العلامات الأولى للاضطرابـات
مجموعة من الباحثين تقول إنها توصلت إلى طريقة لفحص أدمغة المراهقين بحثاً عن مشكلات الصحة العقلية... قبل ظهورها
جيني سميث Ginny Smith
إن حالات الصحة العقلية ليست شائعة فحسب، بل هي آخذةٌ في الازدياد، حتى إن أحد التقارير يقدر أن طفلاً من كل ستة أطفال عانى على الأرجح حالة صحية عقلية في العام 2021. تنفق خدمة الصحة الوطنية (اختصاراً: الإدارة NHS) 15.5 بليون جنيه إسترليني سنوياً على العلاج وما زال الآلاف من الأشخاص غير قادرين على الحصول على المساعدة التي يحتاجون إليها. ولكن ماذا لو كانت هناك طريقة لمعرفة من هم الأشخاص المعرضون لخطر الإصابة بحالة صحية عقلية، والتدخل قبل أن يبدؤوا حتى في الشعور بالأعراض؟ هذا بالتحديد ما تدعيه ورقة بحثية جديدة نُشرت في مجلة نيورولماغ NeuroImage.
استخدم الباحثون قاعدة بيانات من مسوحات دماغ مراهقين من منطقة سان شاين كوست Sunshine Coast، على الساحل الشرقي لأستراليا. أُجريت المسوحات الأولى عندما كان المراهقون يبلغون من العمر 12 عاماً ثم مرة كل أربعة أشهر على مدار السنوات الخمس اللاحقة. تمكن الباحثون من استخدام المسوحات للتنبؤ بالمشاركين الذين سيحرزون درجات عالية في استطلاع بعنوان ”الاضطراب العقلي“ Mental distress قاس القلق وأعراض الاكتئاب. هذا مهم بنحو خاص لأن 50% من حالات الصحة العقلية تبدأ قبل سن 14، و75% بحلول سن 25. وغالباً ما يعني التدخل المبكر الفرق بين إصابة شخص بمجرد نوبة واحدة أو العيش مع حالة تستمر مدى الحياة.
قال لي البروفيسور المشارك زاك شان Zach Shan، رئيس منصة التصوير العصبي Neuroimaging Platform من معهد تومسون التابع لجامعة سان شاين كوست University of the Sunshine Coast’s Thompson Institute ”أعتقد أن الدماغ هو أحد أكثر الأشياء تعقيداً على كوكبنا وهناك كثير من الأشياء التي ما زلنا لا نعرفها عنه“. وأضاف المؤلف الرئيس لهذه الدراسة الجديدة: ”هناك اعتقاد متزايد بأن مشكلات الصحة العقلية تنشأ خلال فترة المراهقة، لذلك أراد فريقنا معرفة ما إذا كان في إمكاننا استخدام التصوير الدماغي لمراقبة أو تحديد وقت بدايتها“.
لماذا المراهقون؟
خلال الطفولة والمراهقة تمر أدمغتنا بتغييرات هائلة. أولاً، تتشكل بلايين الاتصالات الجديدة بين العصبونات (الخلايا العصبية) Neurons عندما نتلقى المعلومات وتتغير أدمغتنا الرائعة والمرنة بناءً على تجاربنا. بعد ذلك تبدأ تتعزز المسارات الأكثر استخداماً، وتؤدي عملية تُعرف بالتقليم Pruning إلى إزالة الوصلات غير الضرورية. يساعدنا هذا على أن نصبح خبراء في الأشياء التي نضطلع بها كثيراً، مع جعل تغيير أدمغتنا أكثر صعوبة (وإن لم يكن مستحيلاً). في الوقت نفسه تنمو بسرعةٍ مادةُ المايلين Myelin، وهي المادة البيضاء التي تغلف العصبونات وتحميها وتجعلها أكثر كفاءة.
تحدث هذه العملية بمعدلات مختلفة في مناطق مختلفة من الدماغ. ينتهي نظامنا البصري من التقليم ويصل إلى مرحلة النضج الكامل على مستوى البلوغ، في سن 11 عاماً. لكن المناطق الأخرى تستغرق وقتاً أطول، وآخر ما ينتهي من التطور هو قشرة الفص الجبهي Pre-frontal cortex، الواقعة خلف الجبهة والتي لا تنضج تماماً حتى منتصف العشرينات من العمر. عند البالغين تساعد قشرة الفص الجبهي على تنظيم عواطفنا، عن طريق إبقاء جهازنا الطرفي (الحُوفِيّ) Limbic system (الجزء العاطفي من الدماغ) التفاعلي تحت السيطرة. هذا يسمح لنا بالتحكم في مزاجنا وتجاهل ذلك الصوت الخفيض الذي يقول لنا إن الجميع يحدق بنا.
عند المراهقين، يبلغ الجهاز الطرفي تطوره الكامل ويتفاعل مع البيئة المحيطة بهم، ولكن من دون تحكم قشرة الفص الجبهي الهادئة والعقلانية. قد يكون هذا أحد الأسباب التي تجعل المراهقين أكثر عرضة للإصابة بحالات الصحة العقلية، وخاصة الاكتئاب والقلق. في الواقع وجد الباحثون أن المراهقين الذين ينمو لديهم المايلين بنحو أبطأ في قشرة الفص الجبهي هم أكثر عرضة لمعاناة مشكلات الصحة العقلية.
بالطبع، هناك أيضاً كثير من العوامل الأخرى التي تحدث خلال سنوات المراهقة والتي قد تساهم في بروفايل (سمات) المخاطر Risk profile لديهم.
يقول توبياس هاوزر Tobias Hauser، أستاذ الطب النفسي الحاسوبي Computational Psychiatry من جامعة تيوبينغن University of Tubingen وجامعة يونيفرسيتي كوليدج لندن University College London: ”لدينا كثير من التأثيرات المجتمعية والبيئية التي تؤدي دوراً. عليك أن تستقل بحياتك وأن تجد وظيفة، وأن تنسجم مع زملائك، ولم تعد عائلتك تتخذ جميع القرارات نيابة عنك… ثم هناك أيضاً سن البلوغ، وهو تغيير كبير يختبره الجسم، وله تأثير كبير في الدماغ والصحة العقلية أيضاً“.
تطوير أدمغة فريدة من نوعها
بالعودة إلى سان شاين كوست، قرر الباحثون النظر في ”الشبكة العصبية الوظيفية“ Functional connectome للمراهقين في قاعدة البيانات. هذا مقياس للكيفية التي تعمل وفقها مناطق الدماغ المختلفة معاً، في هذه الحالة في أثناء الاستراحة. وجدت أبحاث سابقة أن البالغين لديهم شبكات اتصال وظيفية فريدة، فكل دماغ من أدمغتنا متشابك بطريقة مختلفة قليلاً ويمكن استخدام ”بصمة الدماغ“ Brain fingerprint هذه للتعرف على الأشخاص في صور مسح الدماغ.
وجدت هذه الدراسة أنه حتى في سن 12 عاماً، كانت الشبكات العصبية في أدمغة المشاركين فريدة بالفعل، وتزداد الخصوصيات مع تقدم العمر. يعتقد المؤلفون أن هذه العملية التي تتعمق معها فرادة أدمغتنا، هي علامة حيوية على النضج.
إضافة إلى النظر إلى الدماغ ككل، فحص الباحثون أيضاً الشبكات داخل الدماغ. ووجدوا أن بعضاً من تلك الشبكات، بما في ذلك شبكة معروفة بالشبكة الحزامية الوصادِيّة Cingulo-opercular network (اختصاراً: الشبكة (CON، كانت أقل تميزاً على نحو ثابت، والأهم من ذلك أن المراهقين الذين لديهم مستويات منخفضة من الفرادة في الشبكةزاد احتمال أن يسجلوا درجات عالية في مقياس الاضطراب العقلي في المرة التالية التي جمعت فيها البيانات.
التفكير المرن
والشبكة CON في الدماغ عبارة عن مجموعة من المناطق التي تمتد من الفص الأمامي Frontal lobes إلى أعماق مركز الدماغ. لا تزال وظيفتها غير مفهومة تماماً، ولكن يبدو أن لها دوراً في معالجة المعلومات لمساعدتنا على التركيز وتوجيه الأفعال لمساعدتنا على تحقيق أهدافنا.
يعتقد شان أن كون هذه الشبكة أقل تطوراً من الشبكات الأخرى خلال فترة المراهقة قد يفسر بعض السلوكيات الشائعة لدى المراهقين. ”إذا لم تتطور فرادة الشبكة CON في دماغهم بعد، لن يتمكن المراهقون من التركيز والانتباه فترات طويلة“.
”الشبكة الحلقية الجانبية مرتبطة أيضاً بالمرونة الإدراكية، وهي القدرة على تغيير سلوكنا وتفكيرنا“
ترتبط هذه الشبكة أيضاً بالمرونة المعرفية Cognitive flexibility، أي القدرة على تغيير سلوكنا وتفكيرنا. وهذا قد يفسر السبب في أن لها باستمرار دوراً في مجموعة متنوعة من حالات الصحة العقلية، من الاكتئاب والقلق إلى اضطراب الوسواس القهري Obsessive Compulsive Disorder (اختصاراً: الاضطراب OCD) أي جميع الحالات التي تحتوي على عنصر على صلة بالتفكير الجامد أو المتعثر. الأشخاص القلقون، مثلاً، قلقون بنحو مفرط؛ الأشخاص المصابون بالاكتئاب يسترجعون على نحو متكرر أفكاراً سلبية عن حياتهم؛ وأولئك الذين يعانون الوسواس القهري لديهم أفكار تدخلية ودوافع لأداء أفعال على نحو متكرر. يمكن أن تقف مشكلة المرونة المعرفية وراء كل من هذه الحالات.
لذا، إذا كان تفرد الشبكة CON علامة على نمو دماغ سليم خلال سنوات المراهقة، وأن وجود مشكلات في هذه الشبكة يمكن أن يؤدي إلى انخفاض المرونة المعرفية وزيادة مخاطر الإصابة بأمراض الصحة العقلية، فليس من المستغرب أن الأفراد الذين يكون تطور هذه الشبكة لديهم أبطأ معرضون لارتفاع خطر الإصابة باعتلال الصحة العقلية في وقت لاحق من حياتهم. يجادل الباحثون بأنه يمكننا استناداً إلى ذلك فحص أدمغة المراهقين واكتشاف من هم المعرضون للخطر قبل ظهور أعراضهم. ثم، قد، قد نتمكن من تجنيبهم الإصابة بتلك الحالات من الأساس.
”الوقاية من الأمراض العقلية، مقارنة بالتركيز على علاجها، يمكن أن تجنب كثيراً من الأشخاص كثيراً من المعاناة“
تدابير وقائية
يمكن للوقاية من الأمراض العقلية، مقارنة بالتركيز على علاجها، أن تجنب كثيراً من الناس كثيراً من المعاناة. لكنها تستلزم تكاليف تُدفع مسبقاً، خاصة إذا كنا نتحدث عن فحوص باهظة الثمن للرنين المغناطيسي الوظيفي، مما قد يجعل من الصعب إقناع الحكومات بتبنيها.
لحسن الحظ، هناك أدلة ناشئة على أن الكشف المبكر عن حالات الصحة العقلية يمكن أن يوفر المال على المدى الطويل. إن المبلغ الذي يُنفَق سنوياً على علاج هذه الحالات وقيمته 15.5 بليون جنيه إسترليني يبدو ضئيلاً إلى حد كبير مقارنة بما يتكلفه الاقتصاد من جراء الأمراض العقلية بطرق أخرى، مثلاً، سواء بسبب التغيب عن العمل أو أخذ إجازة لرعاية أفراد مرضى من الأسرة. وجد تقرير نُشر في العام 2022 أن مشكلات الصحة العقلية تكلف الاقتصاد البريطاني ما لا يقل عن 117.9 بليون جنيه إسترليني سنوياً.
يحتاج الأمر إلى إجراء تحليل كامل لمعرفة ما إذا كان هذا التدخل في حد ذاته سيقلل من عبء اعتلال الصحة العقلية بدرجة كافية لتحقيق فائدة مالية، ولكن من الواضح، بوجه عام، أن الوقاية ليست خيراً من العلاج فحسب، بل هي أيضاً أقل كلفة. مثلاً وجدت ورقة مراجعة بحثية أنه في مقابل كل جنيه إسترليني يستثمر في تدخلات الصحة العقلية في مكان العمل، وفرت الشركات 5 جنيهات إسترلينية من التكاليف فيما بعد.
ومن هنا يعتقد الباحثون القائمون على دراسة بصمة الدماغ أنها فكرة تستحق المتابعة. يقول شان: ”يمكنك التفكير في الأمر على أنه يشبه فحص سرطان الثدي… يجدر بنا أن نفكر في مراقبة نمو الدماغ لدى المراهقين إذا أردنا تجنب مشكلات الصحة العقلية“.
ومع ذلك هناك عقبة كبيرة تقف في طريق ذلك، وهي أن مسح الدماغ ليس الطريقة المتاحة الأسهل لفعل ذلك، وهو أمر يقر به البروفيسور دانييل هيرمنز Daniel Hermens، أحد زملاء شان: ”نظراً إلى عدم إحراز تقدم كبير في التنبؤ بالأمراض العقلية، فإن التوصل إلى طريقة موثوق بها وموضوعية للاضطلاع بذلك ستكون ذات فائدة كبيرة للمجتمع“.
ويضيف: “في حين أن عديداً من المستشفيات (والمرافق الأخرى) لديها أجهزة مسح ضوئي للدماغ بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI، فإن التكلفة ما زالت مرتفعة، ومن هنا الحاجة إلى الدعم الحكومي. سيساعد ربط تقنيات بصمة الدماغ بالتقنيات الأخرى، مثل مخطط كهربية الدماغ (EEGs)، على التعامل مع إمكانية إتاحة هذه التقنيات والقدرة على تحمل تكاليفها، فضلاً عن السماح باستخدام ‘الأجهزة المحمولة’ التي يمكن للأشخاص استخدامها لتتبع التغييرات في أنماط أدمغتهم التي تعد مرادفة لحدوث تغييرات في الصحة العقلية والرفاه”.
أحد الفرق التي تعمل على بديل هو مختبر الطب النفسي الحاسوبي التنموي Developmental Computational Psychiatry Lab، بقيادة البروفيسور توبياس هاوزر. يجمع تطبيق الفريق ”مستكشف الدماغ“ Brain Explorer، البيانات عندما يلعب الأشخاص في معظم أنحاء العالم ألعاباً تختبر قدراتهم المعرفية. وجد الفريق أن هذه البيانات تعطي نتائج مماثلة للاختبارات التي تُجرى في المختبر، مع السماح للباحثين بالوصول إلى عدد أكبر بكثير وأكثر تنوعاً من الأشخاص. إضافة إلى الألعاب يطرح التطبيق أسئلة حول الصحة العقلية للاعبين. وقد بدأ العلماء القائمون على البحث بملاحظة روابط بين الأداء خلال اللعب والمرض العقلي. سيكون هذا تطوراً مثيراً جداً للاهتمام، لأن الطلب من الناس أن يلعبوا لعبة أسهل بكثير (وأرخص) من إجراء مسح للدماغ.
يقول هاوزر: ”لا أرى مستقبلاً نضع فيه كل مراهق في ماسح ضوئي للدماغ. من الناحية المالية واللوجستية، سيكون هذا مسعى هائلاً… لذلك أعتقد أن الطريق الذي يجدر بنا اتباعه هو الحصول على مؤشرات أو علامات يسهل الحصول عليها واستخدامها. ويمكن أن يكون تطبيق الهاتف الذكي هو هذا الطريق. يمكننا أن نفعل ذلك في المدارس، ونتمكن من استخدام النتائج لتحديد الأشخاص الأكثر عرضة للخطر“.
ويرى هاوزر أن عمليات مسح الدماغ يجب أن تمثل الخط الثاني من الاختبار لاستخدامها جنباً إلى جنب مع عوامل أخرى، مثل تاريخ المريض الطبي وأعراضه. يمكن استخدام كل هذه معاً لتحسين فهم الأطباء لهذا الفرد والتنبؤ بحالته. وهو يشبه ذلك باختبار ضغط الدم: ”يقيس طبيبك ضغط دمك. إنه لا يخرج منه بتشخيص مُعيّن، ولكن إذا كان لديك ارتفاع في ضغط الدم، فسيطلب إليك إجراء اختبارات أكثر تفصيلاً… عندها فقط، باستخدام هذه التقييمات الأكثر دقة، قد ينتهي الأمر إلى تشخيص حالة ما لديك“.
بغض النظر عن الطريقة التي نتبعها، من الواضح أن الوقاية من مشكلات الصحة العقلية قبل أن تبدأ يمكن أن تحدث تغييرات جذرية. ومع أزمة الصحة العقلية الحالية بين الشباب، نحن في حاجة إلى إحداث تغيير. وأنا لدي أمل في مستقبل يوفر فيه الفهم الأفضل للعوامل التي تؤدي إلى المرض العقلي، سواء كانت بتأثير من الدماغ أو البيئة، مزيداً من الخيارات ومزيداً من المسارات لتقديم الدعم لمن هم في أمس الحاجة إليه.
جيني سميث (@GinnySmithSci)
جيني خبيرة في علم الأعصاب ومحاورة علمية. كتابها الصادر حديثاً يحمل عنوان: مُثقل: كيف يتأثر كل جانب من جوانب حياتك بكيميائيات دماغك Overloaded: How Every Aspect Of Your life Is Influenced By Your Brain Chemicals (منشورات: Bloomsbury Sigma)