بقلم: كولين ستيوارت
خلال الأيام الأولى من السنة الجديدة، بينما كان معظمنا لا يزال يتجاوز آثار التبذير في موسم الاحتفالات، مُلئت بهدوء فجوة هائلة في استكشاف المجموعة الشمسية. سبق أن أرسلنا مسابير إلى جميع كواكب المجموعة الشمسية، وتعرضنا لمواجهات قريبة مع المذنبات، وهبطنا على الكويكبات وكذلك على أحد أقمار زحل. وفي يوم رأس السنة الميلادية حلَّق مسبار نيو هورايزونز التابع لوكالة ناسا أمام أحد أجرام حزام كويبر Kuiper Belt، وعلى بعد أكثر من 6.5 بليون كم من الشمس. ومع ذلك، فقد حدثت كل هذه الأمور قبل أن نتمكن من إنزال أي شيء على الجانب البعيد من أقرب جار سماوي لنا، أي القمر. أخيراً، أعلنت وكالة الفضاء الصينية هذا الإنجاز بالهبوط الناجح لبعثة تشانغي 4 (Chang’e 4) على سطح القمر في 3 يناير. وبعد 12 ساعة فقط، تدحرجت عربة يوتو تو Yutu 2 على منحدر لتحفر آثار إطاراتها في الغبار القمري على الجانب الآخر من القمر للمرة الأولى مرة. يقول البروفيسور إيان كراوفورد Ian Crawford، عالم الكواكب في جامعة بيركبيك Birkbeck University بلندن: «إنها لحظة مهمة جدّاً في تاريخ استكشاف الفضاء».
سُمِّيت تشانغي على اسم إلهة القمر الصينية، أما يوتو Yutu فهو أرنبها الأبيض الأليف الذي يُعتقد أنه يُرى على سطح القمر، مثل رجل القمر الذي يعتقد الغربيون بوجوده. وتمثل بعثة تشانغي 4 عودة إلى سطح القمر بعد سنوات من اللامبالاة البشرية، فقد سعينا جاهدين إلى استكشاف سائر المجموعة الشمسية. وبدأ الاهتمام بكل ما يتعلق بالقمر يتضاءل بعد انتهاء بعثات أبولّو في عام 1972، وحتى البعثات الروبوتية إلى سطح القمر توقفت منذ عام 1976. وظل الحال كذلك حتى ديسمبر 2013، عندما أنزلت الصين أول مركبة يوتو على الجانب القريب من القمر كجزء من بعثة تشانغي 3؛ مما جعلها ثالث دولة- بعد الولايات المتحدة وروسيا- ترسل عربة جوالة تهبط بنجاح على سطح القمر.
لكن بعثة تشانغي 3 لم تخلُ من الصعوبات؛ لأن خطأً فنيّاً أعاق حركة العربة الجوالة بعد وقت وجيز من هبوطها. وكان السبب المحتمل هو أن الاحتكاكات بالصخور كانت أكثر تواتراً مما كان مخططاً له. بالنظر إلى هذه المشكلات، كانت خطوة وكالة الفضاء الصينية اللاحقة شجاعة. ويقول كراوفورد: «من المثير للإعجاب أن محاولتهم التالية أجريت على الجانب البعيد من القمر».
بالنظر إلى سحب الجاذبية(السَّحْب الثقال)ي Gravitational pull للجاذبية الأرضية، فإننا لا نرى سوى جانب واحد من القمر- فالجانب الآخر يقع بعيداً عنا بشكل دائم. لهذا السبب، هبطت تشانغي 4 خلال تشكّل ولادة هلال جديد، في وقت يكون فيه جانبنا مظلماً في حين يكون الجانب البعيد مضاء بالكامل بواسطة الشمس. وبغض النظر عن الجانب الذي تهبط فيه، يتعين على البعثات القمرية أن تمر بأسبوعين من الظلام البارد، يليهما أسبوعان من ضوء النهار الساطع. والطريقة الوحيدة لمعرفة المزيد عن الجانب البعيد هي إرسال مسابير (أو أشخاص) تلتف حول الجانب الخلفي لإلقاء نظرة فاحصة. وعلى الرغم من أن الصورة الأولى للجانب البعيد قد التُقطت في عام 1959، فلم نتمكن إلا هذه الأيام من إنزال مسبار عليه. ورفضت وكالة ناسا فكرة إرسال أبولو 17 Apollo 17، وهي آخر بعثة بشرية للهبوط على القمر، في سبعينات القرن العشرين، وهو ما عُزِي جزئيّاً إلى صعوبات التواصل- فالقمر نفسه يحجب إشارات الراديو المباشرة مع الأرض.
الهبوط على القمر
للتغلب على مشكلات الاتصالات، أوقف الصينيون القمر الاصطناعي كيكياو Queqiao (جسر العقعق) في مدار حول القمر في العام الماضي لنقل الرسائل إلى الوطن. ويدور كيكياو على بعد 65,000 كم تقريباً من القمر، وينقل الإشارات إلى الصين ومحطات قاعدية أخرى حول العالم. وهذا النظام يجعل البعثة أقرب شبهاً بعرض باليه Ballet معقد لعمليات الهبوط على الجانب القريب. وقضى علماء البعثة أربعة أسابيع قبل الهبوط لاختبار نظام الترحيل الحيوي هذا. وكذلك، فالجانب البعيد أشدُّ وعورة مقارنة بالسلاسة النسبية للجانب القريب؛ مما يعني مزيداً من المخاطر المحتملة التي يجب تجنبها أثناء الهبوط. ووفقاً للبروفيسور برنارد فوينغ Bernard Foing، المدير التنفيذي لمجموعة العمل الدولية لاستكشاف القمر International Lunar Exploration Working Group، يتطلب النجاح «عدداً من المناورات الحيوية، بما في ذلك الإطلاق والحقن عبر القمر Trans-lunar injection والتقاف القمر Lunar capture، والخروج عن المدار وتحقيق الاستقرار والتحكم في النزول وتجنب المخاطر والهبوط السلس، ونشر وتشغيل العربة الجوالة والأدوات». ويبدو أن كل شيء قد أُنجز بشكل مثالي. وقال كبير المصممين سان زيجو Sun Zezhou لوسائل الإعلام الحكومية الصينية بعد فترة وجيزة من تأكيد أخبار النجاح: «سارت العملية برمتها كما كان متوقعاً، وكانت النتيجة دقيقة جدّاً، كما كان الهبوط مستقراً جدا».
كان موقع الهبوط المختار هو فوهة فون كارمان Von Karman crater البالغ عرضها 180 كم، التي سميت على اسم مهندس الفضاء الجوي ثيودور فون كارمان Theodore von Karman الذي حقق العديد من الإنجازات الكبرى في مجال الديناميكا الهوائية خلال القرن العشرين. إنه موقع ارتطام يقع فوق ندبة تصادم أكبر بكثير تعرف بحوض أيتكين القطبي الجنوبي South Pole-Aitken basin. ويقول فوينغ: «إنه أكبر البنى القمرية وأعمقها وأقدمها». ضع جبل إيفرست على أرضية الحفرة ولن تكون قمته حتى قريبة من البروز من القمة. للحوض أهمية جيولوجية كبرى، إذ يمكنه توفير أدلة حول الطريقة التي تشكّل بها القمر من الحطام الذي ألقي إلى الفضاء بعد اصطدام كوكب صغير بالأرض الحديثة النشأة. غمرت الحمم البركانية فوهة البركان خلال الأيام الأولى من عمر القمر؛ مما يعني أن أرضية الحفرة ملساء على نحو مذهل، ومن ثمَّ فإن الهبوط عليها أقل خطورة بكثير من أي موضع آخر في الجانب البعيد. يقول كراوفورد: «كانت اعتبارات الأمان هي السبب الرئيسي لاختياره».
ربما توغلت آثار الارتطام الهائل الذي شكّل حوض أيتكين في عمق عباءة القمر، فكشف المواد البازلتية الأعمق لتظهر على السطح.
يقول كراوفورد: «لم يقم أي شخص بقياس تركيب الجانب البعيد من البازلت من قبل». ومع ذلك، فإن القيام بهذا ليس أمراً مؤكداً، لأن الأشياء المثيرة للاهتمام ربما غطتها تدفقات الحمم البركانية التي غمرت الحوض. مثل أي مهمة فضائية، كان على علماء تشانغي 4 يوازنوا بين المخاطرة والمكافأة. لذلك تضمنت
طريقة أخرى للحصول على البيانات على سطح القمر السفلي- تحمل العربة الجوالة يوتو 2 أداة تُسمى الرادار القمري المخترق Lunar Penetrating Radar )اختصارا: الارادة (LPR يمكنها مسح بنية الجانب البعيد من القمر حتى عمق 100 متر.
الجيولوجيا أبعد من أن تكون هدف تشانغي 4 الوحيد، فقد حشر طيف واسع من الأدوات التجريبية الأخرى في الجزء الخلفي من تشانغي 4 ونقلت إلى القمر. ويعتبر العديد من الفلكيين الجانب البعيد من القمر مكاناً مثالياً لبناء تلسكوب لاسلكي. وهمهمة القمر الخلفية محمية من الأرض، وأي مرصد سيكون له حرية إجراء قياسات حساسة للإشارات الراديو الفلكية الضعيفة. ويحتوي تشانغي 4 على أداة يمكنها الاستماع إلى الفضاء عبر مجموعة واسعة من الترددات. فإذا أثبتت أن نتائجها مثمرة، يعتقد كراوفورد فإنها ستأذن بإطلاق مهمات علم الفلك الراديوي الأكثر تطوراً في المستقبل. ومع ذلك، فإن غالبية تجارب تشانغي 4 غير الجيولوجية مصممة لدراسة مدى احتمال عودة البعثات البشرية المستقبلية إلى القمر. ووفقاً لفوينغ، فإن إحدى التجارب التي تدعى المحلّل المتطور الصغير للذرات المتعادلة الشحنة (اختصارا التجارة: ASAN)، «ستدرس كيفية تفاعل الرياح الشمسية مع سطح القمر وربما حتى العملية المستبطنة لتشكّل المياه القمرية». ويُعتقد أن حوض القطب الجنوبي-أيتكن يضم كميات كبيرة من جليد الماء- وهو مورد مهم لسكان القمر المستقبليين. كما سيكون رواد الفضاء المحتملون غير محميين من الظروف الفضائية القاسية، إذ سيتعرضون لجرعات كبيرة من الإشعاع من العواصف الشمسية والأشعة الكونية الناتجة من انفجار النجوم في أماكن أخرى من المجرة. وستعمل تجربة عربة الإنزال القمرية لقياس النيوترونات وشدة الجرعات Lunar Lander Neutrons and Dosimetry (اختصارا العربة: LND) التي طوّرت بالتعاون مع جامعة كيل Kiel University في ألمانيا، على تقييم مدى قوة هذه الجرعة بالقرب من موقع هبوط تشانغي 4.
الحياة على القمر
ومع ذلك فإن التجربة التي يرجح أن تطلق مخيلتنا الجماعية هي النظام الإيكولوجي الميكروي للقمر. ويبلغ طول الحاوية الأسطوانية المحكمة الإغلاق 18 سم وتزن ثلاثة كغم فقط. من بين محتوياتها عدد من البذور المختلفة، إلى جانب بيض دودة القز. وتستخدم كاميرا صغيرة في مراقبتها لمعرفة ما إذا كان بوسع هذه الكائنات الحية الحياة في البيئة الغريبة القاسية التي وجدت نفسها الآن فيها. وفي وقت كتابة هذا التقرير كانت بذور القطن قد نبتت بالفعل (لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع، انظر الصفحة 15). وبعد عقود عدة، يمكن للبشر أن ينظروا إلى هذه التجربة باعتبارها بداية الحياة على القمر. ولا شك في أن هذا هو ما تستعد له الصين. وتتبع عمليات الإطلاق الأخيرة نفس نمط وكالة ناسا تقريباً قبل عصر أبولّو. فقد أُطلقت أولاً أقمار اصطناعية إلى القمر (تشانغي 1 و2)، ثم إنزال عربة جوالة على الجانب القريب (تشانغي 3)، وهذا الهبوط الأخير على الجانب البعيد هو إظهار حقيقي للنوايا. يقول فوينغ: «ستعزز بعثة تشانغي 4 من تطورهم التقني استعداداً لعمليات الهبوط الروبوتية والبشرية في المستقبل».
وترغب الصين في اكتساب مكانة الولايات المتحدة وروسيا نفسها في استكشاف الفضاء. وصار يانغ ليوي Yang Liwei أول رائد فضاء صيني (يُطلق عليه أيضاً ملاح الفضاء Taikonaut) في عام 2003. وحتى الآن، وصل 12 ملاحاً فضائيّاً إلى الفضاء، وأُرسل بعضهم إلى محطة فضائية صينية نموذجية تدعى تيانفونغ-1 Tiangong-1، التي دارت حول الأرض ما بين عامي 2011 و2018 قبل أن تسقط من مدارها فوق جنوب المحيط الهادي، وتفيد التقارير أنها احترقت في الغلاف الجوي. وبدأ الصينيون حاليّاً ببناء موقع مداري جديد أكثر طموحاً في محاولة لتحقيق مكانة محطة الفضاء الدولية الموجودة منذ زمن طويل. ويأملون بإكمالها بحلول عام 2022. وما تعلموه هناك، إضافة إلى الدروس المستفادة من بعثة تشانغي 4، قد يتمخض عن إرسال الصين لأول رواد فضاء إلى القمر في عام 2025. وفي غضون ذلك، جارٍ إعداد المزيد من البعثات الروبوتية حاليّاً. ويقول فوينغ: «ستشمل الخطوات التالية بعثتي تشانغي 5 و6».
يمكن إطلاق الأولى في أوائل ديسمبر 2019 وستهدف إلى جلب عينات من المواد القمرية من الجانب القريب. وسيثبت النجاح أن الصينيين يمكنهم جلب المواد من القمر؛ مما يمهد الطريق إلى إعادة البشر أيضاً. ويقول فوينغ: «جارٍ التخطيط لعدد من عمليات الإنزال الروبوتية الأخرى التي قد تبني قرية روبوتية بحكم الواقع».
سباق الفضاء SPACE RACE
هناك ميزة محتملة أخرى يمكن اكتسابها من بعثات تشانغي الأخيرة. ولم تهبط أي دولة أخرى على سطح القمر منذ سبعينات القرن العشرين. وامتلاك التكنولوجيا اللازمة للقيام بذلك يمكنه وضع الصين في المقدمة لاستغلال موارد القمر الطبيعية. ومن خلال تحليل مكونات الجانب البعيد للقمر، يمكنهم الحصول على معلومات قيمة حول نوع الكنوز التي يحتمل وجودها هناك. ويُعتقد أن القمر يحتوي بالفعل على كميات كبيرة من الهيليوم 3 -، وهي مادة كيميائية نادرة على الأرض. ماذا عساهم أن يجدوا بداخل هذه الصخور غير المستكشفة؟ هل سينطلق سباق فضائي حديث تتنافس فيه القوى العظمى مرة أخرى على التفوق خارج الأرض؟ تشعر بعض الدوائر بالقلق إزاء ما يمكن أن يعنيه ذلك بالنسبة إلى العسكرة الصينية المحتملة للفضاء. فالصين طرف في معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967، التي تمنع الدول الموقعة عليها من وضع أسلحة الدمار الشامل على سطح القمر. ومع ذلك، فقد استعرضت الصين عضلاتها الفضائية في السابق، وعلى الأخص عندما دمرت أحد أقمارها الاصطناعية الخاصة بالطقس في عام 2007 بصاروخ أطلق من الأرض. وفي حين سارعت وكالات الفضاء الأخرى لتهنئة الصينيين على نجاحهم الأخير، وتحدثت إليهم علانية عن المشروعات المشتركة المحتملة، علينا الانتظار لكي نرى ما إذا كان المستقبل سيشهد مزيداً من المنافسة أم التعاون.