أخيراً أقلعت
بعد انتظار طويل صار العالم قاب قوسين أو أدنى من تشغيل أولى الطائرات الخالية من الانبعاثات. ولكن هل توفر لنا الحل الذي نحتاج إليه؟
إيان تايلور Ian Taylor
وصلنا بهدوء إلى مستقبل الطيران البشري، في وقت لم يكن أحد يسجل فيه أميالاً جوية. كان ذلك في شهر يونيو من العام 2020، وكانت السماء فارغة على غير العادة، حين كان العالم يترنح بسرعة تفشي كوفيد-19 (COVID-19). لكن على الأرض، سجلت طائرة صغيرة جداً إنجازاً هائلاً.
صدَّقت وكالة سلامة الطيران التابعة للاتحاد الأوروبي European Union Aviation Safety Agency (اختصاراً: الوكالة EASA) تراخيص طائرة ذات مقعدين مصنوعة في سلوفينيا على أنها آمنة للطيران. وفي غضون سنوات قليلة، اعتمدتها هيئات مماثلة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأماكن أخرى. أصبحت طائرة بيبستريل فيليس إليكترو Pipistrel Velis Electro أولَ طائرة كهربائية بالكامل معتمَدة في العالم. وما زالت الوحيدة. يقول د. تاين تومازيتش Tine Tomažič، مدير الهندسة والبرامج في بيبستريل Pipistrel: ”يعكس هذا الإنجاز الاهتمامَ المتزايد بالطائرات الكهربائية وثقة بإمكان الاعتماد عليها… انتهينا أخيراً من إنتاج الوحدة الرقم 100 من فيليس إليكترو، وهذا يمثل علامة فارقة مهمة لشركة بيبستريل وللقطاع أيضاً“.
لقد بلغنا المستقبل بالفعل، كما يقول تومازيتش، ولكن كما يقول مؤلف الخيال العلمي ويليام غيبسون William Gibson، فإن المستقبل بعيد كل البُعد من أن يكون متاحاً أو موزعاً على نحو متساوٍ. فعلى الرغم من تطوير عدد متزايد من الطائرات الأقل تلويثاً، ما زالت هناك أسئلة مهمة لم نجد لها إجابات حول أنواع الوقود البديلة المطلوبة للتحليق بها، وأكثر من ذلك حول الإرادة السياسية للمضي قُدُماً في كل ذلك. بعد عدة محاولات فاشلة، هل بلغنا اللحظة التي سيصير فيها السفر عبر الجو خالياً من الانبعاثات؟ أو أن الطيران الخالي من الكربون ما زال مجرد أفكار تنتمي إلى عالم الخيال؟
التأثير في المناخ
يقول د. غاي غراتون Guy Gratton، على نحو غير متوقَّع إلى حد ما: ”في الوقت الحالي، لا يُعد الطيران مساهماً رئيساً في تغيُّر المناخ“. غراتون هو أستاذ مشارك في الطيران والبيئة من جامعة كرانفيلد Cranfield University في المملكة المتحدة. وهو مهندس طيران وطيار اختبار يقود طائرات كهربائية تجريبية، وبعبارة أخرى: هو يعرف ما يتحدث عنه.
يقول غراتون: ”يولد الطيران نحو 2.5% من انبعاثات الكربون على مستوى العالم، وهي نسبة صغيرة، خاصة عندما نأخذ في الاعتبار أهميته بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي. هناك أبحاث علمية تقترح أن مساهمة الخطوط النفاثة التي تتشكل وراء الطائرات على شكل خطوط بيضاء قد تكون أسوأ من ذلك، لذلك ربما تصل إلى نحو 7%“.
يقول غراتون إن القطاع يعمل على تحسين انبعاثاته بنسبة 2% تقريباً لكل ميل يقطعه كل مسافر سنوياً. لكنه ينمو أيضاً بنسبة 5% سنوياً.
ما الوقود الذي يمكن أن يوصلنا إلى طائرات ذات انبعاثات صفرية؟
الوقود الحيوي
يمكن خلط الوقود الحيوي المشتق من المحاصيل أو أي كتلة حيوية أخرى مع وقود الطائرات الحالي، لكنه في أفضل الأحوال لن يخفض الانبعاثات إلا بنسبة 40%، يقول د. غاي غراتون. وهناك قلق ذو صلة بشأن الأراضي التي تحتاج إليها تلك المحاصيل وعمليات إزالة الغابات التي ستنجم عن استصلاحها.
الوقود الكهربائي
يصنَّع عن طريق انتقاء ثاني أكسيد الكربون وأول أكسيد الكربون من الغلاف الجوي ودمجهما مع الهيدروجين. إنه حل واعد، ولكنه ما زال في مرحلة تجريبية، وإذا توسّع نطاقه فسيتطلب كثيراً من الكهرباء المتجددة لتحقيق صافي إنتاج صفري حقيقي.
خلايا الوقود الكهربائية
تُستخدَم هذه البطاريات بالفعل في بعض الطائرات (معظمها نماذج أولية)، وهي قابلة للمقارنة بتلك المستخدَمة في السيارات الكهربائية. وعلى الرغم من أنها لا تُنتج أي انبعاثات في أثناء الطيران، فإن هذه التكنولوجيا تستهلك كثيراً من الطاقة كما تحتاج إلى استبدال البطاريات.
خلايا وقود الهيدروجين
أثنى البعض عليها بصفتها أفضلَ خيار على المدى المتوسط لإزالة الكربون من قطاع الطيران، ويمكن توسيع نطاق خلايا وقود الهيدروجين لتشغيل الطائرات الأكبر حجماً. ومع ذلك ستحتاج هذه الطائرات والبنية التحتية الداعمة لها إلى إعادة تصميم جذري ليتسنى تزويدها بالوقود الجديد.
من المتوقع أن يتضاعف الطلب العالمي على النقل الجوي بحلول العام 2040، وهذا يعني أنه في حين تُسجل الصناعات الأخرى علامات تقدُّم في مجال إزالة الكربون في مواجهة أزمة المناخ، فإن الطيران يتجه نحو زيادة إجمالي انبعاثاته، ولأن يصير من خلال ذلك أحد أسوأ الملوثين في العالم. يقول غراتون: ”لكي نتمكن من الاستمرار في جني الفوائد الاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي يوفرها الطيران للعالم، نحتاج إلى إصلاح ذلك وتجنُّب أن يصير الطيران من أكبر مصادر التلوث في المستقبل. السؤال هو: كيف يمكننا أن نفعل ذلك؟“.
خطوات صغيرة
تتصدر طائرة فيليس إليكترو المشهد، لكن الطائرات الكهربائية الأولى ليست مصمَّمة لتحل محل طائرات الركاب الكبيرة. غالبيتها لا تصل إلى مدى كافٍ يتيح لها عبور قناة المانش بين فرنسا وبريطانيا، فضلاً عن المحيط الأطلسي. وبدلاً من ذلك، صُممت هذه الطائرات الرائدة للرحلات القصيرة. صُممت فيليس إليكترو خصيصاً للتدريب على الطيران، فهي يمكن أن تطير 50 دقيقة مع 20 دقيقة احتياطية ويصل مداها إلى 100 ميل بحري (185 كم). إنها مزوَّدة بمحرك كهربائي بقوة 58 كيلو وات مع بطاريتي ليثيوم خفيفتي الوزن دورهما محوري في هذه التكنولوجيا. تكمن مشكلة البطاريات التقليدية في أنها إما ثقيلة جداً وإما ساخنة جداً (وإما كلاهما)، وهذا يجعلها غير آمنة وغير عملية للطائرة. ولكن نظام بيبستريل يجعل مجموعة نقل الحركة بكاملها آمنة وخفيفة وفعالة.
يقول تومازيتش: ”تُبَرَّد مجموعة نقل الحركة بالكامل بالسوائل. لقد أظهرت مستويات من السلامة تعادل أو تتجاوز تلك التي توفرها الطائرات التي تعمل بالوقود التقليدي“. تزن البطارية 70 كغم (154 رطلاً) وتزن الطائرة بكاملها فقط 425 كغم (936 رطلاً) عندما تكون فارغة. ولكن إذا كانت التكنولوجيا المعتمَدة ثورية، فإن قمرة القيادة مألوفة وأدوات التحكم مشابهة للطائرات التقليدية من الحجم نفسه. لا يحتاج الطيارون إلى ترخيص إضافي للطيران بالطائرة الكهربائية، لكنهم سيلاحظون بعض الاختلافات [ص 54]، كما يقول تومازيتش. بادئ ذي بَدء لا يحتاج المحرك إلى الإحماء، والضوضاء التي يصدرها منخفضة. ويضيف: ”تضخ الطائرة الطاقة على الفور ومن دون تردد… إنها تستخدم واجهة مستخدِم مبسطة في قمرة القيادة تحافظ على الشكل نفسه كما في الطائرات التقليدية وعلى المظهر نفسه. كما أن قمرة القيادة أكثر هدوءاً من الطائرات التقليدية، مما يوفر إمكانيات اتصال أفضل“.
تتضمن خطط بيبستريل المستقبلية صُنعَ طائرة إليكترو Electro ذات أربعة مقاعد بمدى يصل إلى 200 ميل (370 كم)، وهي تعمل أيضاً مع الاتحاد الأوروبي على مشروع يُسمى يونيفاير 19 Unifier 19. يقول تومازيتش: ”إنها مبادرة من الاتحاد الأوروبي لتطوير ’طائرة ركاب صغيرة‘ Mini liner صديقة للمجتمع ومنخفضة الضوضاء وانبعاثات الكربون لربط المناطق النائية داخل أوروبا“.
”الطائرة التي تعمل بالبطارية ستحل جزءاً صغيراً جداً من مشكلة كبيرة وتزداد حدة“
وستنضم طائرات كهربائية أخرى إلى طائرة فيليس إليكترو، لتحلِّق قريباً في السماء؛ إذ تعمل شركة إليسيان أيركرافت Elysian Aircraft الهولندية الناشئة على إطلاق طائرتها النموذجية E9X في العام 2033. ومع دمج البطاريات في أجنحة الطائرة، يؤمَل أن تنقل 90 راكباً مسافةَ نحو 430 ميلاً (800 كيلومتر). أما شركة رايت إليكتريك Wright Electric (نعم، سُميت على اسم الأخوين رايت) الأمريكية الناشئة فتعمل على تطوير طائرة كهربائية من 180 مقعداً بالشراكة مع إيزي جيت EasyJet. لكن بصفته شخصاً يختبر الطائرات الكهربائية، يتحفظ غراتون عن الترحيب بالطائرات التي تعمل بالبطاريات بصفتها تُمثل الحل. قد تقلل من انبعاثات الكربون للمشاهير الذين يسافرون من شققهم في العمارات العالية إلى مهرجان موسيقي. كما إنها ستغطي الرحلات القصيرة بين المدن، مثل لندن وإدنبره أو جيجو وسيول في كوريا الجنوبية، وهو طريق الطيران الداخلي الأكثر ازدحاماً في العالم. لكن الرحلات الجوية القصيرة تمثل أقل من 20% من إجمالي انبعاثات الكربون الناجمة عن الطيران. إذا لم يتسع نطاق تكنولوجيا البطاريات لتغطية الرحلات الجوية المتوسطة والطويلة المدى، فإن الطائرات التي تعمل بالبطاريات ستحل جزءاً صغيراً جداً من مشكلة كبيرة وتزداد حدة.
يقول غراتون: ”ربما تكون خطوة ضرورية على الطريق نحو حلول أخرى… لكنها لن تحل المشكلة لسبب بسيط وهو أن البطاريات التي لدينا ليست جيدة بما فيه الكفاية، وليس من المتوقع أن تصير جيدة بما فيه الكفاية“.
بديل
هناك خيار آخر هو وقود الهيدروجين الذي يمكن أن يعمل بأكثر من طريقة. يمكن حرق الهيدروجين في محرك توربيني لإنتاج قوة الدفع، أو يمكن لخلايا وقود الهيدروجين توليد الكهرباء لتشغيل محرك كهربائي. يُعَد الهيدروجين، على نطاق واسع، أحدَ أفضل الخيارات المتاحة لإزالة الكربون من قطاع الطيران. الانبعاثات الوحيدة في أثناء الرحلة هي الماء، وتشير التوقعات إلى أن طائرات الهيدروجين ستشكل ثلث احتياجات القطاع من الطاقة بحلول منتصف القرن.
تستثمر بعض مجموعات الطيران العملاقة كثيراً من المال في هذه التكنولوجيا. فشركة إيرباص تعتزم طرح مفهوم الطائرة زيروإي ZEROe التي تعمل بالهيدروجين بحلول العام 2035. كما إنها تستثمر في شركات أصغر مثل زيروأفيا ZeroAvia، ومقرها في كوتسوولدز في جنوب غرب إنجلترا. في العام 2023، عرضت شركة زيروأفيا الرحلة الأولى لطائرة دورنير 228 Dornier 228 التي تسَع 19 مقعداً والمزوَّدة بنموذج أولي لمجموعة نقل الحركة الكهربائية والهيدروجينية. طارت مدة 10 دقائق فقط، لكنها أكبر طائرة تطير بالطاقة الهيدروجينية على الإطلاق.
بعد الرحلة التجريبية، قال الرئيس التنفيذي للشركة فال مفتاخوف Val Miftakhov: ”هذه لحظة مهمة، ليس فقط بالنسبة إلى شركة زيروأفيا، ولكن أيضاً لقطاع الطيران ككل، لأنها تظهر أن تنظيم رحلة تجارية حقيقية خالية من الانبعاثات لا تبعد عنا سوى بضع سنوات“.
لا تقلُّ عنها طموحاً سيريوس جيت Sirius Jet من شركة سيريوس أفيايشين Sirius Aviation. تعمل الشركة التي يقع مقرها في سويسرا على تطوير طائرة لرجال الأعمال تعمل بالهيدروجين الكهربائي للإقلاع والهبوط العموديين (eVTOL)، ويمكنها نقل ثلاثة أشخاص. توجد على الطائرة 28 مروحة نفاثة على امتداد جناحيها، كل منها مزودة بمحرك كهربائي وقابلة للإمالة للتبديل بين الرحلة العادية والعمودية. يقول أليكسي بوبوف Alexey Popov، الرئيس التنفيذي لشركة سيريوس أفيايشين، إن مدى الطائرة سيكون أكثر من 1,000 ميل (1,800 كيلومتر)، وستسافر بسرعة 323 ميلاً في الساعة (نحو 520 كيلومتراً في الساعة)، ولكن أكثر ما يفخر به هو كفاءة مخزون وقود الهيدروجين: ”في الطائرات النفاثة التقليدية، تصل الكفاءة إلى نحو 30%. في مجموعة خلايا الوقود لدينا، تبلغ 50%“.
مشكلة واحدة وحلول متعددة
يوافق غراتون على أن الهيدروجين سيؤدي، على الأرجح، دوراً مهماً في إزالة الكربون من قطاع الطيران، لكن هذا لا يعني أن الانتقال سيكون سهلاً. يقول: ”يبدو الهيدروجين جيداً من ناحية الوزن. إنه يعادل، إلى حد كبير، الكيروسين، وهو ما نستخدمه حالياً في تشغيل الطائرات النفاثة. ولكن من حيث الحجم، فإنه يشغل مساحة أكبر بكثير. إذا أردنا المضي قُدماً في مسار الاعتماد على الهيدروجين، فسنحتاج أساساً إلى طائرات جديدة. سنحتاج إلى تصميم طائرات جديدة، ومحركات جديدة، وأنظمة وقود جديدة، وطرق جديدة لتوزيع الوقود في المطارات“. وهذا ينطبق على أي حل. في العام 2023 ساهم غراتون في إعدد تقرير مثير للقلق أصدرته الجمعية الملكية حول مستقبل السفر الجوي الأخضر، وما هو مطلوب لتحقيق أهداف المملكة المتحدة للوصول إلى صافي كربون صفري. وخلص التقرير إلى أنه ”لا يوجد بديل واحد واضح ومستدام لوقود الطائرات قادر على تلبية حجم الطلب على الطيران على نطاق يعادل ما لدينا في الوقت الحالي“.
ومن خلال تقييم التكاليف والموارد المتاحة وعوامل أخرى، حدد التقرير حجمَ التحدي. فلنفترضْ أن العالم اختار الوقود الحيوي باعتباره البديل المفضل لوقود الطائرات. وهذا مفضل عند البعض لأنه يتطلب أقل قدر من أعمال تكييف البنية التحتية الحالية وتكنولوجيا الدفع. لكن مجرد تلبية الطلب الحالي على الطيران سيتطلب تخصيص نحو نصف الأراضي الزراعية في المملكة المتحدة لزراعة هذه المحاصيل. وبالمثل لإنتاج ما يكفي من وقود الهيدروجين النظيف، يقول تقرير الجمعية الملكية إنه يتعين علينا العثور على ما يتراوح بين 2.4 و3.4 ضعف كمية الكهرباء المتجددة المولدة في المملكة المتحدة بواسطة الرياح والطاقة الشمسية في العام 2020.
كاتب علمي مستقل ونائب رئيس التحرير السابق لمجلة بي بي سي ساينس فوكس