ألغاز الكون
التقطنا، في العقد الماضي، صوراً للثقوب السوداء، ونظرنا إلى قلب الذرات وعدنا إلى الوراء إلى لحظة ولادة الكون. ومع ذلك، هناك فجوات كبيرة في فهمنا للكون والقوانين التي تحكمه. وفيما يلي أبرز الألغاز التي سيعمل على حلها علماء الفيزياء والفلك خلال العقد المقبل وما بعده.
ماركوس تشون Marcus Chown
لماذا يوجـد شـيء بدلاً من لا شيء؟
في البداية، وبناء على الصورة القياسية لعلم الكونيات، وُجد “الفراغ المتضخم” Inflationary vacuum. فقد كانت كثافته ذات طاقة عالية جداً وجاذبية منفرة Repulsive gravity، مما تسبب في تمدده. وكلما كان هناك مزيد منها، زاد التنافر وتسارَع اتساعه. ومثلما هي الحال مع كل الأشياء “الكمّيّة” Quantum، لم يكن هذا الفراغ متوقعاً. ففي مواقع عشوائية، تحلل إلى فراغ عادي مألوف. وكان لابد أن تذهب الطاقة الهائلة للفراغ المتضخم إلى مكان ما. فذهبت إلى تكوين المادة وتسخينها إلى درجة حرارة عالية جداً – لإحداث انفجارات عظيمة. وكوننا هو مجرد فقاعة من فقاعات الإنفجارات الكبيرة Big bangs في الفراغ المتضخم الآخذ بالاتساع.
من اللافت للنظر أن هذه العملية برمتها كان يمكن لها أن تبدأ بقطعة من الفراغ المتضخم ذات كتلة تعادل كيساً من السكر. وعلى نحو ملائم، تسمح قوانين الفيزياء – ونظرية الكم على وجه التحديد – لمثل هذه المادة بأن تظهر إلى الوجود من العدم. بالطبع، السؤال البديهي التالي حالياً هو: من أين أتت قوانين الفيزياء؟
ففي عام 1918 سلطت عالمة الرياضيات الألمانية إيمي نويتر Emmy Noether الضوء على هذه المسألة. ووجدت أن قوانين الحفظ العظيمة Great conservation laws هي مجرد نتائج للتناظرات العميقة للمكان والزمن، وهي أشياء تبقى كما هي إذا تغيرت النقطة التي ننظر إليها منها. فمن الخصائص المذهلة لمثل هذه التناظرات أنها أيضاً تناظرات للفراغ – لكون فارغ تماماً. لذلك ربما لم يكن الانتقال من لا شيء إلى شيء ما بهذه الأهمية. ربما كان مجرد التغيير من لا شيء إلى “لا شيء منظم” لكوننا الممتلئ بالمجرات. لكن لماذا حدث التغيير؟ أشار الفيزيائي الأمريكي فيكتور ستينغر Victor Stenger إلى أنه مع انخفاض درجة الحرارة، يتحول الماء إلى ماء ذي بنية منظمة، أو جليد، لأن الجليد أكثر استقراراً. وتكهن، هل يمكن أن الكون انتقل من لا شيء إلى “لا شيء منظم” لأن اللا شيء المنظم أكثر استقراراً؟
لماذا يوجد ثقب أسود هائل في قلب كل مجرة، وهل لذلك علاقة بوجودنا هنا؟
يوجد نحو تريليوني مجرة في كوننا، وبناء على ما نعلمه، تحتوي كل واحدة تقريباً على ثقب أسود Black hole مركزي هائل. وهي تتراوح في الحجم من وحوش ضخمة وزنها نحو 50 بليون ضعف كتلة الشمس، إلى ثقوب صغيرة تفوق بنحو 4.3 مليون كتلة الشمس وتعرف بالرامي A* Sagittarius A* في قلب مجرتنا درب التبانة (الكتلة الشمسية الواحدة = كتلة شمسنا). ولكن كيف وصلت تلك الثقوب إلى حيث هي، فما زال أحد أعظم الألغاز في علم الكونيات.
نحن نعلم أن ثقباً أسود نجمياً Stellar black hole يتشكل في انفجار سوبرنوفا (مستعر أعظم) Supernova ينهار فيه قلب النجم. ولكن لا أحد يعرف كيف يتشكل ثقب أسود فائق الكتلة. وعبر معظم التاريخ الكوني، كانت مراكز المجرات هي المكان الذي تُحْتجز فيه كمية كبيرة من المادة في حيز صغير الحجم. رُبما تتشكل الثقوب السوداء الهائلة في كتلة نجمية كثيفة من الثقوب السوداء النجمية التي تندمج بشكل متكرر مع بعضها البعض. ويأتي أول دليل محتمل على ذلك من اندماج ثقبين أسودين جرى الكشف عنهما من خلال اكتشاف حديث للموجات التثاقلية Gravitational waves. وكان أحد الثقبين أكبر من أن يكون من بقايا سوبر نوفا، ومن ثم ربما نشأ في اندماج سابق.
وتوجد طريقة بديلة لتكوين ثقب أسود فائق الكتلة وذلك من الانكماش المباشر لسحابة كثيفة من الغاز. ويمكن أنها تتشكل من مزيج من انهيار السحب والاندماجات بين ثقوب سوداء. ومن الممكن أيضاً أن تكون الثقوب السوداء فائقة الكتلة قد تكونت لدى الانفجار الكبير. فهذا من شأنه أن يوفر إجابة جديدة عن سؤال الدجاجة والبيضة الكوني: أيهما جاء أولاً: المجرات أم الثقوب السوداء فائقة الكتلة؟ وبدلاً من أن تتشكل المجرات في البدء ثم تفرخ مثل هذه الوحوش، ربما تشكلت الثقوب السوداء الهائلة أولاً ووفرت البذور التي تشكلت منها مجرات النجوم.
مع كل ما تحظى به من كتلة، إلا أن أكبر الثقوب السوداء فائقة الكتلة هي بالكاد أكبر من المجموعة الشمسية. ومع ذلك، فهي تبسط قوتها عبر ملايين السنين الضوئية عن طريق نفّاثات من المادة Jets of matter فائقة السرعة في اتجاهات معاكسة. وعندما تُنفث المادة بسرعة ( في المناطق الداخلية من المجرة) فإنها تطرد الغازات وتضع حداً لتكون النجوم؛ وحيث تتباطأ – في المناطق الخارجية منها – تضغط الغاز وتطلق إشارة بدء تكوين النجوم. ففي الواقع، يبدو أن النفاثات القوية الصادرة من أكبر الثقوب تتحكم في كتل النجوم المتشكلة، مع ميل نحو تكوين نجوم أصغر وأبرد مثل شمسنا. لذا، من يدري، قد يكون علينا أن نشكر الرامي A* على شمسنا التي من دونها ربما ما كنتم هنا تقرأون هذه السطور.
ما هي هوية المادة المعتمة التي تزن أكثر من النجوم والمجرات؟
لا تُصدر المادة المعتمة Dark matter أي ضوء أو أنه ينبعث منها قدر قليل جداً من الضوء لا يمكننا رصده. نحن نعلم أنها موجودة لأننا نرى تأثير جاذبيتها في النجوم والمجرات المرئية. فعلى سبيل المثال، ما كان بإمكان مجرة درب التبانة أن تسحب ما يكفي من المادة لتكوين نجومها خلال 13.82 بليون سنة منذ الانفجار الكبير Big bang دون وجود الكثير من المادة غير المرئية التي أدت جاذبيتها الزائدة إلى تسريع حدوث الأشياء.
وجد قمر بلانك الاصطناعي Planck satellite التابع لوكالة الفضاء الأوروبية أن المادة المعتمة تمثل %26.8 من كتلة طاقة الكون مقارنة بـ%4.5 من المادة “الذرية” العادية. لذلك، فهي تفوق كتلة النجوم والمجرات المرئية بنحو ستة أضعاف.
لفترة طويلة، كانت المرشحة المفضلة لجزيئات المادة المعتمة هي الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل Weakly Interacting Massive Particles (أو اختصاراً: الجسيمات WIMPs). ولكن مع أن هذه الجسيمات تناسب الوصف، إلا أنها فشلت في الظهور في مصادم الهادرونات الكبير Large Hadron Collider بالقرب من جنيف في سويسرا. وهناك حاليا مرشح يحظى بمزيد من التأييد هو “الأكسيون” Axion الخفيف جداً، وهو جسيم افتراضي تحت (دون) ذري Sub atomic. ولكن تبقى الثقوب السوداء البدئية خارج التوصيف، من مخلفات الانفجار الكبير.
المحير في الأمر أن أي تجربة أرضية لم تعثر على أي دليل على وجود مادة معتمة، على الرغم من عقود من البحث. ومن المحتمل أن ليست نظريتنا عن المادة هي التي تحتاج إلى تعديل وإنما نظريتنا حول الجاذبية. أو أن المادة المعتمة ليست مائعاً مكوناً من جسيم واحد ولكنها معقدة مثل المادة الذرية التي نراها حولنا. وربما أن الكون ممتلئ بالنجوم المعتمة والكواكب المعتمة والحياة المعتمة!
هل الزمن موجود؟
قال الفيزيائي الأمريكي جون ويلر John Wheeler: “إن الزمن هو ما يوقف كل ما يحدث في وقت واحد”. ولكن الزمن مفهوم زلق. ومعظم ما نعتقد أننا نعرفه خطأ. فعلى سبيل المثال، نتخيل تدفق الوقت. ومع ذلك، حتى يتدفق شيء ما، يجب أن يتدفق بالنسبة إلى شيء آخر، تماماً كما يتدفق النهر بالنسبة إلى ضفته. فهل يتدفق الزمن بالنسبة إلى شيء آخر؛ نوع آخر من الزمن؟ الفكرة تبدو مجرد نوع من الهذر. فتدفق الزمن هو على الأرجح وهْمٌ خلقته أدمغتنا لتنظيم المعلومات التي تتدفق إليها باستمرار من خلال حواسنا.
لدينا أيضاً إحساس قوي بالماضي المشترك والحاضر والمستقبل. ومع ذلك، فإن فكرة الحاضر المشترك لا تظهر في أي مكان في وصفنا الجوهري للواقع: النسبية. إذ تعتمد الطريقة الدقيقة لتقسيم وقت شخص آخر على مدى السرعة التي يتحرك بها بالنسبة إليك أو على قوة الجاذبية التي يواجهها.
يمكن ملاحظة هذه التأثيرات فقط بسرعات نسبية قريبة من سرعة الضوء أو في الجاذبية فائقة القوة، وهذا هو السبب في أنها ليست واضحة في العالم اليومي. ومع ذلك، فإنها تؤدي إلى فكرة أن الفاصل الزمني لشخص ما ليس هو نفسه الفاصل الزمني لشخص آخر، وأن الفاصل الزمني لهذا الشخص الآخر ليس هو نفسه الفاصل الزمني لشخص ما آخر.
الأمر في الواقع، أكثر تعقيداً. فالمكان والزمن متشابكان بشكل يجعلهما لا ينفصمان عن بعضهما البعض. ففي عالمنا تُوضَع جميع الأحداث – من الانفجار الكبير إلى زوال الكون – على خريطة زمكانية رباعية الأبعاد موجودة مسبقاً. فلا شيء في الواقع “يتحرك” عبر الزمن. وكما كتب آينشتاين بعد وفاة صديقه ميشيل بيسو Michele Besso: “لقد رحل الآن من هذا العالم الغريب قبلي بقليل. فهذا لا يعني شيئاً. أمثالنا، ممن يؤمنون بالفيزياء، يعرفون أن التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهْم عنيد لا يزول”.
إذا جرى تخيل تمدد الكون وهو يسير إلى الوراء مثل فيلم يتحرك في الاتجاه المعاكس؛ في لحظاته الأولى يكون المكان والزمن منفصلين. لذلك يعتقد الفيزيائيون أنه لدى الانفجار الكبير ظهر الزمن من شيء أكثر جوهرية. ولا أحد يعرف بعد ما يمكن أن يكون.
ما هي الطاقة المعتمة؟
إنها غير مرئية، تملأ كل الفضاء وجاذبيتها المنفرةRepulisive gravity تسرِّع من تمدد الكون. ففي عام 1998 اكتشف علماء الفيزياء الفلكية “الطاقة المعتمة” Dark energy. فقد كانوا يدرسون السوبرنوفا (المستعرات الأعظمية) Supernovae من النوع 1A، وهي الانفجارات النجمية التي يُعتقد أنها تطلق كمية ثابتة من الطاقة وتحترق مع لمعان قياسي مثل مصباح كوني بقوة 100 وات. وكانت المشكلة أن السوبرنوفا الأبعد أخفت من المتوقع. فقد تسارع التوسع الكوني، ودفعها ذلك بعيداً.
في ذلك الوقت، كانت القوة الوحيدة التي يُعتقد أنها فاعلة في الكون واسع النطاق هي الجاذبية، وهي تعمل مثل شبكة غير مرئية بين المجرات، مما يؤدي إلى كبح التوسع الكوني. وقد صُدم علماء الكونيات عندما اكتشفوا أن توسع الفضاء يتسارع واضطروا إلى افتراض وجود مادة مذهلة تمثل ثلثي طاقة الكون. وقد طغت هذه “الطاقة المعتمة” على الجاذبية وسيطرت على الكون قبل نحو خمسة بلايين سنة.
أحد الاحتمالات هو أن الطاقة المعتمة هي ثابت كوني، تنافر جوهري للفضاء. وقد ينشأ مثل هذا التنافر من تقلبات الطاقة الكمّيّة في الفراغ. ومع ذلك، عندما تُطبّق نظرية الكم، وهي أفضل نظرياتنا للعالم دون المجهري، على الفراغ، يتنبأ المنظرون بكثافة طاقة أكبر بـ 10 متبوعة بـ 120 صفراً من تلك الموجودة في الطاقة المعتمة: إنه أكبر تناقض بين التنبؤ والرصد في تاريخ العلم. ويتصور العلماء أن التناقض سوف يختفي عندما نتمكن أخيراً من الجمع بين نظرية الكم ونظرية آينشتاين للجاذبية. ففي هذه الأثناء قد تساعدنا التجارب في الفضاء. ففي عام 2022 ستطلق وكالة الفضاء الأوروبية القمر إقليدس Euclid الذي سيقيس مدى اختلاف الطاقة المعتمة بمرور الزمن الكوني، ونأمل بأن يوفر دليلاً حيوياً لحل أكبر لغز في العلم.
لماذا لم نرَ أي إشارة على وجود كائنات أخرى في الفضاء؟
في عام 1950 كان إنريكو فيرمي Enrico Fermi، الرجل الذي بنى أول مفاعل نووي، يتناول الغداء في مقصف مختبر لوس ألاموس للقنابل Los Alamos bomb lab في نيو مكسيكو عندما قال فجأة: “أين الجميع؟”. فكل من كان حول المائدة عرف بالضبط ما يعنيه.
بعد عقود، عمل الفيزيائيان الأمريكيان مايكل هارت Michael Hart وفرانك تيبلر
Frank Tipler بشكل مستقل على الإجابة عن سؤال فيرمي. وتصور هارت أن الكائنات الفضائية تنتشر في جميع أنحاء مجرتنا درب التبانة، وتصور تيبلر آلات للنسخ الذاتي تلك، عند وصولها إلى نظام كوكبي، تستغل الموارد لبناء نسختين من نفسها تستمران بالرحلة. وخلص كلاهما إلى أنه حتى في سرعات السفر المتواضعة، سيُزار كل نجم في المجرة في جزء صغير من عمر مجرة درب التبانة. كما أدرك فيرمي، يجب أن تكون الكائنات الفضائية هنا على الأرض. ولكن لا يبدو أنها كذلك. ومن هنا نشأت “مفارقة فيرمي” Fermi paradox.
جرى اقتراح مئات التفسيرات، إنها تتضمن أفكاراً مفادها أننا أول ذكاء نشأ في المجرة ومن ثم فنحن وحدنا تماماً، وأننا عالم يمثل حاضنة، خارج حدود الحضارات المتقدمة التي قد تؤثر سلباً في تنميتنا. والاحتمال الأبسط هو عدم وجود مفارقة، لأن أي علامة على زيارة في الماضي البعيد ستكون قد ذرتها الرياح ومحتها الأمطار والعمليات الجيولوجية. لكن مؤخراً، اقترح فريق بقيادة د. جوناثان كارول-نلينباك Jonathan Carroll-Nellenback من جامعة روتشستر University of Rochester بنيويورك، أن شمسنا ربما تجاوزتها موجة من التوسع خارج كوكب الأرض.
يبقى السؤال مطروحاً عن سبب عدم عثورنا على أي علامة على وجود كائنات خارج كوكب الأرض في مجرتنا، على الرغم من البحث باستخدام التلسكوبات منذ أكثر من نصف قرن. ولكن، يقول فريق من جامعة ولاية بنسلفانيا Pennsylvania State University بقيادة د. جيسون رايت Jason Wright إن ليس في الأمر لغزاً: لقد بحثنا في جزء بسيط من مجرة درب التبانة، أي ما يعادل المياه الموجودة في حوض استحمام ساخن مقارنة بالمياه الموجودة في محيطات الأرض. وكما لاحظ دوغلاس آدامز Douglas Adams بفطنة في كتابه دليل المسافر إلى المجرة The Hitchhiker’s Guide To The Galaxy: “الفضاء كبير. أنت فقط لن تصدق كم هو فسيح، وسيُذهلك كم هو هائل”.