أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تعليق

اضطراب الشخصية الحدية: لماذا يوصم بالعار؟

على الرغم من الاعتراف به منذ عقود، فإنه لا يزال حالة يُساء فهمها ولا تُعالَج نتيجة لذلك

يُعَد ما يسمى ”اضطراب الشخصية“ Personality disorders من بين أكثر التشخيصات النفسية تعقيداً وإثارةً للجدل. يقول النقاد إن وصمة العار متأصلة في المفهوم نفسه، إذ إن الاسم نفسه يشير إلى وجود شيء مَرَضي في شخصية الفرد المعني.

القصد من مصطلح ”اضطراب الشخصية“ أن يعكس كيف أن المشكلات النفسية التي يعانيها الفرد هي مشكلات طويلة المدى وتتخلل عديداً من جوانب حياته، بدءاً من تجاربه العاطفية اليومية وحتى علاقاته.

في بعض الحالات، فإن تشخيص الأفراد طبياً بأنهم يعانون اضطراب الشخصية قد يساعدهم على فهم السبب الذي يجعل حياتهم صعبة، وفي الحالات الإيجابية، يمكن أن يساعدهم على الحصول على الدعم المهني الذي يحتاجون إليه.

من بين اضطرابات الشخصية العشرة المحددة التي يعترف بها الطب النفسي، فإنّ أكثر الاضطرابات التي يُساء فهمها على نطاق واسع هو اضطراب الشخصية الحدية (BPD) الذي يُقدَّر أنه يؤثر في 1-2% من السكان.

يعود مصطلح ”الحدية“ Borderline إلى ثلاثينات القرن العشرين. حينها، رأى الأطباء النفسيون المدربون على التحليل النفسي أن التشخيص يقع على هامش الفئات التي لم تَعُد تُستخدم حالياً من الذهان Psychoses (الحالات التي كانت تُعَد أكثر خطورة وغير قابلة للعلاج) والعصاب Neuroses (الحالات التي كانت تُعتبر قابلة للعلاج بالتحليل النفسي).

عادةً ما يعاني المصابون باضطراب الشخصية الحدية من كثير من القلق؛ فهم يشعرون بالقلق من أن يتخلى عنهم المقربون منهم؛ ويواجهون صعوبة في أكثر الأحيان من أجل تكوين إحساس ثابت بمن يكونون؛ ويمكن أن يجدوا صعوبة خاصة في التعامل مع الإجهاد.

يمكن أن يدفعهم ذلك إلى التصرف بتهور، أو الشعور بالارتياب تجاه الآخرين أو بالانفصال عن الواقع. لمحاولة التأقلم يلجأ المصابون باضطراب الشخصية الحدية في أكثر الأحيان إلى إيذاء أنفسهم وقد يفكرون في الانتحار أو يحاولون الانتحار.

إضافةً إلى الخوف من الهجر، هناك تجربة أخرى شائعة لدى من يعانون اضطراب الشخصية الحدية وهي التأرجح من طرف إلى آخر فيما يتعلق بما يشعرون به تجاه المقربين منهم. فهم يمكن أن يعتبروا أن العائلة والأصدقاء مثاليون حالياً، وفي اليوم التالي يرون أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم قد خذلوهم وأنهم سيئون حقاً. حتماً يمكن أن يساهم هذا في خلق صعوبات في العلاقات الوثيقة لجميع المعنيين.

هناك نظريات متنافسة حول ما يحدث في اضطراب الشخصية الحدية. مثلاً يشير أحد التفسيرات المؤثرة إلى أن اضطراب الشخصية الحدية هو مشكلة على صلة بالتنظيم العاطفي – فالأشخاص الذين يُشخَّصون بهذه الحالة يعانون بنحو خاص- مشاعرَ صعبة وشديدة وطويلة المدى.

تقول نظرية أخرى إنّ اضطراب الشخصية الحدية متجذر في المقام الأول في الصعوبات في تفسير مشاعر الآخرين ونواياهم، ويظهر كنوع من الحساسية المفرطة تجاه ما يتصورون أنه إهانة أو تجاهل.

للأسف، هناك أدلة على الميل إلى وصم اضطراب الشخصية الحدية بالعار في المحادثات اليومية والصور الإعلامية التي يمكن أن تعزز صورة ”الشخص المجنون“ النمطية وتؤكد سلوك الشخص المضطرب، بدلاً من إظهار مدى ما يعانيه من جراء العيش مع صعوباته النفسية. ولعل الأسوأ من ذلك هو أن عديداً من المعالجين يميلون أيضاً إلى تبني آراء سلبية تجاه الأشخاص المُشخَّصين باضطراب الشخصية الحدية وحتى تنم عن ازدراء.

مثلاً، تظهر دراسات استقصائية أن المتخصصين في الصحة العقلية يقولون إنهم يفضلون تجنب هذه المجموعة من المرضى ويشعرون بقدر أقل من التفاؤل بشأن مساعدتهم. وتشمل المعتقدات المضللة الضارة المتداولة التي تغذي هذه التحيزات فكرة أن الأشخاص الذين يعانون هذه الحالة غير قابلين للعلاج أو أنهم يتلاعبون بالآخرين عن عمد.

”يدرك الخبراء الموثوق بهم والمتعاطفون حالياً أن أهم ما يحتاج إليه المصابون باضطراب الشخصية الحدية، هو الحب والدعم أكثر من أي شيء آخر“

يدرك الخبراء الموثوق بهم والمتعاطفون حالياً أن أهم ما يحتاج إليه المصابون باضطراب الشخصية الحدية، هو الحب والدعم أكثر من أي شيء آخر. يجب أن ننظر إلى السلوك المرتبط باضطراب الشخصية الحدية، بما في ذلك إيذاء الذات والقلق المفرط من التخلي عنهم، ليس على أنه شكل من أشكال لفت الانتباه والحصول على الاهتمام أو التلاعب، بل كعواقب للانزعاج العاطفي الشديد الذي يعانيه الأشخاص المصابون باضطراب الشخصية الحدية.

يعاني عديد من المصابين باضطراب الشخصية الحدية من ماضٍ صعب، وتعد المعاناة من سوء المعاملة في مرحلة الطفولة من أهم عوامل الخطر لتشخيص هذه الحالة. على عكس الاعتقاد الخاطئ السائد بأن اضطراب الشخصية الحدية غير قابل للعلاج، في الواقع توجد حالياً طرق متطورة لمساعدة الأشخاص الذين تُشخص الحالة لديهم.

ربما يكون العلاج الذي يوفر أكبر قدر من الدعم للمريض هو العلاج السلوكي الجدلي Dialectical Behaviour Therapy، وهو شكل متخصص من العلاج السلوكي المعرفي Cognitive Behavioural Therapy. ينصب تركيزه على مساعدة الأشخاص الذين يعانون اضطراب الشخصية الحدية على إدارة عواطفهم على نحو أفضل، وفهم سلوك الآخرين وعواطفهم على نحو أفضل، وزيادة ثقتهم واحترامهم لذاتهم، وتطوير المهارات المتعلقة بالتواصل الاجتماعي والوعي الذاتي. 

أياً كان النهج العلاجي المستخدم، يؤكد الخبراء على أن المهم هو ألا يصدر المعالج أحكاماً، وأن يتبنى أسلوب عمل اً حنوناً وداعماً وتعاونياً.

هناك علاجات دوائية متاحة أيضاً، ولكن يُنظر إليها بوجه عام على أنها علاج مساعد للعلاج النفسي، وذلك لمساعدة الشخص المصاب باضطراب الشخصية الحدية على التعامل مع بعض الأعراض الأكثر إثارة للقلق في أثناء العمل على مهاراته العاطفية وغيرها من المهارات خلال العلاج. 

ما يدعو إلى التفاؤل هو أن هناك بعض الأدلة على أن مجرد تعلُّم معلومات أساسية جديرة بالثقة حول اضطراب الشخصية الحدية يمكن أن يساعد الأشخاص الذين شُخِّصوا على الشعور بمزيد من الأمل وفهم تجاربهم على نحو أفضل. إضافةً إلى ذلك فقد ثبت أن تثقيف المعالجين حول اضطراب الشخصية الحدية يمكن أن يحسن مواقفهم تجاهه أيضاً.

د. كريستيان جاريت Dr. Christian Jarrett

كريستيان هو عالم أعصاب معرفي ومؤلف كتب عن علم النفس وعلم الأعصاب والمساعدة الذاتية. أحدث مؤلفاته هو كُن من تريد: إطلاق العنان لعلم تغيير الشخصية Be Who You Want: Unlocking the Science of Personality Change (منشورات: Robinson)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى