أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فضاء

تــصـــدعـــــات فـي عـلـم الكوزمولوجيا

تبدو بعض الأمور غير مفهومة عندما يتعلق الأمر بفهمنا للكون. هذا يعني إما أن قياساتنا خاطئة، أو أن نظرياتنا خاطئة...

ماركوس تشون

قد يكون في النموذج القياسي لكوننا Universe بعض الصدوع. فالعديد من المشاهدات الرصدية الكونية الأساسية تتناقض مع بعضها بعضا. فعلى سبيل المثال، يبدو أن الكون يتوسع أسرع بـ %10 مما ينبغي، وفقاً لأرصاد الحرارة المتبقية من الانفجار الكبير Big Bang.
من الممكن تماماً أن تُحل التناقضات مع تحسن تقديراتنا للمُعامِلات الكونية Cosmic parameters. ولكن من الممكن أيضاً ألا تختفي التناقضات وأن تكون صورتنا الأساسية عن الكون على وشك الخضوع لمراجعة جذرية، ربما لتشمل مكونات غير مرئية و“معتمة” معقدة بمثل تعقيد الذرات والنجوم والمجرات.

مكونات إضافية
الكوزمولوجيا هو العلم الأقصى. إنه يتعامل مع ولادة وتطور ومصير الكون. ويتكون النموذج القياسي Standard model من عدة مكونات: الانفجار الكبير، والمادة المعتمة Dark matter، والطاقة المعتمة Dark energy، والتضخم Inflation.
لنأخذ أولاً الانفجار الكبير. يمكن لعلماء الفلك أن يروا أن المجرات – وهي اللبنات الأساسية للكون ومجرة درب التبانة واحدة منها – تبتعد عن بعضها البعض في أعقاب انفجار عملاق. كما يلاحظون أن الكون تتخلَّله الحرارة المتبقية، وهي إشعاع الخلفية الكونية Cosmic background radiation. معاً، هاتان المشاهدتان الرصديتان تخبران علماء الفلك بأن الكون كان أصغر حجماً وأكثر سخونة في الماضي. في الواقع، وفقاً للصورة القياسية، وُلد الكون في كرة نارية شديدة السخونة قبل 13.82 بليون سنة وهو آخذ بالاتساع منذ ذلك الحين، مع “انعقاد” المجرات وتشكلها من الحطام البارد.
ولكن الصورة الأساسية للانفجار الكبير تتطلب بعض المكونات الإضافية، لأنها تتعارض مع المشاهدات الرصدية. فهي تتنبأ في المقام الأول، وبصورة أكثر جدية، بأننا ما كان يجب أن نوجد.
ووفقاً للمعطيات الأساسية للانفجار الكبير، عندما خرجت المادة من كرة النار البدائية، انتشرت بتجانس شديد. وبعد ذلك سحبتْ المناطق الأكثف قليلاً من المتوسط المادة بشكل أسرع بفعل جاذبيتها الأقوى. وبنتيجة هذه العملية، وعلى غرار ما يحدث عندما يزداد الأغنياء ثراءً، تكونت المجرات التي نراها حاليا. وتكمن المشكلة في أن تجميع مجرات بحجم مجرتنا درب التبانة كان سيستغرق أكثر من 13.82 بليون سنة.
يحل علماء الكونيات هذه المعضلة بإضافة مادة معتمة غير مرئية كمكوِّن إضافي من مكونات الانفجار الكبير الأساسية. فالمادة المعتمة غير المرئية أثقل من النجوم والمجرات المرئية بستة أضعاف، وجاذبيتها الأعلى أدت إلى تسريع تكوين المجرات.
الجانب الثاني الذي تتعارض فيه الصورة الأساسية لنظرية الانفجار الكبير مع المشاهدات الرصدية هي أن النظرية تتوقع أن التوسع الكوني يجب أن يتباطأ. إذ تعمل الجاذبية مثل شبكة مرنة بين المجرات، وهذا يؤدي إلى كبح اندفاعها مبتعدة عن بعضها البعض. ولكن في عام 1998، اكتشف علماء الفلك أن التوسع يتسارع، خلافاً لكل التوقعات.
هنا أيضاً يتوصلون إلى الحل بإضافة الطاقة المعتمة إلى الانفجار الكبير الأساسي، وهو شيء غير مرئي، يملأ كل الفضاء وله جاذبية طاردة Repulsive gravity. إنها الطاقة المعتمة التي تعمل على تسريع التوسع الكوني.
أما التعارض الثالث بين صورة الانفجار الكبير والمشاهدات الرصدية؛ فهو أن الكون له درجة الحرارة نفسها في كل مكان، وهي درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية. فمقدار درجة الحرارة تلك هو 2.726 كلفن (الصفر المطلق هو صفر كلفن). وفي وقت مبكر من الانفجار الكبير كانت المناطق الموجودة حاليا على جوانب متقابلة من السماء بعيدة جداً بما لا يسمح بتعادل درجات حرارتها.
يصوّب علماء الكوزمولوجيا أوجه التعارض هذا كلها بافتراض أن الكون كان، في وقت مبكر، أصغر بكثير من المتوقع. لذلك لا بد أنه توسع بشكل أسرع للوصول إلى حجمه الحالي بعد 13.82 بليون سنة. في الواقع، يُعتقد أن الكون، وفي البرهة الاولى من نشوئه، خضع لتوسع كان عنيفاً لدرجة أنه شُبِّهَ بانفجار قنبلة هيدروجينية. وهذا ليس سوى أصبع ديناميت مقارنة بالتوسع الناجم عن الانفجار الكبير الذي طغى عندما نفد زخم “التضخم” الأساسي.
وهكذا ببساطة هذه هي معادلة النموذج القياسي الكوزمولوجيا = الانفجار الكبير + التضخم + المادة المعتمة + الطاقة المعتمة. ويُطلق عليه عِلمياً اسم نموذج “لامدا-سي دي إم” Lambda-CDM. وحيث يُفترض ضمنياً حدوث الانفجار الكبير + التضخم، فإن Lambda هي اختصار للطاقة المعتمة وCDM للمادة المعتمة الباردة Cold dark matter، حيث تعني كلمة “باردة” أن مكوناتها تتحرك ببطء بحيث يمكن للجاذبية تركيزها في كتل.

هناك خطأ ما
المنحى الأول الذي يتعارض فيه النموذج Lambda-CDM مع المشاهدات الرصدية يتعلق بعناقيد المجرات Clusters of galaxies. ووفقاً لنموذج المادة المعتمة الباردة، ستؤدي الجاذبية إلى تكتل المادة المعتمة عبر نطاق من المقاييس، بما في ذلك المقاييس الأصغر من مجموعة المجرات. ففي وقت لاحق تُجذب إليها المادة العادية (التي تتكون على شكل نجوم). وقد تحتوي هذه “الهالات الفرعية” Subhalos على الكثير من النجوم، ولكنه ربما لا يحتوي بعض الهالات الفرعية على نجوم، أو قد تحتوي على عدد قليل جداً من النجوم لدرجة تجعلها غير مرئية. ولكن هناك طريقة للكشف عنها.
رصد فريق بقيادة د. ماسيمو مينغيتي Massimo Meneghetti، من المعهد الوطني للفيزياء الفلكية National Astrophysics Institute في بولونيا بإيطاليا، أحد عشر عنقودا مجريّا باستخدام تلسكوب هابل الفضائي والتلسكوب الكبير جداً Very Large Telescope التابع للمرصد الأوروبي الجنوبي في تشيلي. فقد فحص الفريق ضوء المجرات البعيدة وكيف تعرض للتشويه، أو ما يُعرف بـ“عدسة الجاذبية” (المفعول العدسي التثاقلي) Gravitationally lensing، بسبب مروره قرب الهالات الفرعية غير المرئية. ولدهشة الفريق، فقد كان مفعول عدسة الجاذبية للهالات الفرعية أقوى بكثير من المتوقع، ما يشير إلى أنها مرصوصة جداً. وهذا يتعارض مع نموذج المادة المعتمة الباردة الذي يفيد بأن الهالات الفرعية يجب أن تكون أكثر انتفاخاً.
يقول مينغيتي: “نحتاج إلى معرفة ما إذا كان سبب هذا الشذوذ هو الطريقة التي نُحلِّل بها بياناتنا أم الطريقة التي نصيغ بها تنبؤاتنا النظرية… إذا فشلنا في شرح ذلك، فسيكون الخيار الوحيد هو مراجعة النموذج”. أحد الاحتمالات هو أن المادة المعتمة ليست مصنوعة مما نعتقد أنها مصنوعة منه. والمواد المُرشَّحة المفضلة هي جسيمات ضخمة ضعيفة التفاعل تتفاعل مع المادة العادية فقط من خلال الجاذبية. ومثل هذه الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل Weakly interacting massive particles، أو اختصاراً الجسيمات WIMPs، ليست جزءاً من النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات ولكن تتنبأ بوجودها نظرية تخمينية تسمى نظرية “التناظر الفائق” Supersymmetry.
يقول مينغيتي: “ربما تتكون المادة المعتمة من جسيمات تتفاعل بطرق مختلفة بوجود الجسيمات WIMPS… تشمل البدائل الممكنة نوعاً جديداً من النيوترينو يُسمى “النيوترينو العقيم” Sterile neutrino، وفئة أخرى من الجسيمات تسمى ‘أكسيونات’ Axions، أو حتى الثقوب السوداء البدائية Primordial black holes التي تشكلت بعد الانفجار الكبير مباشرة”.

ناعم جداً
التعارض الثاني بين النموذج Lambda-CDM والمشاهدات الرصدية يتعلق بتكتل المادة على نطاق واسع. فقد نظر فريق بقيادة البروفيسور كوين كويجكنKoen Kuijken في مرصد ليدن Leiden Observatory في هولندا في توزيع 31 مليون مجرة باهتة جداً في أحدث البيانات المنشورة من مسح درجة-كيلو الأوروبية European Kilo-Degree Survey (اختصاراً: المسح KiDS). واستخدم الفريق التعاوني القائم على مشروع المسح KiDS مسحَ التلسكوب الكبير جداً في تشيلي لمراقبة منطقتين كبيرتين من السماء.
على وجه التحديد، نظر فريق كويجكن في الكيفية التي ينعكس بها ضوء هذه المجرات بسبب تأثير عدسة الجاذبية بفعل المادة الموجودة بينها وبين الأرض ويسمح بانتشاره. واكتشف الفريق أن المادة منتشرة على نحو أكثر تجانسا بنسبة %8.3 مما توقعه نموذج المادة المعتمة الباردة، والذي يأخذ الاختلافات الصغيرة جداً في كثافة الكون بعد وقت قصير من الانفجار الكبير – الذي كشف عنه إشعاع الخلفية الكونية – ويحسب كيف جرى تعزيزها بواسطة الجاذبية على مدى 13.82 بليون سنة خلت. مجدداً، يمكن أن تختفي الحالة الشاذة بإجراء تحليل أفضل للبيانات أو تعديل نموذج المادة المعتمة الباردة. أو قد يخبرنا ذلك بأن النموذج خطأ من الأساس.
التعارض الثالث بين النموذج Lambda-CDM والمشاهدات الرصدية، والمعروف بـ“توتر هابل” Hubble tension، يتعلق بثابت هابل Hubble constant، وهو مقياس لمعدل التوسع الحالي للكون. فهناك طريقتان لقياس ذلك وهما طريقتان متناقضتان.
تتمثل الطريقة الأولى بالنظر إلى الاختلافات الدقيقة في درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية عبر السماء. فقد طُبِعتْ الاختلالات على الإشعاع بواسطة “سائل” المادة والإشعاع في بداية الزمن حين كانت تتدفق مثل الماء في حوض استحمام واسع بوسع الكون. من الممكن استخلاص جميع المعاملات الكونية الرئيسية من نماذج مثل هذا التدفق. فعلى سبيل المثال، وجد القمر الاصطناعي الأوروبي بلانك European Planck satellite أن الكون يتكون بنسبة %4.9 من المادة الذرية، و%26.8 من المادة المعتمة و%68.3 من الطاقة المعتمة.
والمهم أن مثل هذه الأرصاد تكشف أيضاً عن ثابت هابل في بدايات الكون، ويمكن استقراء هذا حتى الوقت الحاضر. وهنا تكمن المشكلة: القيمة المستقرأة أصغر بنحو %10 من ثابت هابل المرصود حاليا.
الأمر الأساسي الذي يجب أخذه بالاعتبار هو أن ثابت هابل المستنتج من إشعاع الخلفية الكونية دقيق جداً لأن الفيزياء بسيطة ومفهومة تماماً. ولكن قياسات ثابت هابل في الكون حاليا أقل دقة وتشوبها مشكلات عديدة.
تتضمن مثل هذه القياسات العثور على أجسام يُعتقد أنها تتمتع دائماً باللمعان Luminosity الجوهري نفسه، مثل المتغيرات القيفاوية Cepheid variables والسوبرنوفا من النمط 1a. ومثل مصابيح كهربائية قياسية بقدرة 100 وات معلقة على امتداد حقل في منتصف الليل، هكذا تكشف هذه “الشموع القياسية” Standard candles عن بُعدها النسبي من خلال خفوت لمعانها النسبي. فالمشكلة هي أن فيزياء مثل هذه النجوم ليست مفهومة تماماً وربما لا تكون قياسية كما نأمل. لذلك، يمكن أن تكون قياسات بعد الشموع القياسية هذه خلال ابتعادها عنا بسبب التوسع الكوني خطأ وستنتج في النهاية ثابت هابل يتوافق مع ذلك المحسوب بناءً على إشعاع الخلفية الكونية.
من ناحية أخرى، قد تخبرنا الطبيعة بشيء جديد عن الكون. ويعترف البروفيسور أبراهام لوب Abraham Loeb من جامعة هارفارد Harvard University بأن “النموذج القياسي الكوزمولوجيا هو القبول بالجهل… فنحن نصنف المكونات التي لا نعرف طبيعتها على أنها ‘مادة معتمة’ و‘طاقة معتمة’. ونظراً لأننا لا نعرف ما هي عليه، فقد يكون ما لدينا مجرد نموذج فظ جداً وقد يكون تبسيطاً مفرطاً للواقع”.
يشير لوب إلى أن المادة المعتمة ربما لا تكون سائلاً يحتوي على نوع واحد من جسيمات المادة المعتمة. ويقول: “ربما لا يكون هناك مادة معتمة تتألف من جسيم واحد، بل من مزيج من الجسيمات ذات الكتل والتفاعلات المختلفة”. وقد تكون المادة المعتمة معقدة، تماماً مثل المادة العادية، التي تتكون من كواركات وإلكترونات جُمعت لتشكل 92 عنصراً طبيعياً.
وإضافة إلى ذلك، فقد تتصرف جسيمات المادة المعتمة بطرق معقدة. فعلى سبيل المثال، قد تتحلل مع تقدم عمر الكون؛ فتقل قوة جاذبيتها ومن ثم تكف عن كبح التوسع الكوني. مثل هذا التعزيز لمعدل التوسع الكوني قد يُقلّل من توتر هابل.
ولعل إحدى الطرق الممكنة لتأكيد أو دحض توتر هابل هي “صافرات الإنذار القياسية” Standard sirens بدلاً من الشموع القياسية. فموجات الجاذبية هي اهتزازات زمكانية تشبه الموجات الصوتية ويعتقد أن اندماج النجوم النيوترونية يخلق صفارات إنذار قياسية، مثل صافرات الضباب التي تطلقها منارات السفن. كلما كان الصوت أكثر خفوتاً، كانت صفارات الإنذار أبعد. ويقول لوب: “تقدم مصادر موجات الجاذبية لنا الطريقة الأجدى لحل الأسئلة التي تثير شكوكنا حالياً”. ويؤمل بأن تبين مثل هذه التقنيات ما إذا كانت التناقضات الحالية بين المشاهدات الرصدية المختلفة تناقضات حقيقية.
النموذج القياسي للكوزمولوجيا بسيط نسبياً، على الرغم من مكوناته المتعددة غير المرئية. لكن بساطته قد تعمينا عن رؤية الواقع الذي قد يكون أكثر تعقيداً. ويقول لوب محذرا إن “الطبيعة ليست ملزمة بالامتثال لأبسط الصيغ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى