أشباح داخل الجهاز
بعد تسعين عاماً من توقع وجوده و 25 عاماً منذ منح جائزة نوبل لمكتشفيه، ما زال جسيم النيوترينو Neutrino يفاجئنا. وقد يكون، في الواقع، هو المفتاح لفهم كل شيء... ماركوس تشاون
نظرة داخل مقياس الطيف الكهروستاتيكي الكبير، قلب تجربة كارلسروي تريتيوم نيوترينو، اختصاراً: التجربة كاترين
يصب الفيزيائيون تركيزهم على كتلة النيوترينو، أكثر الجسيمات تحت (دون) الذرية في الطبيعة مراوغةً. إذْ يُظهر أحدث قياس فائق الدقة أجرته تجربة في ألمانيا أن كتلة النيوترينو أقل بمقدار نصف مليون مرة من كتلة الإلكترون، أخف جسيمات المادة الذرية العادية. ووفقاً للنموذج القياسي Standard Model -أهم ما توصل إليه علم الفيزياء خلال 300 عام ويصف اللبنات الأساسية للمادة وثلاث قوى غير جاذبة تُلصقها معاً- يجب أن يكون النيوترينو عديم الكتلة. فلماذا نهتم بقياس كتلة النيوترينو (مهما صغُرت)؟ لأن ذلك من شأنه أن يوفر أدلة مهمة على ‘نظرية كل شيء’ Theory of Everythingالأسطورية، وهي نظرية في الفيزياء أعمق وأكثر جوهرية، ويُعتقد أن النموذج القياسي ليس سوى تقريب لها.
اصطياد الجسيم الشبحي المراوغ
أُجري أحدث قياس للنيوترينو في كارلسروهي Karlsruhe بألمانيا، حيث استغل الفيزيائيون ‘اضمحلال بيتا’ Beta decay للتريتيوم Tritium. والتريتيوم نوع ثقيل – أو ‘نظير’ Isotope- من الهيدروجين. وفي اضمحلال بيتا، فإن القلب غير المستقر للذرة أو ‘النواة’ Nucleus، تتخلص من الطاقة الزائدة بإطلاق إلكترون واحد وضديد النيوترينو Antineutrino (النيوترينو وتوأمه ‘المضاد’ أو نقيض النيوترينو لهما الكتلة نفسها). والنيوترينوات لا اجتماعية جدا، ونادراً ما تتفاعل مع المواد الطبيعية، فقد تمر دون عوائق عبر حاجز سمكه عدة سنوات ضوئية من الرصاص. ونتيجة لذلك، يتعين على الفيزيائيين في تجربة كارلسروهي تريتيوم نيوترينو Karlsruhe Tritium Neutrino Experiment (اختصاراً: التجربة كاترين KATRIN) استنتاج كتلة النيوترينو من القياسات التي أجريت على الإلكترونات. ويمكنهم القيام بذلك لأن كمية الطاقة المنبعثة من نوى التريتيوم هي دائماً نفسها. وتنقسم الطاقة بين الإلكترون والنيوترينو، وإذا كان الإلكترون يحتوي على الكثير من الطاقة، فيجب أن يعني ذلك أن النيوترينو المرتبط به لديه القليل منها فقط. لذا، إذا سمح الفيزيائيون للإلكترونات الأكثر نشاطاً فقط بالوصول إلى كاشفهم، فهذا يضمن أن النيوترينوات المرتبطة بها سيكون لديها طاقة قليلة جداً، وهذا يسمح لهم بقراءة أكثر دقة لكتلة النيوترينوات.
إن جهاز قياس الطيف حيث تُجرى التجربة كاترين هو إنجازٌ هندسي جبار. فبعد 18 عاماً من التخطيط والبناء، بلغ وزن الجهاز 200 طن وكلف نحو 50 مليون يورو. ويتولى تشغيله فريق مكون من 150 شخصاً من ست مؤسسات دولية، وقد سجل أول نتيجة له بعد شهر واحد فقط من التشغيل بعد مراقبة مليوني إلكترون. ووجدت التجربة أن النيوترينو لا يمكن أن يزن أكثر من 1.1 إلكترون فولت 1.1 eV (لأن آينشتاين أظهر أن الكتلة هي شكل من أشكال الطاقة، يقيس الفيزيائيون كتل الجسيمات تحت الذرية بمقياس الطاقة – أو وحدة إلكترون فولت ورمزها eV). وللمقارنة، تبلغ كتلة الإلكترون 500,000 إلكترون فولت. وتقول الدكتورة ميليسا أوتشيدا Melissa Uchida، فيزيائية النيوترينو بجامعة كيمبريدج: “إن النتيجة إنجاز مذهل، و إن عدم اليقين Uncertainty في حد الكتلة أفضل 100 مرة من أفضل تقدير سابق”.
تنطوي هذه القصة على أمر آخر مهم في الواقع. إن نيوترينو الإلكترون هو مجرد واحد من ثلاثة أنواع، أو ‘نكهات’ من النيوترينو. ويرتبط نيوترينو الإلكترون Electron-neutrino بالإلكترون، لكن هناك أيضاً نيوترينو الميون Muon-neutrino المرتبط بجسيم ‘الميون’ الأثقل، وجسيم نيوترينو التاو Tau-neutrino المرتبط بجسيم ‘تاو’ الأثقل منه حتى.
هناك ثلاث حالات كتلة مميزة للنيوترينو. لكن، وهو الأهم، لا يتوافق كل منها مع واحدة من نكهاته الثلاث؛ وفي الواقع، كل نيوترينو هو مزيج مختلف من معظم الكتل الثلاث. تخيل حيواناً بنسبة %25 قط و %25 كلب و %50 زرافة.
يوضح هذا مدى غرابة فكرة النيوترينوات. فعندما يطير كل نوع منها في الفضاء، تنتقل مكونات كتلته الفردية بسرعات مختلفة، ومن ثم تتغير النسب النسبية لكل حالة كتلة. وينتج من ذلك نيوترينو ‘متذبذب’ بين نيوترونيو إلكتروني وميوني وتاووي.
ستوفر قياسات تذبذبات النيوترينو تقديرات للاختلافات بين كتل النيوترينوات الثلاثة. والأهم من ذلك، تضع التجربة كاترين حداً أعلى لكتلة واحدة. لكن المهم أننا ما زلنا لا نعرف التسلسل الهرمي لكتلة النيوترينو؛ وما إذا كانت كتلة النيوترينو الإلكتروني والميوني والتاوي تزداد تدريجياً مثلما تفعل الإلكترونات والميونات والتاوات.
ومن المهم جداً فهم تذبذبات النيوترينو وكتل النيوترينو. إذا كان ‘الاختلاط’ Mixing بين حالات كتلة النيوترينو كبيراً بما فيه الكفاية، فقد يشير إلى أن الطبيعة تسمح بعملية ‘انتهاك تناظر تكافؤ الشحن’ Violates charge-parity symmetry، وفق المصطلح الذي يستخدمه الفيزيائيون. وسيجعل هذا أضداد النيوترينو تتصرف بشكل مختلف عن النيوترينوات. ومن خلال تفضيل إنتاج المادة على ضديد المادة ، يمكن أن يحل هذا أحد الألغاز البارزة في علم الكونيات: لماذا نعيش في كون من المادة. تقول أوتشيدا: “وفقاً للنموذج القياسي، فإن معظم عمليات الجسيمات الأساسية تخلق كميات متساوية من المادة وضديد المادة. لذلك لا ينبغي لنا أن نوجَد [لأنه عندما تلتقي جسيمات المادة وضديدها فإنها تدمر بعضها بعضاً]!”
إعادة النظر في بدايات الكون
قد تكشف تذبذبات النيوترينو عن وجود نيوترينو رابع ‘عقيم’ Sterile نادراً ما يتفاعل مع المادة بطريقة تجعل النكهات الثلاث الأخرى تبدو اجتماعية بشكل إيجابي. والكتلة الإجمالية لمعظم أنواع النيوترينو الثلاثة (أو أكثر) لها عواقب على الكون، لأن النيوترينوات هي ثاني أكثر الجسيمات تحت الذرية شيوعاً بعد الفوتونات. وفي بداية تكوّن الكون، ربما ساعدت جاذبيتها الكبيرة المادة على التكتل معاً لبناء المجرات الأولى. ولو زادت كتلة النيوترينوات؛ لكانت الأولى التي تباطأت بعد الانفجار الكبير Big Bang؛ ولكان كوننا أكثر تكتلاً. ونتيجة لذلك، فإن معرفة كتل النيوترينوات تساعد على تحديد النموذج الكوني الذي يصف كوننا بشكل أفضل. وإذا كانت أرصاد الفلكيين للتكتل تتعارض مع هذا النموذج، فسيكون ذلك دليلاً قوياً على فيزياء لا تخضع للنموذج القياسي.
نهر سافانا Savannah River، كارولاينا الجنوبية South Carolina، 14 يونيو 1956. قضى فريدريك راينزFrederick Reines معظم سنوات الخمسينات من القرن الماضي في تفجير القنابل النووية في المحيط الهادي. وأدت إحداها وهي تعادل 700 مرة القوة التدميرية لقنبلة هيروشيما، إلى زوال جزيرة بكاملها، وولَّدت سحابة فطر مشعة عرضها 150 كيلومتراً وأحدثت حفرة في قاع المحيط بعرض أكثر من كيلومترين وبعمق مبنى مكون من 16 طابقاً. لكن راينز كان قد سئم ذلك؛ فأقنع رئيس القسم النظري في مختبر القنبلة في لوس ألاموس Los Alamos، في نيو مكسيكو، بمنحه إجازة من اختبار الأسلحة للتفكير في الفيزياء. ولعدة أشهر، جلس في مكتب بسيط يحدق في ورقة بيضاء، ويسأل نفسه: “ماذا تريد أن تفعل بحياتك؟”.
سافر راينز لحضور مؤتمر في برينستون Princeton بولاية نيو جيرسي، وواجهت الطائرة التي كان يستقلها مشكلة في المحرك اضطُرتها إلى الهبوط في مدينة كانساس سيتي Kansas City. وكان على متن الطائرة عالم قنابل آخر يدعى كلايد كوان Clyde Cowan، التقاه راينز في السابق لكنه لم يخض حديثاً جدياً معه. واكتشف الثنائي في مدينة كانساس سيتي أن أموراً كثيرة تجمعهما. وعندما تحولت محادثتهما إلى الفيزياء الأساسية، كان السؤال الذي طُرح هو: “ما أصعب تجربة في العالم؟” اتفق كلاهما على الفور: إنها تجربة اكتشاف النيوترينو. في تلك اللحظة قررا انطلاقاً من موقفهما المتفائل بأن لكل شيء حلاً، الذي اكتسباه خلال برنامج القنبلة، محاولة التقاط أكثر الجسيمات المراوغة في الطبيعة.
كانت فكرتهما الأولى هي وضع كاشف نيوترينو على ارتفاع 50 متراً من مستوى الصفر عند نقطة انطلاق انفجار نووي. وحصلا على حفرة عمودية بعمق 50 متراً في موقع اختبار القنابل في نيفادا. فكرا في أنه إذا أسقط الكاشف، في لحظة التفجير، بالحفرة، فسيكون في حالة سقوط حر ومعزول من موجات الصدمة الهادرة المتدفقة عبر الأرض. وفي قعر الحفرة العمودية، سيُخفف سقوط الكاشف بواسطة طبقة سميكة من المطاط الرغوي والريش. وكان راينز وكوان يعتزمان استرداد الكاشف بعد عدة أيام عندما تصبح مستويات الإشعاع منخفضة بما يكفي للمخاطرة بالدخول والخروج سريعاً.
ولحسن الحظ، لم يضطرا إلى فعل ذلك. فقد قرر راينز وكوان استخدام مفاعل نووي بدلاً من قنبلة. وعلى الرغم من أن المفاعل النووي كان أضعف كمصدر للنيوترينوات 1,000 مرة من القنبلة النووية، إلا أنه يتمتع بميزة أن الكاشف قد يمتص النيوترينوات لأشهر أو حتى سنوات، بدلاً من الثواني القليلة المتاحة لدى تفجير قنبلة. وعثر راينز وكوان في نهاية المطاف على مفاعل مثالي في محطة نهر سافانا Savannah River Plant، وهو مرفق يستخدم لصنع التريتيوم والبلوتونيوم للقنابل النووية. وكعرفان للمطبخ المحلي في ولاية ساوث كارولاينا، خططا لحماية تجربتهما من النيوترونات الضالة بأكياس اللوبياء ذات العين السوداء. وللأسف، كانت نشارة الخشب الرطبة أسهل وأرخص بالكميات المطلوبة. وأخيراً، نجح راينز وكوان في اصطياد النيوترينوات (بشكل أدقّ، ضديدات النيوترينو) في المفاعل بي P Reactor في محطة نهر سافانا في 14 يونيو 1956.
وكتبا في برقيتهما إلى ولفغانغ باولي: “يسعدنا أن نعلمك بأننا اكتشفنا على وجه التأكيد نيوترينوات في شظايا الانشطار عبر ملاحظة اضمحلال بيتا العكسي للبروتونات… فريدريك راينز وكلايد كوان”.
وفي اليوم التالي أرسل باولي من المعهد السويسري الفدرالي للتكنولوجيا في زيورخ ETH Zürich برقية كتب فيها: “فريدريك راينز، وكلايد كوان، صندوق بريد 1663، لوس ألاموس، نيو مكسيكو. شكراً على الرسالة. الصبر مفتاح الفرج. باولي”.