تشخيص نفسي رسمي ضمن فئة القلق“
الرُهاب هو تشخيص نفسي رسمي ضمن فئة القلق. لكي يجري تشخيص أحد بهذا الرهاب، يجب أن يكون قد عاناه مدة ستة أشهر على الأقل، ويجب أن تكون ردود أفعال الخوف لديه تجاه منشأ الرهاب غير متناسبة مقارنة مع الخطر الذي يمثله.
يتعرف الطب النفسي على خمس فئات رئيسة من ”الرهاب المحدد“ Specific phobia (ما بين 3 و15% من الأشخاص سيصابون بواحدة من هذه الفئات في مرحلة ما من حياتهم): رهاب الحيوانات (تُعَد العناكب والثعابين أمثلة شائعة)؛ الرهاب البيئي (مثل المرتفعات أو المياه العميقة)؛ رهاب الدم/الحقن (فكر في الإبر أو بمجرد رؤية الدم)؛ الرهابات الظرفية (مثل الجسور أو أطباء الأسنان)؛ وأخيراً فئة ”أخرى“ تغطي كل شيء تقريباً، مثل الخوف من البلع أو الإصابة بالمرض.
بصرف النظر عن أنواع الرهاب المحددة، هناك ”رهاب اجتماعي“ (يُعرف أيضاً باسم ”القلق الاجتماعي“ ويعانيه ما يصل إلى 12% من الأشخاص في مرحلة ما)، ورهاب الخلاء أو رُهاب الساح Agoraphobia (يصيب نحو 1% من الناس). يعتقد كثير من الناس خطأً أن رهاب الخلاء هو الخوف من الخروج، أو من الأماكن المفتوحة، ولكنه في الواقع يوصف بدقة أكبر على أنه الخوف من الوجود في أي نوع من المواقف التي قد يكون الهروب فيها مستحيلاً، لذلك يمكن أن يظهر على شكل خوف من أن يكون الشخص عالقاً في حركة المرور، على سبيل المثال.
كيف يؤثر الرُهاب في الدماغ
هناك شبكة من بنى الدماغ، تُعرف باسم الجهاز الطرفي (الحوفي) Limbic system على صلة بالخوف والقلق واكتساب الرهاب. ربما تكون البُنية الأكثر أهمية هي اللوزة الدماغية (الجسم اللوزي) Amygdala (توجد لوزة في كل جانب من الدماغ) وهي تؤدي دوراً مُهماً في تعلم المخاوف. تخيل طفلاً يسمع صوت طنين ثم يلدغه دبور، ستؤدي اللوزة الدماغية دوراً رئيساً في مساعدته على تعلم الربط بين صوت الطنين وخطر التعرُّض للَّسع. إذا كان الخوف شديداً بدرجة كافية، فإن اللوزة ستتواصل مع أجزاء أخرى من الجهاز الطرفي مثل تحت المهاد Hypothalamus، للمساعدة على إطلاق استجابة القتال أو الهرب، والدماغ الخلفي (بما في ذلك جذع الدماغ)، لتحفيز استجابة مفاجئة مثل سحب اليد المصابة بسرعة. إن تفعيل الاستجابة للقتال أو الهروب هو الذي يمكن أن يؤدي إلى رد فعل رهابي طاغٍ جداً يشمل ارتفاع سرعة معدل ضربات القلب، والتنفس السريع، والغثيان، والذعر، والتعرق.
كيف ينشأ الرهاب؟
تتطور بعض أنواع الرهاب من النفور الطبيعي. على سبيل المثال، يمكن أن يشتد كره العناكب أو المرتفعات بمرور الوقت حتى النقطة التي يصير فيها رهاباً. في البداية قد تكون التجربة معتدلة إلى حدٍّ ما. تخيل أن ترى عنكبوتاً وأن تجده مخيفاً وترغب في الابتعاد عنه. لكن بمرور الوقت، إذا صار هذا النفور مصدر قلق، وبدأ يسبب مشكلات في ممارسة شؤون الحياة اليومية، فسيصير رهاباً قابلاً للتشخيص.
على سبيل المثال تخيل أن تجد صعوبة في النوم ليلاً خوفاً من وجود عنكبوت يتربص تحت السرير أو في الظل؛ أو أن تسبب لك رؤية عنكبوت في زاوية المكتب أو في الفصل الدراسي إزعاجاً وضيقاً كبيرين جداً إلى درجة تُضطر معها إلى مغادرة الغرفة. وبالمثل مع المرتفعات فإن الشعور بعدم الراحة في موقع مرتفع وغير مستقر أمر شائع ومفهوم، لكن الشعور بالخوف الشديد من المرتفعات بحيث لا يمكنك العمل في طابق مرتفع في برج، أو لا يمكنك الذهاب في رحلة جغرافية مدرسية إلى المنحدرات، من شأنه أن يقترح أنك تعاني الرُّهاب.
يمكن أن تظهر أنواع الرهاب الأخرى على نحو دراماتيكي، كأن يحصل ذلك بعد حادثة مخيفة ومزعجة بنحو خاص، مثل لدغة دبور مؤلمة أصبت بها عندما كنتَ طفلاً وأدت إلى الرهاب. كما أن تجنب مصدر الخوف يؤدي عادة إلى تأجيج الرهاب. على سبيل المثال إذا كنت تتجنب باستمرار العناكب أو المرتفعات أو الدبابير، فلن تشعر أبداً بأنها لا تشكل تهديداً في العادة، ومن ثم قد يتفاقم خوفك منها، ثم ينمو بمرور الوقت.
هل يمكن أن ”نرث“ الرُّهاب؟
لا يمكن أن نرث نوعاً معيناً من الرهاب من خلال جيناتنا بالمعنى الحرفي، ولكن يبدو أن بعض الأشخاص أكثر استعداداً للإصابة بالرهاب من غيرهم – وهذا يميل إلى الانتشار في العائلات. إذا عدنا إلى لدغة الدبور في مرحلة الطفولة، فسيتبين لنا أن عديداً من الأشخاص سينسون هذه التجربة بسرعة، ولكن بالنسبة إلى أولئك الذين لديهم مزاج أكثر ميلاً إلى القلق والشعور بالخوف – ربما يكون موروثاً جزئياً على الأقل عن طريق جيناتهم – فمن المرجح أن يتطور الأمر إلى رهاب كامل.
قد يكون جزء من هذا الضعف تجاه السبب مرتبطاً بالطريقة التي يبدأ بها بعض الأشخاص، دون غيرهم، في الواقع في الخوف من رد فعلهم المخيف على محفزات معينة (بنحو أساسي، يطورون خوفاً من الخوف، ويجدونه مخيفاً ويسبب لهم كثيراً من الضيق).
إلى حد ما من الممكن أيضاً اكتساب الرهاب من الآخرين. إذا نشأتَ في عائلة تخشى الطيران بشدة، على سبيل المثال، فمن الأرجح أنك أيضاً ستنمي خوفك من الطيران (وبالطبع فإن هذه ”النمذجة“، كما هو معروف، ستتفاعل أيضاً مع نواحي ضعف جينية).
”يبدو من السهل والشائع بنحو خاص أن ينشأ لدينا رُهاب تجاه الأشياء التي هددت بقاء أسلافنا“
ضع في اعتبارك أيضاً أنه يبدو من السهل والشائع بنحو خاص أن ينشأ لدينا رهاب تجاه الأشياء التي هددت بقاء أسلافنا، مثل المرتفعات والثعابين. وكقاعدة عامة، الخوفُ باعتدال مفيدٌ ويساعد على إبقائك على قيد الحياة، ولكن عندما يخرج عن نطاق السيطرة فإنه يصير رُهاباً.
هل يمكن التخلص من الرهابات؟
يمكن أحياناً أن تخف الرهابات من تلقاء نفسها، كما أنها قابلة للعلاج إلى حد كبير. تطورت الأساليب الشائعة للعلاج بمرور الوقت. كما تلاشت إلى حد كبير أساليب التحليل النفسي التي تنظر إلى الرهاب على أنه تعبير خارجي عن مشكلات عاطفية خفية. في هذه الأيام صار الأرجحُ هو تعليمَ من يعاني الرهاب تقنيات الاسترخاء لمساعدته على التحكُّم في رد فعل الخوف لديه، وسيدمج هذا مع التعرض التدريجي لما يسبب الرهاب لديه، بحيث يمكنه إدراك أنه ليس خطيراً كما يعتقد. تستخدم التدخلات المتطورة الواقع الافتراضي أو الواقع المعزز للمساعدة على التغلب على الرهاب – تسمح هذه الأساليب بالتحكم الدقيق في شدة مصدر الخوف (على سبيل المثال، عن طريق تغيير حجم العنكبوت أو ارتفاع السلم) وتعمل كنقطة انطلاق مفيدة على طريق مواجهة الخوف بصورة واقعية. توجد في مرحلة تجريبية، دراساتٌ تستخدم حاصرات بيتا Beta blocker ومركبات أخرى للتدخل في الأساس الدماغي للمخاوف المكتسبة.
الرهابات والعالم الحديث
من الناحية النظرية من الممكن تطوير خوف شديد من أي شيء تقريباً، وفي عصور مختلفة، تغير تركيز مخاوف الناس. على سبيل المثال، في الأيام الأولى للسفر بالقطار، كان هناك اهتمام كبير بأشكال مختلفة من رهاب القطارات Siderodromophobia، مثل الخوف من تفويت القطار – يُقال إن عالم النفس سيغموند فرويد Sigmund Freud كان يعانيه – أو من الأحاسيس الجسدية التي تسببها. في الآونة الأخيرة كان هناك كثير من الحديث عن ”النوموفوبيا“ Nomophobia، وهو الخوف من أن تكون من دون هاتفك المحمول، إما بسبب أن بطاريته فرغت أو لأنك فقدته.
وعلى نحو متصل يتحدث الناس حالياً عن ”الخوف من تفويت الاتصال“ Fear of missing out (اختصاراً: FOMO) والذي يمكن أن ينجم عن عدم القدرة على الاتصال بوسائل التواصل الاجتماعي، أو الوصول إلى أشكال أخرى من المعلومات. في بعض الأحيان يمكن أن تظهر رهابات معروفة منذ فترة طويلة بطرق جديدة. على سبيل المثال، هناك ”رهاب التحديق“ Scopophobia – الخوف من وجود من يحدق بنا – والذي اكتسب أهمية جديدة في عصر اجتماعات الزووم Zoom. هناك رهاب معاصر آخر ربما يكون في الطرف الأكثر اعتدالاً من الطيف، هو ”الأغمينوفوبيا“ Agmenophobia وهو الخوف من الوقوف في صف الانتظار الخطأ، وهو عادةً ما يكون الأبطأ.
د. كريستيان جاريت
كريستيان عالم نفس وكاتب ومحرر. أحدث كتاب له بعنوان كُن كما تريد: إطلاق العنان لعلم تغيير الشخصية Be Who You Want: Unlocking The Science Of Personality (منشورات: Robinson)
خمسة رُهابات غير عادية
رهاب الركبتين Genuphobia
الخوف من الركبتين (Genu كلمة لاتينية تعني الركبتين) يمكن أن يظهر بطُرق مختلفة، مثل الخوف غير المنطقي من رؤيتهما، أو حتى القلق الشديد من التعرض للإصابة في الركبة أو الركوع.
رهاب الصوف القطني Bambakomall Phobia
الخوف من الصوف القطني (المصطلح الرسمي يتكون من الكلمات اليونانية للقطن والصوف). قال كريس هال Chris Hall الذي يعانيه، لصحيفة الغارديان في العام 2019: ”أشعر بالغثيان لمجرد التفكير خاصةً بالطريقة التي قد أشعر بها وهو بين أصابعي والصرير الصادر عنه“.
رهاب اللحية Pogonophobia
الخوف من اللحى (كلمة بوغون Pogon تعني اللحية باليونانية) ويقال إنها أكثر شيوعاً بين النساء من الرجال. في بعض الحالات، كل ما يتطلبه الأمر هو ظهور القليل من الزغب للشعور بالرهاب. وقيل إن رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر Margaret Thatcher كانت تعانيه.
رهاب اللمس Haphephobia
الخوف من التعرض للمس حتى من قبل أفراد العائلة أو الأصدقاء. إنها ليست مشكلة على صلة بحساسية في الجلد، بل هي نفور من فكرة أن يتعرض الشخص للمس. وُصف كريستيان غرايChristian Grey، وهو شخصية خيالية من فيلم درجات اللون الرمادي الخمسون Fifty Shades Of Gray، بأنه يعاني هذا الرهاب.
رهاب الثقوب Trypophobia
الخوف من الثقوب، من الكلمة اليونانية التي تعني الثقوب Trýpa. بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعانون هذا الرهاب يمكن أن يكون الجبن أو الفطائر الصغيرة أو أي شيء يحتوي على مجموعة من الثقوب كافياً لإثارة الشعور بالخوف لديهم.
