ما الخرف؟
وصف تيري براتشيت Terry Pratchett، مؤلف روايات ديسك وورلد (العالم القرص) Discworld، الخرَف Dementia الذي عاناه بأنه ”معيق“. قال لمحطة BBC في العام 2008، بعد تشخيص حالته بقليل: ”لقد تخليت عن رخصة القيادة لأنني لم أشعر بالثقة بقيادة سيارة… وإن فعلت شيئاً على نحو أخرق فسيكون من الصعب إعادته إلى نصابه“.
قد يعاني المصابون بالخرف أشياءَ كثيرة في حياتهم نأخذها جميعاً على أنها أمور بسيطة مسلَّم بها، مثل تذكُّر معلومات جديدة، وإجراء محادثة، واتخاذ القرار، والقراءة والكتابة، وفهم الأوقات والأماكن. الخرَف مرض يضر بخلايا المخ ويؤدي إلى تدهور تدريجي في الذاكرة والتفكير والتواصل، فضلاً عن تغيرات في الشخصية.
يعيش ما يقرب من 50 مليون شخص في معظم أنحاء العالم مع هذه الحالة، ومن المتوقع أن ترتفع الأرقام مع اتساع شريحة السكان المتقدمين في السن. تُشخَّص نحو ثلثي حالات الخرَف على أنها مرض ألزهايمر (تنطق ألزايمر) Alzheimer’s disease، ولكن هناك أكثر من 200 نوع آخر من الخرف. وحتى ضمن هذه الفئات، قد يظهر المرض بطرق مختلفة. على سبيل المثال قد لا يعرف بعض الأشخاص أنهم مصابون بالخرف، أو أن قدراتهم صارت محدودة بسببه، في حين سيدرك الآخرون الأمر، على الأقل بعض الوقت. ولكن، مع تقدم المرض خلال مراحله المبكرة والمتوسطة والمتأخرة، يتأثر مزيد من مناطق الدماغ وتبدأ أعراض الأنواع المختلفة من الخرف في الظهور على نحو أكثر تشابهاً.
هل يمكن رؤية الخرف في تصوير الدماغ؟
عم ولا. في حين يُستخدَم التصوير بالرنين المغناطيسي MRI والتصوير المقطعي المحوسب CT في أكثر الأحيان لتأكيد تشخيص الخرف – بعد اختبارات أبسط تتضمن أسئلة وأجوبة – تظهر بعض التغييرات في الدماغ التي يمكن رؤيتها في الخرف في حالات أخرى أيضاً، مثل انقطاع الطمث. لذلك من الصعب أن نحصل على إجابة موثوق بها. في الواقع لم يُشخَّص عديد من الأشخاص المصابين بالخرف رسمياً، ويُعتقد أن أكثر من ربع الحالات يمكن أن تكون في الواقع أخطاء في التشخيص.
في عديد من الحالات المعروفة، ارتُكب خطأ في تشخيص مرض ألزهايمر ووصفِ علاج له. أحد الأمثلة على ذلك هو أليكس بريستون Alex Preston الذي شُخص في العام 2014 في ليستر بالمملكة المتحدة، واستمر في تناول الدواء سبع سنوات، حتى اكتشف أن التشخيص كان خطأ.
على مدار فترة طويلة كانت الطريقة الوحيدة لتأكيد تشخيص مرض ألزهايمر هي من خلال تشريح الجثة، إذ يتعذر فحص دماغ شخص ما إلا بعد وفاته. يمكن للمتخصصين حالياً اكتشاف علامات المرض من خلال التصوير المتطور للدماغ، وأخذ عينات من السائل النخاعي، ولكن غالباً ما تُستخدم هذه التقنيات في الدراسات البحثية أكثر منها في العيادات.
”يعيش ما يقرب من 50 مليون شخص في معظم أنحاء العالم مع هذه الحالة، ومن المتوقع أن ترتفع الأرقام مع اتساع شريحة السكان المتقدمين في السن“
ما الذي يسبب الخرف؟
تلف خلايا الدماغ (العصبونات/الخلايا العصبية Neurons) وتموت كجزء من عمليات الشيخوخة الطبيعية. لكن المصابين بالخرف يفقدون عدداً أكبر من الخلايا العصبية أكثر مما يفترض أن يفقدوه في العادة، ويبدأ هذا في الحدوث حتى قبل ظهور الأعراض عليهم.
في مرض ألزهايمر، يحدث التلف عندما تتجمع بروتينات معاً بطرق غير طبيعية فتشكل لويحاتٍ صلبة وتشابكات بين خلايا الدماغ وداخلها. تتكون اللويحات من أميلويد بيتا Amyloid beta، الموجود في الأدمغة السليمة أيضاً، لكن من غير المعروف بعد ما دوره على وجه الدقة. تتكون التشابكات من بروتينات تاو Tau proteins التي تعمل عادةً مع دعامات هيكلية Structural supports تسمى الأنابيب الدقيقة Microtubules لإعطاء العصبونات شكلَها المميز. ولكن في مرض ألزهايمر تنفصل بروتينات تاو عن الأنابيب الدقيقة، وتلتصق بعضها ببعض لتشكيل خيوط طويلة تسد الخلايا وتمنعها من تمرير الإشارات العصبية Nerve signals الحيوية.
تحاول الأبحاث الحالية الكشف عن الكيفية التي يتفاعل وفقها نوعا البروتين، مع اقتراح أنهما قد يتشاركان “بذرة” مشتركة تؤدي إلى تشكيل التراكمات غير الطبيعية. تشارك البروتينات أيضاً في أنواع أخرى من الخرف، مثل خَرَف أجسام ليوي Lewy body، حيث يحدث تراكم بروتين ألفا سينوكلين Alpha-synuclein protein. قد يتضرر الدماغ أيضاً من جراء مرض باركنسون، أو نقص إمدادات الدم (الخرف الوعائي Vascular dementia).
”ليس من السهل تحديد ما الذي يجعل شخصاً ما أكثر عُرضة للإصابة بهذه الحالة من غيره، على الرغم من أن النساء يبدو أنهن يُصَبن بها أكثر من الرجال“
هل يمكن أي يصاب أي شخص بالخرف؟
الخرف شائع إلى حدٍّ ما. أظهر بحث أُجري في العام 2020 ودرس المعدلات العالمية أن احتمال الإصابة بهذه الحالة يزداد مع تقدم العمر. وعلى الرغم من إصابة نحو 70 شخصاً فقط من بين كل 1,000 شخص فوق سن الخمسين، فإن أي شخص يعيش فوق المئة من العمر يكون أكثر عرضة للإصابة بالخرف، مع إصابة نحو 660 من كل 1,000 من المعمَّرين. يشار عادة إلى الخرف قبل سن 65 بالخرف المبكر.
ليس من السهل تحديد ما الذي يجعل شخصاً ما أكثر عرضة للإصابة بهذه الحالة من غيره، على الرغم من أن النساء يبدو أنهن يُصَبن بها أكثر من الرجال. يُعتقد أن هناك مجموعة من العوامل الوراثية وأنماط الحياة تؤدي دوراً في ذلك. ربما يكون الجين APOE الأقوى ارتباطاً بها. ولكن في حين أن أحد أنواع الجين APOE يحمل مخاطر أعلى للإصابة بمرض ألزهايمر، فإن الأشخاص المعرضين لخطر أكبر قد لا يصابون بالخرف مطلقاً بسبب الاختلافات في نمط حياتهم. يُعتقد أن عوامل نمط الحياة، بما في ذلك التعليم والنظام الغذائي وعادات النوم، تؤثر في المخاطر العامة. يمكن أن يكون لبعض المشكلات الطبية التي تحدث في منتصف العمر تأثير أيضاً، مثل ضغط الدم وزيادة الوزن ومشكلات القلب. حتى أن هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن العيش في منطقة معرضة لمزيد من تلوث الهواء يمكن أن يزيد من خطر الإصابة بالخرف.
كيف أتحدث مع شخص مصاب بالخرف؟
كتب طبيب الأعصاب الشهير والمؤلف أوليفر ساكس Oliver Sacks عن مريض مصاب بالخرف في دار لرعاية المسنين اعتقد أنه لا يزال يعمل في وظيفته القديمة كبواب مدرسة. قبلت الممرضات واقعه الداخلي وسمحن له بالتنظيف، وحمل المفاتيح وفحص الأبواب والنوافذ وأدوات المطبخ، إلى أن توفي بأزمة قلبية. قال ساكس إن الرجل توفي وهو راضٍ، ومعاملته بطريقة أخرى كانت تكون بمنزلة تعدٍّ قاسٍ لا طائل منه على هويته.
كان نهج الممرضات يتماشى مع ما يشير إليه خبراء الخرَف على أنه العلاج عن طريق التقدير Validation therapy، على عكس النهج القديم، نهج التوجه الواقعي الذي يحاول أن يعيد المريض إلى الواقع، وإعطاءه معلومات وتذكيرَه لملء الفجوات في تفكيره.
يعني اتباع نهج العلاج بالتقدير الاستماع للشخص وتقبله كما هو من دون إصدار حكم عليه، والتركيز على مشاعره واحتياجاته بدلاً من أي شيء نود تصحيحه أو تغييره. يدعو الخبراء أيضاً إلى إبداء الثقة والاحترام، لذا من المهم الحفاظ على نبرة صوت تنم عن احترام وعلى التواصل البصري.
هل يمكن علاج الخرف؟
لا يمكن علاج الخرف. لكن الخبراء يأملون أن يساعد التعرف على التلف الذي يؤدي إلى الخرف قبل ظهور الأعراض، ويسمح لنا بتطوير علاجات يمكن أن تبطئ تقدم الحالة، أو حتى تمنع ظهور الأعراض.
الهدف الرئيس من العلاجات المتاحة حالياً هو المساعدة على تقليل معاناة المريض، على الرغم من وجود عقاقير وأنشطة يُعتقد أنها تفيد الدماغ. الأدوية الأكثر شيوعاً التي توصف لهذه الحالات تُسمى مثبطات أستيل كولينستيراز Acetylcholinesterase inhibitors. تساعد هذه الأدوية على زيادة مستويات الجزيء الرئيس – أستيل كولين – الذي يشارك في نقل الإشارات العصبية في الدماغ، بتثبيط عمل الإنزيم الذي يدمره عادة. يمكن أن يساعد عمل هذه الأدوية على تخفيف بعض الأعراض.
في غضون ذلك تشير بعض الدراسات إلى أن ممارسة ألعاب مثل الشطرنج، وممارسة التمارين الرياضية – الهوائية Aerobic وتمارين القوة Strength training على حد سواء – والمشاركة في الأحداث الاجتماعية مثل حفلات أعياد الميلاد، يمكن أن تساعد على الحفاظ على وظائف المخ بنحو أفضل فترة أطول. بمجرد أن يتطور المرض إلى مراحل لاحقة، قد تكون بعض هذه الأنشطة مجهدة حقاً.
يجد أفراد الأسرة في أكثر الأحيان أنفسهم يكافحون من أجل فهم ما هو الأفضل لأحبتهم. يمكن أن تكون رعاية شخص مصاب بالخرف لا يتعرف عليك في بعض الأحيان، مرهقة عاطفياً وجسدياً، ولهذا السبب تؤكد الجمعيات الخيرية مثل Dementia UK على توفير الدعم للأسرة بكاملها، وليس فقط للشخص الذي جرى تشخيصه.
”الهدف الرئيس من العلاجات المتاحة حالياً هو المساعدة على تقليل معاناة المريض، على الرغم من وجود عقاقير وأنشطة يُعتقد أنها تفيد الدماغ“
خمس حقائق عن الخرف يجدر بنا أن نعرفها
1. قد نعاني جميعاً النسيان مع تقدُّمنا في السن، مثل أن ننسى أين وضعنا مفاتيح سيارتنا من حين إلى آخر، لكن هذا يختلف عن الخرف الذي يختلف بدوره عن التقدم الطبيعي في العمر.
2. الفترة المستغرقة للتوصل إلى تشخيص الخرف هي أطول بمرتين عندما يكون المريض دون 65 عاماً.
3. يحمل المتغير الجيني APOE4 خطراً أكبر بثلاثة أضعاف للإصابة بمرض ألزهايمر إذا كانت لدى الفرد نسخة من أحد الوالدين فقط، وخطر أكبر بثمانية أضعاف إذا كانت لديه نسختان من كليهما. واحد من كل أربعة منا لديه نسخة واحدة، وواحد من كل
50 لديه نسختان.
4. كان المؤلف تيري براتشيت يعاني شكلاً غير عادي من الخرف يسمى الضمور القشري الخلفي Posterior cortical atrophy، ويؤثر في الأجزاء الخارجية من الجزء الخلفي من الدماغ. لذلك قد يكون الخرف فئة فرعية من مرض ألزهايمر أو شكلاً منفصلاً تماماً.
5. في بعض الأحيان يمكن أن يكون الخرف من الآثار الجانبية لدواء يؤثر في النواقل العصبية Neurotransmitters في الدماغ، كما هي الحال مع بعض الأدوية المستخدمة لعلاج الأرق ومتلازمة القولون العصبي. وبمجرد إيقاف الدواء، يختفي الخرف.
هايلي بينيت Haley Bennett (gingerbreadlady)
هايلي كاتبة علمية ومحررة.