عندما ننظر إلى أماكن بعيدة باستخدام التلسكوبات الأكثر تطوراً لدينا، فإننا ننظر إلى ما حدث في زمن غابر. علمنا آينشتاين أن للضوء سرعة محدودة؛ لذلك يستغرق الضوء وقتاً أطول للوصول إلينا كلما نظرنا أبعد. بفضل هذا تمكن علماء الكوزمولوجيا (الكونيات) من رؤية الضوء الذي يعود تاريخه إلى نحو 14 بليون سنة. يكشف هذا الضوء عن شيء مذهل وغامض: كان الكون ممتلئاً ببحر من الطاقة وموجات من الإلكترونات المتشابكة والفوتونات على شكل سائل ساخن، يُعرف بالبلازما Plasma. نسمي هذه البلازما الخلفية الكونية الميكروية Cosmic Microwave Background (اختصاراً: الخلفية CMB).
نحن علماء الكوزمولوجيا لدينا أدلة نظرية وعن طريق الرصد الدقيق على أن هذه البلازما خضعت لانهيار الجاذبية بمساعدة شكل غير مرئي من المادة، يسمى المادة المعتمة Dark matter، لتشكِّل النجوم الأولى، وفي النهاية البنية الفوقية المنظمة التي تسكن الكون الحالي. ومع ذلك ما زال أمامنا لغز كامن: يبدو أن خصائص بحر الطاقة هذا تنشأ مما أسماه آينشتاين ”فعل شبحي (مخيف) Spooky من بعد“ – أجسام تتواصل بعضها مع بعض بسرعات لحظية عبر مسافات هائلة شديدة البعد. يُعرف هذا بمشكلة الأفق Horizon problem.
في العام 1981، اقترح آلان غوث Alan Guth من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT حلاً أنيقاً لهذه المشكلة. لقد قدم لاعباً جديداً يُسمى مجال التضخم Inflation field الذي ملأ الكون وسبَّبت طاقته توسع الفضاء بسرعة هائلة. إن التنافر الذي ينشأ بسبب تأثيرات الجاذبية الناتجة عن التضخم يطرح حلاً ذكياً وبسيطاً لمشكلة الأفق – فهو يجعل تلك المناطق التي اعتقدنا أنها ”تتفاعل على نحو شبحي“ خاضعة لقوانين فيزياء الكم Quantum physics الغريبة، ولكن المُبرهنة.
زودتنا نظرية التضخم الكوني Cosmic inflation أيضاً بآلية فيزيائية تجيب عن سؤال كثيراً ما أرَّق علماء الكوزمولوجيا: كيف نشأت بذور الهيكلية في عالم بدائي غير متمايز قبل أكثر من 14 بليون سنة؟ وفقاً للنظرية، كانت الاهتزازات الكمية الدقيقة جداً لمجال التضخم هي التي عملت كبذور للاهتزازات التي نراها في الخلفية الكونية الميكروية CMB حالياً. وهذا يعني أن التوزيع الواسع للمجرات المتناثرة في الفضاء على تريليونات الكيلومترات، نشأ من التقلبات الكمّيّة تحت (دون) الذرية Subatomic quantum fluctuations المجهرية التي حدثت في المراحل الأولى من الكون.
لقد انجذبت في البدء إلى مجال فيزياء الجسيمات وعلم الكوزمولوجيا مما بدا أنه سؤال غير معقول: ما العلاقة بين أكبر وأصغر الأشياء في الكون؟ يعطينا التضخم الكوني دليلاً على هذا، لكن ما زال هناك لغزان لم نجد حلاً لهما، ولا يجمعهما رابط في الظاهر.
أولاً، لا نعرف أصل وماهية مجال التضخم هذا. كل ما نعرفه هو أنه يتصرف مثل نوع معين من الحقول، يُعرف باسم الحقل القياسي Scalar field، وأنه يتغلغل في أكبر المسافات التي يمكن تخيلها.
المشكلة الجدية الأخرى للتضخم هي أن التقلبات الكمية ذاتها التي ولدتنا يمكن أن تنمو من دون التقيد باللانهاية. وهذا يطرح مشكلة: يود بعض المنظرين التخلص من مياه الاستحمام اللانهائية والحفاظ على طفل البنية الكونية. ثبت أن هذه التناقضات، المسماة ”اللامستقرات“ Instabilities، من الصعب التوفيق بينها.
يسود لغز آخر في المجال المجهري ويتعلق بأصل الكتلة. في ستينات القرن العشرين، توقع كل من بيتر هيغز Peter Higgs وتوم كيبل Tom Kibble وفرانسوا إنغليرت François Englert وروبرت بروت Robert Brout وكارل ريتشارد هاغن Carl Richard Hagen وأستاذي جيري غورالنيك Gerry Guralnik أن الجسيم الغامض الذي يُطلق عليه حالياً اسم بوزون هيغز Higgs boson، ومجال الطاقة المقابل الذي ينتشر في الكون، يمكن أن يتفاعلا مع مادة عديمة الكتلة وأن يعطياها وزنها. اكتُشف هذا الجسيم لاحقاً بواسطة مصادم هادرونات الكبير Large Hadron Collider في سيرن CERN في العام 2012، وبعد عام، حصل هيغز وإنغليرت على جائزة نوبل.
”هيغز هو مجال وجسيم، يمكن أن يتغلغل – مثل السائل – في كل الفضاء“
لكن على الرغم من هذه النجاحات، هناك مشكلة مع هيغز: فهو يشترك في عدم استقرار مماثل مع التضخم، وهذه المرة في تقلبات هيغز الكمّيّة ذاتها التي تعطينا كتلتنا. في السنوات الأخيرة، افترض الفيزيائي ميخائيل شابوشنيكوف Mikhail Shaposhnikov أن بوزون هيغز المجهري قد يكون وراء التضخم البدائي الذي يجد الحلول لكل شيء. ولكن كيف يمكن للمرء التوفيق بين هذه الصورة الجزئية والكلية؟ المفتاح هو إدراك أن هيغز هو في الأساس مجال وجسيم، يمكن أن يتغلغل – مثل السائل – في كل الفضاء. إن اهتزازات حقول هيغز الشبيهة بالموجة هي التي تنظم نفسها في تقلبات كمّيّة ميكروسكوبية موضعية يجري تحديدها على أنها جسيم هيغز. إذن هل يمكن أن يكون مجال هيغز تغلغل في الكون المبكر وأدى إلى ظهور ظاهرة التضخم الكوني؟ إذا كانت فكرة تضخم هيغز صحيحة، فإنها ستمثل توحيداً كونياً مجهرياً.
ومع ذلك هناك مشكلة واضحة ما زالت تخيم على كلتا الفكرتين. إنهما تعتمدان على التقلبات الكمّيّة لإنشاء بنية كونية وإعطاء كتلة، على التوالي. تكمن المشكلة في أن هذه التأثيرات الكمّيّة تنتهي بتوليد لا نهائيات نقيسها لنجد أنها محدودة.
في الوقت الحالي ما زال الحل بعيد المنال. ويجدر بنا نحن الفيزيائيين أن نستمر بشجاعة وتواضع في نبش حفرة الألغاز الكامنة في أي نظرية.
ستيفون أستاذ الفيزياء من جامعة براون Brown University، ومؤلف وعازف بارع لموسيقى الجاز