أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تعليق

الموضع السري للفكاهة قد يكون منطقة تقاطع مزدحمة في دماغك

تدخل نكتة إلى الدماغ ويسألها أحد علماء النفس: ”ما الذي يجعلك مُضحكة إلى هذا الحد؟“.

يُنظر إلى النكات والفكاهة في كثير من الأحيان على أنها تافهة وغير مهمة. وهذا أمر مفهوم إلى حد ما: فهي ليست جادة بحكم تعريفها. إذا لم يتمكن المحامي الذي يدافع عنك في المحكمة من التوقف عن إلقاء النكات، فمن الطبيعي أن تشعر بالقلق.

”للفكاهة والنكات والضحك دور حيوي في التفاعل الإنساني“

لكن الدافع الشائع لاعتبار الفكاهة غير ذات أهمية ليس صائباً. تؤدي الفكاهة والنكتة والضحك دوراً حيوياً في سلوك الإنسان وتفاعلاته.

تُعَد الفكاهة جزءاً قوياً من الترابط الاجتماعي: فنحن نضحك مع الآخرين 30 مرة أكثر مما نضحك عندما نكون بمفردنا. وتتشابك الفكاهة إلى حد كبير مع سلوكيات التزاوج البشري. فالفكاهة هي طريقة يلجأ إليها الدماغ لإظهار البراعة والنجاح؛ إنها المعادل المعرفي لقرون الأيل. كما أن الفكاهة والضحك مفيدان حقاً للصحة بما لهما من خاصية تخفيف التوتر.

ولكن ما الذي يحدث في أدمغتنا؟ لماذا نستجيب بهذه الطرق القوية والمجزية، لأشياء لا معنى لها من الناحية الموضوعية؟

لقد قضى العلماء سنوات في دراسة هذا الأمر، وهو أمر يُحسب لهم (جعلُ الناس يضحكون ليس سمة أو قدرة يمتلكها عادةً العلماء المحترفون). وأُنشئت كمية كبيرة من البيانات المتعلقة بطريقة عمل الفكاهة في الدماغ والأنواع المختلفة من النكات المعروفة التي تحفزها.

في حين أن هناك مجموعة واسعة من النكات ذات السمات المختلفة (النكات الدلالية Semantic jokes، والنكات اللغوية Linguistic jokes، والنكات البصرية الثابتة والديناميكية Static and dynamic visual jokes وغير ذلك)، فمن غير المستغرب أن أبسط النكات التي تضحكنا هي تلك التي تلعب على الكلمات والمعاني وتسمى كذلك نكتة التورية.

التورية اللفظية Verbal puns، وهي من النكات الأكثر شيوعاً، هي حين تستخدم عناصر لغوية محددة لإعطاء معانٍ مختلفة في وقت واحد. 

ومن المثير للاهتمام أن النكات القائمة على اللعب على ازدواج المعنى أو التورية غالباً ما تكون تلك التي يستخدمها العلماء عند دراسة الفكاهة. وهي قد لا تضحكنا في الواقع، لكن بساطتها وكم هي مألوفة يعنيان أن معظم الناس يتعرفون على الفكاهة في التورية، مهما كانت ضعيفة. لذلك تظل عمليات الفكاهة في الدماغ نشطة.

ولكن من أين تنشأ الفكاهة في الدماغ؟ في كل مكان وفقاً للبيانات. وذلك لأن النكات وغيرها من المحفزات الفكاهية تتضمن عادةً عديداً من العناصر الحسية، إضافةً إلى اللغة والذاكرة والعاطفة والتحليل والاستقراء وما إلى ذلك. تحدث معالجة كل هذه من خلال مناطق وشبكات عصبية متباينة.

ومع ذلك تشير أبحاث مهمة إلى جزء من الدماغ يعد نقطة تقاطع لكل ما يتعلق بالنكات، ما يشكل نظاماً محدداً للتعرف على الفكاهة. يتكون هذا النظام من مناطق تشغل الوصلات بين الفص الصدغي lope Temporal والقذالي Occipital والجداري Parietal.

يبدو أن هذا النظام يكتشف التناقض ويحلّه. إذ تعرف أدمغتنا كيف يجب أن تعمل الأشياء من مثل اللغة والسلوكيات. لكن في العالم الحقيقي، هناك أشياء كثيرة لا تتوافق مع توقعاتنا. ويبدو أن أدمغتنا قد طورت نظاماً للتعرف على ذلك حين حدوثه.

إذا حدثت بلبلة في الوضع الطبيعي، فهذا يعني أننا لا نعرف ما سيحدث، وهذا يولِّد التوتر المعرفي Cognitive tension. ومع ذلك فإن النظام الذي يتعرف على التناقض يبدو أنه يحله أيضاً، من خلال تقديم تفسير، أو على الأقل تأكيد على أن التناقض ليست له عواقب سلبية. وهذا يزيل عدم اليقين، ويبدد التوتر.

دماغنا يوافق على هذا. وهذا يعني أن الخطر المحتمل زال، وتعلمنا شيئاً جديداً، واضطلعنا بتوسيع نموذجنا العقلي Mental model، ومزيد. لذلك، فإننا نشعر بالرضا.

بفضل هذه الأنظمة المعقدة في أدمغتنا يمكن استخلاص الفكاهة من شيء مفاجئ أو غير متوقع أو خطأ على نحو ما، ما دام قد جرى حله من دون عواقب سلبية.

إذا لم يُحل التناقض، فلن تكون الفكاهة حاضرة. وهذا يفسر لماذا يصعب في كثير من الأحيان فهم الفكاهة السريالية التي لا تعتمد على مواقف معقدة أو غير مألوفة أو غير واقعية.

ولهذا السبب أيضاً، على عكس الموسيقى، يصعب على النكات استثارة التأثير نفسه عند تكرارها. يُعَد توضيح التناقض أو التضارب جزءاً أساسياً من الفكاهة. إذا كان الأمر مألوفاً، فهذا يعني أن التضارب محلول.

الفكاهة هي ظاهرة ينفرد بها الإنسان مع عديد من المتغيرات المعقدة الأخرى التي تؤثر فيها. الحالة والعاطفة والتحفيز والإدراك الاجتماعي والذاكرة والإثارة وما إلى ذلك. ولكن وفقاً لأحدث ما توصل إليه العلم، فإن اكتشاف التناقض وحلَّه هما حجر الأساس العصبي لها. الفكاهة هي في الأساس موقف يجعل دماغنا يقول: ”هذه ليست الطريقة التي تسير وفقها الأمور عادةً… لكنني أتقبلُها!“.

د. دين بيرنيت يستكشف عالم الأعصاب دين علم النفس وراء العواطف في كتابه الأخير الجهل العاطفي Emotional Ignorance (منشورات: غارديان فابر)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى