أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقالات رئيسية

لُعبة الجوع

معدلات السِّمنة آخذةٌ في الازدياد، ولكن في حين نُلقي اللوم على بيئتنا غير الصحية التي تُغدق علينا من كل ما لذَّ وطاب، ونبحث عن أدوية للتخلص من الدهون غير المرغوب فيها، ماذا عن الدور الذي تؤديه العوامل الجينية لدينا في كل هذا؟

البروفيسور جايلز ييو

أنا اختصاصي في علم الجينات، وهي مهنة شريفة تماماً كما أعلم. أعني أن حماتي ما زالت تحدثني، ولا بد أنه دليل على أن الأمور بخير، أليس كذلك؟

وظيفة منطقة ما تحت المهاد هي تنظيم الجوع، ولكن هذا مجرد جزء واحد من تنظيم الشهية

ومع ذلك، عندما أقول إنني أدرس الجينات المتعلقة بوزن الجسم، وإن جيناتنا يمكن أن تكون السبب الرئيس للسِّمنة، سرعان ما أتحول إلى شخص بغيض ويُنظر إليَّ على أنني أوفر الأعذار لمن يعانون زيادةَ الوزن أو السِّمنة، وهي كلمات لا أستخدمها للتقليل من شأنهم.

أثار هذا الأمر اهتمامي وشغل تفكيري على الدوام. لو أنني أدرس شيئاً آخر، مثل علم جينات السرطان أو الخرَف أو التهاب المفاصل أو أي مرض آخر، فهل سيُنظَر إليَّ على أنني صرت فجأة أبحث عن أعذار لمن يعانون هذه المشكلات الصحية؟ آمُل ألا يحدث ذلك. بدلاً من ذلك، آمل أن يفهم الناس أنني أحاول فهم البيولوجيا والآليات التي تؤدي إلى ذلك، وأعرف أن هذا قد يكون مفاجئاً، لكنني ربما أحاول مساعدة البعض منهم.

يعود دافعُنا لاستهلاك الطعام إلى جيناتنا، حتى لو أدت عوامل أخرى دوراً في ذلك

الجينات وراءَ ذلك

عندما نتحدث عن وزن الجسم، يُنظر إليه في كثير من الأحيان على أنه على صلة بنمط الحياة، أو العادات، أو الافتقار إلى قوة الإرادة، أو حتى خيار. والحقيقة هي أنه على الرغم من أن التغيرات السريعة في بيئتنا الغذائية وأسلوب حياتنا قد أدت، بلا شك، إلى ارتفاع أرقام السِّمنة Obesity في معظم أنحاء العالم، يظل هناك عديد من الأشخاص نحيلي الجسم، وهناك آخرون ليسوا كذلك. من الواضح أن هناك تبايناً كبيراً في وزن الجسم، حتى في البيئة المؤاتية للسِّمنة أو المُسببة لها Obesogenic التي نعيش فيها اليوم (التي تعزز زيادة الوزن). ويعود جزء كبير من هذا، وإن لم يكن كله، إلى التركيبة الجينية.

نموذج لهرمون اللبتين الذي يتراكم ويجري في الدم بالتناسب مع كمية الدهون في الجسم

كثير من الأدلة على الأساس الجيني لوزن الجسم جاءت من دراسة التوائم. هناك توائم متطابقة (هم، من أجل جميع المقاصد والأغراض، مستنسَخون جينياً بعضهم لبعض) وهناك توائم غير متطابقة (يتشاركون في القدر نفسه من المادة الجينية التي يتشاركونها مع الإخوة أو الوالدين، 50%). إذا درسنا عدداً كبيراً بما فيه الكفاية من أزواج التوائم، دعنا نقل الآلاف، يمكن عندها فحص أي سمة أو سلوك بشري معين ومقارنة التباين إذا كانت نسبة الجينات المشتركة 100% مقابل 50%.

ومن هذه الدراسات يمكننا أن نرى أن نسبة توريث وزن الجسم تتراوح بين 40 و70%. ومن وجهة نظر معينة، فإن نسبة توريث الطول الذي لا يشك أحد في أن الجينات لها دور فيه، تبلغ نحو 85%. وزن الجسم ليس بعيداً جداً عن ذلك.

التحكم في الشهية

ما نعرفه حالياً في هذا المجال هو أن الجينات المتعلقة بوزن الجسم هي، بحكم تعريفها، الجينات التي تؤثر في عمل دماغنا وتأثيره في تناول الطعام. ويشار إليه بخلاف ذلك إلى شهيتنا للطعام.

”تنظيم الشهية أمر معقد على نحو مدهش، لأنه يتعلق بثلاثة مفاهيم واسعة: الجوع، والشِّبع، والمكافأة“

عندما يتعلق الأمر بالطعام، فإن تنظيم الشهية أمر معقد على نحو مدهش، لأنه يتعلق بثلاثة مفاهيم واسعة: الجوع Hunger والشِّبع Fullness والمكافأة Reward. وكل منها يُنظَّم من خلال أجزاء مختلفة من الدماغ. يُنظم الجوع من خلال منطقة تسمى منطقة ما تحت المهاد Hypothalamus في قاعدة منتصف الدماغ. الشِّبع أو الامتلاء، وهو شعور يتراوح بين أن نشعر بالرضا على نحو مريح أو بأننا مُتخمون إلى حد ”الرغبة في التقيؤ“، ويتحكم فيه إلى حد كبير الدماغُ الخلفي Hindbrain، وهو المنطقة القريبة من المكان الذي يتصل فيه رأسك برقبتك. وأخيراً ينظَّم الشعورُ بالمكافأة الناتج عن تناول الطعام من خلال منطقة منتشرة في أعلى الدماغ ويُطلق عليها على نحو فضفاض اسم ”منطقة المتعة“ أو ”المنطقة الهيدونية“ Hedonic region.

لقطة مقربة للخلايا الدهنية التي تشكل الأنسجة الدهنية في الجسم

على الرغم من اختلاف مواقعها، فإن هذه المناطق لا تُقصي إحداها الأخرى، فهي مترابطة وعلى تواصلٍ بعضُها مع بعض. أجد أنه من المفيد تصور الجوع والامتلاء والمكافأة على أنها ثلاث نقاط في مثلث، مع وجود الشهية في المنتصف (مع القبول بأن هذا التصور ثنائيَّ البعد يمثل تبسيطاً مبالغاً فيه إلى حد كبير).

إذا شددنا إحدى النقاط، فستتأثر بذلك النقطتان الأخريان ومن ثمّ سنغيِّر الشكل العام للمثلث. يؤثر عدد كبير من الإشارات البيولوجية الداخلية والبيئية الخارجية في شكل هذا المثلث، ومن ثمّ يؤدي إلى تغيير الدافع إلى الشهية لدينا على نحو عام.

بَدءاً من الإشارات الداخلية، يحتاج الدماغ إلى معلومتين حول حالتنا للتأثير في الشهية. أولاً، يحتاج إلى معرفة مقدار الدهون التي نحملها (نظراً إلى أنها مصدر للطاقة على المدى الطويل، ترتبط الدهون ارتباطاً مباشراً بالمدة التي يمكن أن نبقى فيها أحياء في البرية من دون طعام). ثانياً، يحتاج الدماغ إلى معرفة مقدار ما نأكله وما تناولناه من فورنا، وهو ما يحصل عليه من إشارات الطاقة قصيرة المدى الآتية من الأمعاء. هذه الإشارات الطويلة والقصيرة المدى هي إشارات هرمونية، بمعنى أنها تُفرَز في مجرى الدم من حيث توصل في النهاية الإشارة إلى الدماغ.

يمكن للإشارات البيئية، مثل رائحة الخبز الطازج، أن تتغلب على الإشارات الهرمونية التي تخبرك عندما تشبع

استشعار الدهون

عندما يتعلق الأمر بتنظيم الشهية، فإن الدائرة الرئيسة لاستشعار الدهون هي ما يسمى ”مسار اللبتين-ميلانوكورتين“ Leptin-melanocortin pathway. اللبتين هو هرمون تنتجه الدهون، وترتبط تركيزاته في مجرى الدم على نحو مباشر بكتلة الدهون في جسمنا. باختصار: مزيدٌ من الدهون يعني مزيداً من اللبتين. وهذه هي أفضل الدوائر توصيفاً، وعلى حد علمنا الأكثر أهمية في الدماغ في استشعار الدهون وتنظيم الشهية.

في الواقع تؤدي الطفرات الجينية في كل مرحلة على هذا المسار إلى زيادة الدافع لتناول الطعام والسِّمنة. لقد وجدنا، مثلاً، أن نحو 0.3% من السكان يحملون طفرات في مستقبِل الميلانوكورتين 4، ويُعرَف اختصاراً باسم الجين MC4R، الذي يؤدي دوراً في هذا النظام. إذا حسبنا هذه النسبة بين سكان المملكة المتحدة البالغ عددهم نحو 68 مليون نسمة، فإننا نتحدث عن أكثر من 200 ألف شخص. الأشخاص الذين يحملون هذ الطفرة على الجين MC4R يكونون، في المتوسط، أثقل بمقدار 18 كغم (40 رطلاً) عندما يبلغون 18 عاماً.

ولا تقتصر هذه الظاهرة على الإنسان؛ فقد تعرَّف العلماء على طفرات تحدث على نحو طبيعي في مسار الميلانوكورتين في مجموعة واسعة من الأنواع المختلفة. 

لقد وجدنا أن 20-25% من كلاب فصيلة اللابرادور ريتريفر Labrador retrievers التي تُعرَف بأنها أكثر إقبالاً على الطعام من سلالات الكلاب الأخرى، تحمل طفرة تزيد الدافع إلى الشهية وزيادة في وزن الجسم. أيضاً ثبت أن سلالات معينة من الخنازير تحمل طفرات على الجين MC4R مرتبطة بالسِّمنة والنمو والإقبال على تناول الطعام. تساهم هذه الطفرات أيضاً في تكيُّف أسماك الكهف المكسيكية العمياء مع ظروف نظامها الإيكولوجي الفقير بالمغذيات وبقائها على قيد الحياة.

ومع ذلك ما زال الخلل الجيني في مسار اللبتين-الميلانوكورتين الذي يؤدي إلى السِّمنة المفرطة نادرَ الحدوث. ومن المرجح أن يكون منشأ السِّمنة ”الشائعة“ التي ابتُلينا بها في الوقت الحالي ”متعدد الجينات“ Polygenic في الأصل (كلمة ”بولي“ تعني ”متعدد“، وهذا على النقيض من ”أحادي الجين“ Monogenic). يأتي هذا مع عديد من المتغيرات الجينية الدقيقة، كل حالة في حد ذاتها لها تأثير غير محسوس تقريباً، ولكن عندما تتجمع معاً تُعطي نتيجة تراكمية قابلة للقياس.

”نعرف حالياً أكثر من 1,000 جين لها تأثير في مؤشر كتلة الجسم“

نعرف حالياً أكثر من 1,000 جين لها تأثير في مؤشر كتلة الجسم Body Mass Index (اختصاراً: المؤشر BMI). ومن بينها جينات تؤثر في عديد من مكونات مسار الميلانوكورتين، بما في ذلك الجينان POMC وMC4R اللذان ينظمان تناول الطعام.

البشر الذين يحملون تنويعات جينية Genetic variations على هذا المسار المهم، سواء كانت شديدة أو طفيفة، لديهم مستشعر دهني Fat sensor أقل حساسية. ببساطةٍ يجعل هذا أدمغتهم تظن أن جسمهم يحوي كمية أقل من الدهون مما يحمله بالفعل. ويعتمد مقدار ما يشعر به الدماغ على شدة الطفرة. وهذا يزيد من شعورهم بالجوع ويدفعهم إلى تناول مزيد من الطعام.

نجد الجين FTO على نطاق واسع في منطقة ما تحت المهاد، وهي منطقة الدماغ التي تتحكم في شهيتنا. يميل الأشخاص الذين لديهم نسخ أكثر من الجين FTO إلى أن يكون وزنهم أعلى من الوزن المتوسط

يتوافر حالياً دواء يستهدف هذا النظام، يسمى ستميلانوتيد Setmelanotide (من شركة ريذم فارماسوتيكالز Rhythm Pharmaceuticals)، ويؤثر تحديداً في الجين MC4R للحد من الشعور بالجوع. حصلت الشركة على ترخيص لاستخدامه لعلاج الأسباب الجينية النادرة للسِّمنة، بما في ذلك نقص الجين POMC، ويُجرَّب حالياً لمعرفة مدى فعاليته لدى الأفراد الذين يعانون عيوباً في الجين MC4R.

ذخيرة من الهرمونات

بعد ذلك نعرِّج على هرمونات القناة الهضمية. في كل مرة نتناول فيها لقمةً من الطعام – من اللحظة التي نبدأ فيها المضغ حتى اللحظة التي تخرج فيها من الطرف الآخر – تُطلق ذخيرة كاملة من الهرمونات على طول مسار عملية الهضم التي ترسل إشارات إلى الدماغ ليس فقط بعدد السعرات الحرارية الموجودة في الوجبة، ولكن كذلك ما تحتويه من المغذيات الكبيرة. هذا يشمل مقدار البروتين والدهون والكربوهيدرات الموجودة فيها. والأهم من ذلك أن من بين 20 هرموناً نعرف أنها موجودة في الأمعاء، 18 تجعلنا نشعر بالشبع.

بوجه عام، الطعام الذي يستغرق وقتاً أطول للهضم يواصل طريقه داخل الأمعاء، مما يؤدي إلى تحول في ذخيرة الهرمونات في أحشائنا، وهذا يزيد بدوره الشعور بالامتلاء. وينطبق هذا، مثلاً، على الأطعمة التي تحتوي على نسبة عالية من البروتين، وهو أحد أسباب نجاح أنظمة الحمية مثل أتكينز أو كيتو، فهي تميل إلى جعلنا نشعر بالشبع، وهذا يعني أننا نأكل أقل، ومن ثمّ نفقد الوزن.

تطور البشر للتكيف مع أوقات لم يتوافر فيها كثير من الطعام، ولكن في بيئة مسببة للسِّمنة تؤدي هذه السمات إلى تفاقم مشكلة السِّمنة

أحد هرمونات الأمعاء الرئيسة التي تزداد بقدر كبير بعد تناول الوجبة، وهو حساس بنحو خاص للبروتين، هو الهرمون GLP-1. إن الفئة الجديدة بالكامل من الأدوية المضادة للسِّمنة التي تجتاح العالم، ومنها أوزمبيك Ozempic وويغوفي Wegovy (كلاهما يحتوي على سيماغلوتيد) تتمحور حول نسخ معدلة من هذا الهرمون. المشكلة الرئيسة في الهرمون GLP-1 الأصلي هي أن نصف عمره القصير جداً يبلغ دقيقتين لأنه سريع التحلل. وتتلخص القوة العظمى لهذه الأدوية في مجموعة من المضافات الكيميائية التي أطالت عمرَ الهرمونات. وتؤخَذ النسخ الحالية منها على شكل حقنة أسبوعية، في حين يجري العمل على نسخ أخرى تؤخذ على شكل حقنة في الشهر.

لا بد أن كثيراً منكم خبِروا أننا نشعر بالجوع عندما نتبع حمية غذائية، مما يجعل الالتزام بالحمية صعباً على المدى الطويل. ما تفعله هذه الأدوية الجديدة هو أنها تجعلنا نشعر بالشِّبع. وهذا يعني أنه في أثناء تناول الدواء يمكن إنقاص الوزن من دون زيادة الشعور بالجوع.

إشارات بيئية

مهما بدت إشاراتنا الغذائية الداخلية وتنظيمها شديدة التعقيد، فإن تعقيدها يبدو بسيطاً أمام مجموعة لا حصر لها تقريباً من الإشارات البيئية. معظم هذه العناصر ليست تحت سيطرتنا، ولكنها تؤدي دوراً حاسماً في التأثير في شهيتنا.

هناك روائح الأطعمة نفسها وشكلها وصوتها، مثل اللحم المشوي أو الخبز الطازج أو القهوة لدى تحضيرها؛ ثم هناك إشارات نتعلمها وتستخدمها أدمغتنا البدائية للتنبؤ بوجود أنواع معينة من الأطعمة، مثل رؤية حرف M أصفر كبير على لافتة على جانب الطريق. يمكن لهذه الإشارات أن تتغلب على أي إشارات هرمونية داخلية.

”في المملكة المتحدة، أولئك الذين ينتمون إلى الشريحة الأدنى من الطبقات الاجتماعية والاقتصادية التي تمثل 20% من السكان هم أكثر عُرضة بمرتين تقريباً لأن ينتهي بهم الأمر إلى العيش مع السِّمنة مقارنةً بأولئك الذين ينتمون إلى شريحة العشرين في المئة الأعلى“

لكن التأثير البيئي الأكبر في السلوك الخاص بالشهية يعود إلى الحالة الاجتماعية والاقتصادية. في المملكة المتحدة، أولئك الذين ينتمون إلى الشريحة الأدنى من الطبقات الاجتماعية والاقتصادية التي تمثل %20 من السكان هم أكثر عرضة بمرتين تقريباً لأن ينتهي بهم الأمر إلى العيش مع السِّمنة (حيث يبلغ معدل انتشار السِّمنة %36) مقارنةً بأولئك الذين ينتمون إلى شريحة العشرين في المئة الأعلى (حيث يبلغ معدل انتشار السِّمنة %20).

في الواقع، في دراسة أُجريت على التوائم في مجموعة جيميناي (الجوزاء) Gemini cohort – وهي مجموعة سكانية من التوائم المولودين في إنجلترا وويلز بين مارس وديسمبر 2007 – تبين أن وراثة مؤشر كتلة الجسم أعلى بين أولئك الذين ينتمون إلى شريحة اجتماعية واقتصادية أقل ثراءً وفي بيئة مسببة للسِّمنة (%86)، مقارنة بمن ينتمون إلى شريحة اجتماعية واقتصادية أكثر ثراءً وبيئة تتضمن عدداً أقل من العوامل المسببة للسِّمنة (%39).

الفرق بين الأغنياء والفقراء ليس جينياً، بل على صلة بالظروف التي تحدث فيها الولادة. ما تخبرنا به الدراسة هو أنه إذا كان الفرد عرضةً جينياً للإصابة بالسِّمنة، فإن التعرُّض لبيئة غذائية فقيرة صحياً يزيد من العبء الجيني، في حين أن البيئة التي توفر ظروفاً صحية أفضل تقلل، على العكس من ذلك، خطر الإصابة إلى النصف. وهذا يوضح السبب في أن نطاق وراثة مؤشر كتلة الجسم يتراوح بين 40 و70%.

رسم توضيحي لهرمونات GLP-1 (باللون الأزرق) التي تُفرَز بعد تناول الطعام، وسيماغلوتيد (باللون الأحمر) الذي يشكل أساس عديد من الأدوية المضادة للسِّمنة

غرائز بدائية

في نهاية المطاف، الشهية هي نظام متكامل أو مثلث يترابط فيه الجوع والامتلاء والمكافأة، في حين تدفعه وتسحبه إشارات بيولوجية داخلية وبيئية خارجية. مثال على ذلك أنك عندما تشعر بالجوع الشديد يبدو لك مذاق الأطعمة البسيطة ألذ من المعتاد؛ قليل من الخبز أو الجبن أو بعض الأرز تكفي لتحفيز دوائر المكافأة. أما عندما تشعر بالشبع فإنك تصير انتقائيًا، وزيادة الشبع تعني زيادة الانتقائية، حين لا ترضى بغير الشكولاته مثلاً. هذا هو تفسير ظاهرة ”معدة الحلويات“ Dessert stomach، وهي تَوقُنا إلى تناول الحلوى حتى بعد شعورنا بالشبع إثر تناول وجبة دسمة.

ثم لدينا المثال المتصل بدور الوضع الاجتماعي والاقتصادي. في الأساس، إذا كانت ذخيرتك الجينية تعني أنك تجد صعوبة أكبر في أن تقول ”لا“ للطعام، فهناك مزايا واضحة لكونك في موقف لا تكون فيه مُجبراً على اتخاذ القرار في المقام الأول. قارن، مثلاً، العيش في قرية كيمبريدج شير الممتلئة بالأشجار، مثلي، مقابل منطقة داخل المدينة حيث لديك كثير من خيارات الطعام الرخيصة وغير الصحية.

ما زال لدى بعض الأوساط اعتقاد راسخ بأننا نتحكم تماماً في سلوكنا الغذائي؛ وبأن البيئة هي المسؤولة عن شكلنا وحجمنا، في حين أن تأثير جيناتنا ضئيل، إن وُجد. ومع ذلك من المهم أن نتذكر أن الدافع إلى تناول الطعام هو أحد أكثر الدوافع بدائية. لقد تشكل على امتداد ملايين السنين من التطور وزوَّد الكائنات الحية بآليات قوية وزائدة على الحاجة للتكيف والاستجابة لأوقات ندرة الغذاء.

أرى أن زيادة الوزن في بيئة اليوم هي في الواقع الاستجابة الطبيعية (والمتطورة جداً). والقضية الرئيسة هنا هي أن هذه البيئة حيث تنتشر بكثرة وفي كل مكان الأطعمةُ الغنية بالسعرات الحرارية والإشارات الغذائية المحفِّزة، في حين تغيرت أنماط الحياة في الوقت نفسه تتعارض مع آلاف السنين من البيئة المتقشفة التي تكيفنا معها. وهذا ما جعل السِّمنة تصير المشكلة الخطيرة التي هي عليها حالياً.

أنا أدرك تماماً أنه من دون هذه البيئة المسببة للسِّمنة، لن يعاني معظمنا زيادةَ الوزن أو السِّمنة. لكن إنكار الدور المركزي الذي أدته جيناتنا في استجابتنا لهذه البيئة ليس مفيداً ونحن نسعى جاهدين إلى معالجة أحد أكبر تحديات الصحة العامة في القرن الحادي والعشرين.


البروفيسور جايلز ييو (@GilesYeo)
جايلز هو عالم وراثة من جامعة كيمبريدج، ويركز عمله على تناول الطعام وعلم الجينات والسِّمنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى