تفسير الحياة بالفيزياء
في كتابه المعنون «العفريت في الآلة» The Demon In The Machine، يستكشف الفيزيائي بول ديفيز Paul Davies مجالاً ناشئاً من الأبحاث يهدف إلى دمج الفيزياء والبيولوجيا، لشرح الكيفية التي بدأت الحياة بها
ما علاقة الفيزياء بأصل الحياة؟
منذ 75 سنة، ألقى عالم فيزياء الكم الشهير إرفين شرودنغر Erwin Schrodinger سلسلة من المحاضرات ثم ألّف كتاباً بعنوان «ما الحياة؟» What Is Life? كان شرودنغر أحد مؤسسي ميكانيكا الكم، والتي ربما كانت أنجح نظرياتنا العلمية. بلمحة واحدة، أوضحت النظرية طبيعة المادة، من نواة الذرة وصولا إلى النجوم. ولذلك كان شرودنغر مهندساً لنظرية قوية أمكنها تفسير طبيعة المادة. فهل بإمكانها أن تفسر طبيعة الحياة أيضاً؟
في محاضراته، اضطر شرودنغر إلى الاعتراف بأنه، على الرغم من ألمعيته، لا يزال يجد الحياة محيرة جدا، عند النظر إليها بعيني الفيزيائي. على مستوى الذرات الفردية داخل الكائن الحي، إنها مجرد فيزياء عادية ولا أحد يشكك في ذلك. ولكن عندما تصل إلى مستوى الخلية الحية، يبدو الأمر وكأنه نوع من السحر. إن الأمور غير العادية والمحيّرة جدا، أي الأشياء التي تجعل الحياة تجمع كل تلك الذرات الغبية معا لتؤدي هذه الأمور الذكية، هي ما أشعر شرودنغر بضرورة مشاركة نوع جديد من الفيزياء في العملية. وقال إن علينا أن نكون مستعدين لاكتشاف نوع جديد من القوانين المادية السائدة فيه. ليس فقط قانونا جديدا، بل نوعا جديدا من القوانين.
حتى بعد مرور 75 عاماً، وعلى الرغم من التقدم المذهل الذي تحقق في البيولوجيا خلال تلك الفترة الزمنية، فلا أحد يعرف ماهية الحياة أو كيفية بدئها. لكنني أعتقد أننا، خلال السنوات القليلة الماضية فقط، فتحنا فرجة صغيرة في جدار الغموض الذي يكتنف الحياة. أعتقد أننا بدأنا الآن رؤية ما الذي يجعل الحياة تنشأ.
لماذا نحتاج إلى نوع جديد من القوانين؟
ما الخطأ في الفيزياء الحالية؟
يفكر علماء البيولوجيا في الحياة من حيث المعلومات، أي تخزين المعلومات ومعالجتها. وهم يطرحون سردا حول أمور مثل المعلومات المرمَّزة. حمضك النووي، مثلا، ممتلئ بمعلومات مرمَّزة في صورة تعليمات، وعمليات ترجمة ونسخ وتحرير وإشارات. يشبه المحيط الحيوي Biosphere الشبكة العنكبوتية العالمية الأصلية. عندما تتحدث إلى الفيزيائيين أو الكيميائيين عن الحياة، سيحدثونك عن القوى والأشكال بين الجزيئية، والإنتروبي Entropy، وحالات الطاقة الرابطة، والقوى، ومثل هذه الأشياء. ومن ثم لدينا نوعان من السرد، لكن من الواضح أن سرد الفيزياء يعدّل في الواقع وفقاً لمستوى الجزيئات والجسيمات الفردية. لكنه لا يتوافق جيداً مع النظام ككل. إن المعلومات، برأيي، توفر الجسر الذي يمكنه توحيد الفيزياء والبيولوجيا. نحتاج إلى فيزياء جديدة لأننا بحاجة إلى دمج المعلومات، ليس فقط كوسيلة للشرح، ولكن كمتغير فيزيائي للوصول إلى الفيزياء الأساسية.
يفكر كثير منا في المعلومات كما تخزّن في الحواسيب. كيف يمكن لكائن حي أن يحتوي على معلومات؟
يبدو لي أن الخلية الحية هي في الحقيقة حاسوب فائق، وبالطبع فإن الدماغ هو أيضاً منظومة حوسبية مذهلة. ومع أنه ربما لا يشبه الحاسوب الرقمي كثيراً، فإنه بالتأكيد يعالج كميات هائلة من المعلومات. تُعد المقارنة بالحاسوب مثالا قريبا.
لا تكمن الصعوبة في إقناعك بأن المعلومات هي مفتاح البيولوجيا، فهي تحاول فهم الكيفية التي يمكن بها دمج المعلومات في الفيزياء. أعتقد أن الطريق إلى الأمام أظهره لنا منذ أكثر من 150 عاماً عالم الفيزياء الرياضياتية جيمس كليرك ماكسويل James Clerk Maxwell وعفريته الشهير.
ما عفريت ماكسويل؟
تصوّر ماكسويل كائناً ضئيلاً- يجب أن أضيف بسرعة أنه كان موضوعا لتجربة فكرية- يمكنه إدراك الجزيئات المنفردة وهي تتحرك، ويستخدم جهازاً لا يستهلك أي قدر من الطاقة، ولكنه يستطيع فرز هذه الجزيئات إلى سريعة وبطيئة. لذلك، يمكنه وضع الجزيئات السريعة الحركة على أحد الجانبين والجزيئات ذات الحركة البطيئة على الجانب الآخر.
ولأن درجة الحرارة هي مقياس للسرعة الجزيئية، فمن شأن ذلك إحداث تدرج حراري يمكن من خلاله تشغيل نوع من المحركات الحرارية لأداء أعمال مفيدة. ولذلك، فبوسع عفريت ماكسويل إنشاء نوع من الآلات الدائمة الحركة، وبإمكانه تشغيل جهاز ما لأداء عمل مفيد باستخدام الطاقة الحرارية للغاز وحدها، في انتهاك صارخ للقانون الثاني الراسخ للديناميكا الحرارية. يقول القانون الثاني إن الحرارة تتدفق عادة من الساخن إلى البارد فقط. ما يفعله عفريت ماكسويل هو السماح للحرارة بالتدفق للخلف- أو بعكس سهم الوقت، إذا أردت- باستخدام معلومات تتعلق بالسرعة الجزيئية.
بم يُخبرنا عفريت ماكسويل عن الحياة؟
حسناً، لقد اتضح أن الكائنات الحية ممتلئة بعفاريت ماكسويل. إنها موجودة في جسمك وأنا أتحدث إليك. إنها تتحرك متباعدة، وتستهلك الطاقة وتحشد المعلومات وتعالجها وتستجيب لها. أنت ممتلئ بالآلات الجزيئية المتناهية الصغر. وهذه الآلات، على الرغم من أنها لا تنتهك القانون الثاني للديناميكا الحرارية، تعمل على أقصى حدوده، فتحقق مستويات غير عادية من الكفاءة. هذا أحد الأسباب التي تجعل الدماغ البشري- على الرغم من امتلاكه لقدرة حاسوب فائق، يمكنه استهلاك كميات تقدّر بالميغاوات من الكهرباء- يعمل بطاقة تكفي لإضاءة مصباح صغير فحسب.
هل يمكننا النظر إلى المعلومات كقوة دافعة للحياة؟
لذلك، أقول إن المعلومات هي نوع من «قوة الحياة»؟ حسناً، لكلمة «القوة» دلالات سيئة فيما يتعلق بالحياة لأنه في القرن التاسع عشر، كان هناك اعتقاد سائد مفاده أن سر الحياة كان نوعاً من المادة أو الجوهر الخاص الذي يغمر المادة، بصورة ما، ويبث فيها الحياة. أعتقد أن قوة الحياة كانت مرتبطة في أذهان العديد من الأفراد بظواهر نفسية أو روحانية أو أي شيء من هذا القبيل، لذلك تعرضت لانتقاد مستمر في وسائل الإعلام. وما لم نتمكن من قياس هذه القوة، فلن يمكننا حقاً طرح تفسير. ولذلك فالمعلومات ليست قوة: بل هي مفهوم أكثر غموضا.