كيف تفشل القيادات الكاريزمية في الصعود
بقلم: هيلين غليني Helen Glenny
رسوم: كايلي سمارت Kyle Smart
على الرغم من حياتهم المهنية الممتلئة بالتخبط، فغالباً ما يرتقي المسؤولون الواثقون أعلى من زملائهم الأكثر كفاءة. لماذا؟ ولماذا يحدث ذلك الآن؟
في عام 1995 سرق ماك آرثر ويلر McArthur Wheeler أحد بنوك بيتسبرغ في وضح النهار، مسلحاً بمسدس. متشجعاً بنجاح محاولته الأولى، سرق ويلر بنكا آخر. على الرغم من أن كلا البنكين كان مزوداً بكاميرات أمنية، بدا أن ويلر لم يبذل أي جهد لإخفاء نفسه، لذلك بثت الشرطة أشرطة المراقبة في برنامج أخبار الساعة 11. ربما لم يكن الأمر مفاجئاً للجميع باستثناء ويلر، فقد تعرف عليه أحد المخبرين واعتُقل في وقت لاحق من تلك الليلة. عندما أرته الشرطة لقطات الفيديو، أصيب بالذهول وتمتم قائلاً: «لكنني وضعت العصير».
يمكن استخدام عصير الليمون كحبر غير مرئي يكشف عن رسالة عند تسخينه (تتحول السكريات الموجودة في العصير إلى اللون البني). علم ويلر ذلك وتوصل إلى استنتاج مفاده أن عصر الليمون على وجهه سيجعله غير مرئي لكاميرات البنك، ما دام لم يكن قريباً جدّاً من أي مصدر للحرارة.
بقدر دهشتنا من خطأ ويلر في الحكم، فقد تبدو ثقته المفرطة مألوفة لو كنت تتابع السياسة مؤخراً. يبدو أن الشخصيات الرفيعة المستوى تقلل باستمرار من صعوبة المهمة الماثلة أمامهم، مثل دومينيك راب Dominic Raab، الوزير السابق للبريكسيت Brexit في المملكة المتحدة، الذي صرح بأنه «لم يفهم تماماً» مدى اعتماد التجارة البريطانية على عبور البضائع للقنال الإنجليزي English Channel بين دوفر وكاليه (الذي تعبره 2.5 مليون باخرة للبضائع الثقيلة سنويّاً). وفي الولايات المتحدة فاجأ حظر السفر الذي فرضه دونالد ترامب، الذي بدأ في عام 2017، مسؤولي الحدود على حين غِرَّة، مما أدى إلى التباس جماعي حول من سيسمح لهم بالدخول. وكانت تلك خطوة كبيرة، قادها رئيس قلّل من تقدير تعقيدات تطلعاته.
على جانبي المحيط الأطلسي، وطرفي الطيف السياسي، صار من الشائع جدّاً أن نرى صعود قادة مفرطي الثقة، يتجاهلون الأخطاء بابتسامة جذابة. وسواء أتوا من عالم السياسة أم من قطاع الأعمال، فإن هذه الأرقام تبدو موثوقا بها، وتتقلب من دور مؤثر إلى آخر. إذاً، ما الذي يمكن أن تخبرنا به دراسة علم نفس القادة عما يحدث، ولماذا يحدث الآن؟
العبء المزدوج لضعف الكفاءة
صمم عالما النفس الاجتماعي ديفيد دونينغ David Dunning وجاستين كروغر Justin Kruger تجربة مستوحاة من عمليتي السطو المسلح المتفائل اللتين نفذهما بها ويلر، فاختبرا مهارات التفكير المنطقي لدى طلبة الجامعة، ومعرفتهم بقواعد اللغة الإنجليزية وروح الدعابة لديهم، ثم سألوا الطلبة عن تصورهم لمدى حسن أدائهم، أو سوئه. ودعمت الاختبارات الثلاثة حدسهم: لم يكن لدى أسوأ الطلبة أداء فكرة عن مدى سوء أدائهم بالفعل. ويقول دونينغ «في المتوسط، لم يكن أداؤهم يزيد على 10 إلى %15 من الأشخاص الذين شملتهم العينة، لكنهم ظنوا أنهم يتفوقون على %60 منهم. فقد كانوا تقريباً بثقة الأشخاص أنفسهم الموجودين في القمة». تُعرف هذه الظاهرة الآن بتأثير دونينغ- كروغر Dunning-Kruger effect.
ويصف الكيفية التي يعاني بها غير الأكفاء عبئاً مزدوجاً؛ ليس فقط أنهم سيئون في المهمة المنوطة بهم، بل إنهم من السوء لدرجة تعمي أعينهم عن عدم كفاءتهم. ونتيجة لذلك، فهم يتمتعون بإحساس مبالغ فيه بقدراتهم ويتعاملون مع المهام بحالة من الرضا المفرط في الثقة. وبعد عقدين من الزمن، يُلاحظ تأثير دونينغ- كروغر في مجالات جديدة مثيرة للقلق.
فقد أفادت دراسة أجريت في عام 2018 في عدة جامعات أمريكية أن المعارضين المتطرفين للأطعمة المعدلة وراثياً لا يعرفون إلا أقل القليل عن العلوم وعن علم الوراثة، في حين يظنون أنهم يعرفون أكثر من غيرهم. واستطلعت دراسة أخرى نشرت في العام نفسه آراء 1,310 بالغين أمريكيين حول أسباب مرض التوحد وعما إذا كان يرتبط باللقاحات أم لا. ويقول دونينغ الذي لم يشارك في الدراسة: «ذكر ثلث الأمريكيين إنهم يعرفون بقدر ما يعلم الأطباء والخبراء، لكن هذا الثلث هو في الواقع أكثرهم استنادا إلى معلومات خاطئة». ويرى دونينغ التأثير نفسه في كثير من الأحيان بين الأشخاص الذين يشغلون مناصب سلطوية، مستذكراً حالة محطة كهرباء كريستال ريفر Crystal River في فلوريدا. حاولت الشركة التي تدير المحطة خفض التكاليف بتنفيذها بنفسها مهمة إصلاح معقدة بأنفسهم؛ مما أدى إلى إحداث مزيد من الضرر للغلاف الخرساني للمبنى، الذي يمنع الإشعاع من التسرب. قدر أحد المصادر التكلفة التقديرية لهذا الخطأ بثلاثة بلايين دولار (2.3 بليون جنيه إسترليني تقريباً). ويقول دونينغ «يمكنك أن ترى ذلك في كثير من مناحي الحياة. ولسوء الحظ، كثيراً ما تراه بعد فوات الأوان».
الثقة توحي بالكفاءة
في السياسة، من الموثق جيداً أننا ننجذب نحو القادة الذين يتمتعون بالثقة والجاذبية. ويقول دونينغ: «ينظر الناس إلى الثقة كمؤشر رئيسي على الكفاءة. ترى ذلك في قاعة المحكمة التي يتبعها الشهود. وتراه في المكتب الذي تجد فيه الرؤساء الذين تتبعهم».
كثيرا ما يتحدث علماء النفس الذين يدرسون النفوذ Influence عن دلالات الكفاءة، وهي علامات تدل على أن الشخص الموجود أمامنا يعرف عما يتحدث، مثل التعبير عن آرائه بصوت مسموع ومن دون تردد. نقرأ لغة الجسم Body Language ونستخدمها لافتراض الكفاءة أيضاً، مثل استخدام الإيماءات المشدّدة عند توضيح وجهات النظر وتنفيذ المهام بأريحية ظاهرة. واشتهر رئيسا الوزراء السابقان ديفيد كاميرون David Cameron وتوني بلير Tony Blair بحركاتهما الواثقة. والتقطت صور لكثير من السياسيين، من كلا طرفي الطيف السياسي، وهم في «موقف السلطة»: منتصبو القامة مع ساقين متباعدتين بشكل مبالغ فيه. وتكهن خبراء لغة الجسم بأنهم نُصحوا بشغل أكبر مساحة ممكنة، وهو تلميح آخر على الكفاءة.
ما الذي يجعل الثقة جذابة هكذا؟ الدكتور ساندر فان دير ليندن Sander van der Linden، عالم النفس الاجتماعي في جامعة كيمبريدج
University of Cambridge، يصف القائد الكاريزمي النموذجي بأنه شخص يعبر عن رؤية أيديولوجية، ويميل إلى الحديث عن أهداف بعيدة أكثر من مجرد أهداف على المدى القريب، لأنه لا يمتلك أي شيء ملموس ليقدمه. ويقول: «لديهم أفكار واضحة وبسيطة جدا حول كيفية التغلب على المشكلات الاجتماعية الكبرى من خلال هذه الرؤية الاستعلائية». وينطبق هذا أيضاً على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي- يعد شعار ترامب «لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» مثالاً ممتازاً على اقتراح استعلائي ولكنه غامض.
يدرس فان دير ليندن في مختبره الكيفية التي تتصرف بها مجموعات من الأشخاص عند مواجهة مهام صعبة تتطلب التعاون. ويقول: «إذا جمعت بعض الطلبة معاً في غرفة وطلبت إليهم فرز أنفسهم، فإن ما يحدث هو أن الطلبة ينجرفون نحو الشخص الذي يكون واثقاً وعدوانيّاً إلى حد ما ولديه رؤية لما يفترض أن يفعلوه ولكيفية تنفيذه، لأن هذا يحل كثيراً من التعقيد المعرفي لدى الأفراد. تخيل أنك لا تعرف حقيقة المهمة، وأظهر شخص ما ثقة وقدرة وتواصل معك بطريقة بسيطة، ويبدو كأنه فكّر في كل شيء. من الأسهل اتباع ذلك الشخص». إن الجاذبية التي تمنحها الثقة مفهومة ومألوفة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمشكلات المعقدة والفوضوية. يمكنك تخيل أنك ترجح تسليم زمام السيطرة إلى وزير التجارة الدولية في المملكة المتحدة ليام فوكس Liam Fox، بالنظر إلى ثقته في أن «اتفاقية التجارة الحرة التي سيتعين علينا التوصل إليها مع الاتحاد الأوروبي يجب أن تكون واحدة من أسهل الاتفاقيات في تاريخ البشرية».
سوء تقدير الأخطاء
لسوء الحظ، يبدو أنه بمجرد أن يخلق الشخص صورة واثقة من نفسه، سيصعب عليه التفكير في التغير. في الواقع، وفقاً لفان دير ليندن، عندما تكون قائداً واثقاً، ستكون أقل احتمالاً لمواجهة اللوم عندما يحدث خطأ ما. ففي عام 2004 اختبر الباحثون تصورات المشاركين عن الرئيس جورج دبليو بوش George W Bush، واكتشفوا أن من رأوا بوش قائداً كاريزميّاً كانوا أقل ميلاً لإلقاء اللوم عليه بسبب إخفاقاته في حرب العراق. وبعد ذلك اختلق الباحثون «حالة أزمة» تَمّ خلالها تنبيه المشاركين إلى تحذير من وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) بأن تنظيم القاعدة كان يخطط لشن هجوم إرهابي في الولايات المتحدة. وعند تشجيعهم على القلق بشأن الإرهاب، وجد المشاركون أن بوش أكثر كاريزمية، وصار من غير المرجح أن يلقى عليه باللوم. فهو مزيج قوي؛ فالقائد الكاريزمي يشعرنا بأننا في أيدٍ أمينة، تؤدي دورها في وقت الأزمات.
ويمكن للأزمات الاجتماعية والسياسية أن تشعرنا بالأسى والقلق واليأس، ولذا فمن المفهوم أننا ننجذب في تلك الحالات إلى القادة الذين يعدوننا بمستقبل أفضل. وقد أدرك الأكاديميون أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) يسبب القلق لدى بعض مواطني المملكة المتحدة، مما خلق ما يسميه فان دير ليندن «بيئة مواتية للكاريزما»، حيث نكون أكثر تقبلاً للقادة الكاريزميين الذين يقدمون حلولاً بسيطة. وفي إحدى التجارب المفزعة التي نشرت في مجلة العلوم النفسية Psychological Science في عام 2004، طلب الباحثون إلى المشاركين تدوين ما شعروا به عندما تخيلوا موتهم، وما ظنوا أنه سيحدث لهم جسديّاً عند وفاتهم. على الرغم من الأهمية المحورية للتفكير في وفاتهم، فضَّل %33 من المشاركين مرشحاً كاريزمياً في انتخابات افتراضية، مقارنة بنسبة %4 فقط في مجموعة لم يُطلب إلى أفرادها التفكير في وفاتهم. وفي تجربة أخرى ذكّر المشاركون في الهجمات الإرهابية الأخيرة وقرأوا حجة مفادها أن هجمات مماثلة قد تحدث محليّاً. وكان هؤلاء الأشخاص أكثر ميلاً إلى تفضيل زعيم كاريزمي، حتى عندما طرح هذا القائد رسائل سياسية تتعارض مع قيم المشاركين الخاصة.
يشير فان دير ليندن إلى ألمانيا في ثلاثينات القرن الماضي كمثال واضح على تقبّل المواطنين لقائد كاريزمي في الأوقات العصيبة. وفي الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، عندما عانى الناس، ظهر هتلر Hitler كقائد عظيم يمتلك رؤية جديدة. ومن المرجح أن تحدث القيادة الكاريزمية، خاصة عندما يتعلق الأمر بترويج الأفكار التي لا يتقبلها الناس بسهولة، عندما يكون هناك خوف وعدم يقين واضطراب اجتماعي؛ مما يؤكد ما نراه في التجارب».
تجنب المزالق الاستراتيجية
من الواضح أن اتخاذ قرارات جماعية جيدة حول من تنتخبه لا يزداد سهولة. والقضايا المهمة مثل: التغير المناخي، وتوفير الرعاية الصحية، والسياسات الاقتصادية والبطالة؛ ليست لها حلول بسيطة. ربما أدى ذلك إلى جعل الناس يتوقون إلى قادة أقوياء ظاهريّاً؛ من يبدو أن لديهم جميع الإجابات. فكيف عسانا، بدلاً من ذلك، أن نضمن اختيار القادة الأكفاء؟ ووفقاً لفان دير ليندن، يجب ألا نتجاهل الكاريزما تماماً- بل أن نبحث فقط عن قادة يمتلكون الدوافع الصحيحة. ويقول «الزعماء ذوو الشخصيات الكاريزمية [يسعون إلى مناصب القوة] لأنها توفر السيطرة والنفوذ. لكن لدينا أيضاً قادة كاريزميين لديهم توجهات جماعية ويؤمنون بالمساواة، والذين ويهتمون برعاياهم ويحملون لهم أفضل النوايا».
يقول دونينغ إن الترياق المضاد للتأثير الذي وصفه هو وزملاؤه لأول مرة هو البحث عن آراء الخبراء المحايدين: مع الخبرة تأتي القدرة على الحكم بدقة على قدرات من حولك، حتى عندما تتعرض الخبرة والعقلانية للهجوم.
ويلاحظ دونينغ أيضاً أن للثقة مكانتها. ويقول: «هناك حالات تكون فيها حتى الثقة غير الواقعية جيدة، وحالات تكون فيها الثقة غير الواقعية سيئة جداً». وفي مرحلة الإعداد للأشياء، أنت تريد حقّاً أن تكون مفرط الثقة أو حتى مهووساً. ولكن في يوم المعركة لا يمكنك حقاً إظهار التشكك. فقد حان وقت القيادة. عليك أن تعرف أين تعمل الثقة، وأين تعمل ضدك».