أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
مقابلاتمقالات رئيسية

المعادلة الرابحة

تحت الغابات المطيرة في أمريكا الجنوبية يعيش نوع من الفطر يستهلك 50,000 ورقة نبات في اليوم من دون أن يظهر على السطح. فهو يعتمد على النمل لجلب الطعام له مقابل توفيره المُغذِّيات. ظهرت هذه الشراكة غير المتوقعة في مسلسل الحياة البرية الجديد بعنوان الكوكب الأخضر The Green Planet للسير ديفيد أتينبورو Sir David Attenborough. يتحدث عالم الأحياء التطوري د. بيبين كويج Pepijn Kooij إلى إيمي باريت Amy Barrett عن هذه العلاقة الخاصة...

يعتمد النمل القاطع على فطره للحصول على الغذاء. لماذا لا يتخلص من الوسيط ويأكل الأوراق بنفسه؟

هضم المواد النباتية عملية صعبة، حتى بالنسبة إلينا نحن البشر. إنه عمل صعب.

فكري في الحيوانات العاشبة Herbivores والحيوانات آكلة اللحوم Carnivores والحيوانات القارتة Omnivores آكلة اللحوم والنبات، وانظري فقط، على سبيل المثال، إلى أطوال أمعائها. إذا أخذتِ نمراً– من أكلة اللحوم– فستجدين أن طول أمعائه نحو ستة أمتار. لكن إذا نظرتِ إلى بقرة– وهي نموذج مثالي للحيوانات العاشبة– فستجدين أن طول أمعائها يبلغ نحو 24 متراً، وللأبقار أيضاً معدة ذات أجزاء متعددة. إن هضم المواد النباتية عملية طويلة، ويحتاج إلى كثير من البكتيريا المختلفة للمساعدة على فعل ذلك.

فطريات النمل
السير ديفيد أتنبورو يأخذك إلى عالم مدهش من النباتات والأشجار والفطريات في برنامج الكوكب الأخضر.

تمتلك النباتات آلية دفاع: جداراً خلوياً Cell wall ضخماً حول خلاياها لحمايتها من أن تؤكل. يتطلب الأمر كثيراً من الطاقة للوصول إلى الأجزاء التي نحتاج إليها بالفعل في النباتات مثل النتروجين والبروتينات. ولكن هناك كائنات حية مختصة، مثل البكتيريا [في معدة البقرة]، مُهيأة لأداء هذا النوع من العمل. بالنسبة إلى النمل، هو يريد تلك البروتينات، ولكن يصعب جداً على هذه الحشرات استخلاصها عملياً. لذلك تجعل فطرياتها تساعدها على اختراق الخلية، ثم يتغذى النمل على الفطريات.

لكن ألا يحتاج الفطر إلى البروتين؟ فلماذا يشاركه؟

حسناً، الفطر يأخذ جزءاً من البروتينات، لكنه طور هذه العلاقة مع النمل القاطع للأوراق. ينمي الفطر أعضاء متخصصة، نسميها غونغيليديا Gongylidia. توجد داخل الغونغيليديا دهون وبروتينات مغذية للنمل. النمل يأكل هذه الغونغيليديا.

”يستخدم الفطر النمل كشاحنات لنقل الإنزيمات من جزء من الفطر إلى المكان الذي توجد فيه المادة النباتية الجديدة“

لكن الفطر يستفيد أيضاً من هذه العلاقة. تحتاج الفطريات عادة إلى إطلاق الإنزيمات التي تسمح لها بتفكيك النباتات لامتصاص المُغذِّيات. من خلال الشراكة مع النمل القاطع للأوراق، يملأ الفطر الغونغيليديا بالأنزيمات. يأكل النمل هذه الإنزيمات عندما يتغذى على الغونغيليديا، لكنه لا يستطيع هضمها، لذلك تبقى نشطة عندما يتبرزها النمل. يحضر النمل مواد نباتية جديدة إلى العش، ويضعها على الفطر ثم يتبرز فوقها. هذا يضع الإنزيمات الفطرية بالضبط حيث يجب أن تكون لتكسير النباتات. يستخدم الفطر النمل كعربات لنقل الإنزيمات من جزء من الفطر إلى المكان الذي توجد فيه المادة النباتية الجديدة.

إذا شاهدتِ الحلقة الأولى من الكوكب الأخضر، فستلاحظين أن الفطر يشبه كرة كبيرة. هذه الكرة هي الفطر، وتتكون مما يُسمى الميسيليوم Mycelium.

تسمى هذه الكائنات في أكثر الأحيان النمل المربي للفطر Fungus-growing ants، لكنني أعتقد أن من الأفضل استخدام مصطلح الفطريات المربية للنمل Ant-growing fungi.

فطريات النمل
يتشارك النمل القاطع للأوراق مستعمراته مع فطر يربيه على أوراق النبات التي يجمعها.

الفطريات المربية للنمل؟

حسناً ”النمل المربي للفطر“ هو المصطلح الذي استخدمته الحدائق النباتية الملكية، كيو Royal Botanic Gardens, Kew، لأول مرة في أواخر القرن التاسع عشر لذلك النمل الذي يزرع الفطريات كمصدر غذائي رئيس له. أنا أحاول تغيير المصطلح إلى الفطريات التي تربي النمل.

هذه علاقة تبادلية Mutualism، والتبادلية تعود بالنفع على كلا [الطرفين]. إن القول بأن النمل يربي الفطريات يظهر الأمر من جانب واحد. بالطبع، هو يجلب الأوراق وينمي الفطر هناك. لكن الفطر يوجِّه النمل أيضاً ويُسند إليه مهام بطريقة أو بأخرى، باستخدام الاتصال الكيميائي. لذلك يمكنك أيضاً القول إن الفطر ينمي النمل.

يبدو الأمر كأن الفطر يستخدم النمل، مثل الماشية. يثير النظر إلى النظام بتلك الطريقة كثيراً من الأسئلة المختلفة. يحاول بحثنا تحليل هذا النظام بمجمله لمعرفة كيف يعمل. ففي النهاية هي علاقة تبادلية، ويمكنكِ النظر إلى ذلك النظام على أنه كائن حي كبير.

بالطريقة نفسها نحن البشر لدينا كثير من البكتيريا في أحشائنا، لكننا ما زلنا نرى أنفسنا كنظام واحد. لن نقول إننا بشر وبكتيريا. وبهذا المعنى ليس النمل هو ما ينمي الفطريات، بل يعمل النمل والفطريات معاً.

لقد قلتِ إن الكرة هي ميسيليوم. ما هذا؟

ربما رأيت فطريات على شكل حبة فطر، لكن هذه ليست سوى نسبة صغيرة من الكائن الحي الفعلي.

في غابة في إنجلترا، على سبيل المثال، قد ترين حبات فطر، ولكن ستكون هناك أمتار وكيلومترات من الفطريات التي لا ترينها تحت التربة.

هذا الميسيليوم أهم بكثير [من حبات الفطر] بالنسبة إلى الفطر. في الواقع الميسيليوم هو الفطر الفعلي. حبات الفطر ليست سوى أداة للتكاثر الجنسي.

أفضل مقارنة يمكنك إجراؤها هي مع شيء مثل شجرة التفاح، بالتفاحات التي تحتوي على بذورها، أو زهرة نبات ما وحبوب لقاحها. لذلك فإن حبة الفطر مشابهة للزهرة وتصنع الأبواغ Spores التي تشبه حبوب اللقاح.

إنه فقط ذلك الجزء الصغير من الفطر، حبات الفطر التي ترينها بالفعل، وهو الجزء الأكثر جمالاً بالطبع. على الرغم من أن الميسيليوم يمكن أن يبدو جميلاً جداً، ويمكنني أن أقول ذلك على وجه اليقين. لكن بوجه عام لا يمكنكِ رؤية الميسيليوم لأنه يتألف من بُنى رفيعة جداً تشبه الخيوط في التربة.

الميسيليوم هو الذي يستخلص كل المغذيات، ويؤدي كل العمل الشاق. ثم يجمع الفقاعات معاً لتشكيل حبة فطر.

لماذا لا يكتفي النمل بأكل حبات الفطر؟

عادةً، لا يحتاج هذا النوع من الفطر على وجه التحديد إلى تنمية حبة فطر من أجل التكاثر الجنسي، لأن النمل يساعد على نشر الفطر.

يبدأ كل جيل من النمل مع ملكة جديدة، وتأخذ الملكات الجديدة قطعة من الفطر في تجويف خاص في أفواهها بعيداً عندما تطير للتزاوج ولتبدأ ببناء مستعمرة جديدة.

نسمي هذه العملية ”النقل الرأسي“ Vertical transmission. إنها تحرص على استمرار هذه السلالة المعينة من الفطر من دون أي اختلاطٍ جيني.

يتطلب إنتاج حبة الفطر قدراً كبيراً من الطاقة التي تُهدر على شيءٍ غير ضروري. كما أن النمل لا يستطيع أكل الفطر.

عندما درستُ هذا النوع [من الفطريات] في كوبنهاغن، احتفظنا بها في غرف مُتحكم فيها مناخياً. في بعض الأحيان كانت الغرف المُتحكم فيها مناخياً تعاني مشكلات– مثل انخفاض مفاجئ في درجة الحرارة، أو عطل في جهاز الرطوبة– ومن ثم نحصل على حبات من الفطر. كان النمل يهاجم حبات الفطر هذه. كان يقطع الصفائح Lamellae [الخياشيم] على الجانب السفلي من رأس حبة الفطر حيث تتشكل الأبواغ، ويحاول التخلص من حبات الفطر.

حالياً، في الحرم الجامعي حيث أنا في البرازيل، نرى بين الحين والآخر حبات فطر تنبت. رؤيتها أمر غريب جداً جداً. بدأ رودولفو بيزاريا جونيور Rodolfo Bizarria Jr، أحد طلبة الدكتوراه الذين بدأت العمل معهم في جامعة ولاية ساو باولو São Paolo State University، في حساب عدد المرات التي رأينا فيها هذا. ثم عدنا إلى الأدبيات لنحصي كل تكرارات [ظهور حبات فطر].

لا يوجد كثير منها، حتى بالعودة إلى القرن التاسع عشر. لكن يمكننا أن نرى أن عددها في تزايد. حاولنا تحديد ما إذا كانت لذلك صلة بدرجة الحرارة والرطوبة وهطول الأمطار، ويبدو أن هناك رابطاً.

يدرس د. بيبين كويج كيف شكل النمل القاطع للأوراق علاقة تبادلية مع الفطريات

هل يمكن أن يؤثر تغير المناخ في هذا النوع؟

لا نعرف بعد. نحن نعلم فقط أن هناك زيادة في حبات الفطر، وطبيعي أن هذا غير مربح للنظام. سيتعين علينا أن نتقصى ما إذا كان هذا سيكون ضاراً حقاً للمستعمرة.

أين يمكن العثور على نظام الفطريات-النمل؟

فقط في الأمريكتين. يمكن العثور على النمل الذي يربي الفطر في الأجزاء الجنوبية من أمريكا الجنوبية، في نواحي الأرجنتين وتشيلي، صعوداً إلى الأجزاء الجنوبية من الولايات المتحدة: فلوريدا، وأريزونا، وتكساس. حتى في جزر الكاريبي يمكنكِ أن تجدي بعض هذه الأنواع.

لماذا بدأت هذه العلاقة؟

هذا هو السؤال الكبير. لا نعلم. هناك عدة نظريات مختلفة، وأكثرها شيوعاً أنها قد تكون نشأت من النمل الذي بدأ في جمع المواد النباتية كغذاء. وضع النمل المادة داخل حجرات العش ثم بدأ فطر ينمو عليها، وبطريقة ما أدرك ما يحدث وكأنه قال ”هذا جيد!“. هذا يشبه إلى حدٍّ ما الطريقة التي اكتشفنا بها كيف نستفيد من الخميرة، على سبيل المثال، لأن الفطريات بدأت تنمو على طعامنا المتعفن، وفي النهاية أدركنا: ”ياه، لكن هذا جيد في الواقع“.

لكن متى حصل الاتصال الدقيق، لا نعرف على وجه اليقين. نحن نعرف مزيداً عن النمل لأن الناس درسوه أكثر. لذلك نحن أقرب بكثير إلى فهم أسلاف النمل مما كنا عليه عندما بدأنا عملنا هذا.

”لا نعرف ما أقرب أسلاف هذه الفطريات. يتعلق جزء رئيس من بحثي بمحاولة اكتشاف ذلك، ومحاولة فهم سبب اختيار هذا النمل لهذه الفطريات وليس لنوع آخر“

لا نعرف ما أقرب أسلاف هذه الفطريات. يتعلق جزء رئيس من بحثي في محاولة اكتشاف ذلك، ومحاولة فهم سبب اختيار هذا النمل لهذه الفطريات وليس لنوع آخر. ما الذي يميز هذه الفطريات وما أصل الفطر المرتبط بها، وبتلك التي لا تنمو مع النمل؟ بمجرد أن نعرف قد نكون قادرين على مقارنة الجينومات والإيكولوجيا. بذلك، على الأقل، يمكننا أن نستنتج إلى حد ما كيف بدأ كل هذا.

 ولكن هذه ليست مجرد علاقة بين النمل والفطريات. كيف تكيفت النباتات لحماية أنفسها من الأكل؟

للنباتات دفاعاتها الخاصة، وهي لم تطورها بالضرورة بنحو خاص ضد ذلك النمل، ولكنها حماية عامة ضد الحيوانات العاشبة. إحدى الطرق للاضطلاع بذلك هي إنتاج السموم التي نسميها المركَّبات الفينولية. العفص (التانين) Tannins هو مثال على ذلك. لذااًفإن المذاق المر هو آلية دفاع النباتات.

تلك الحموضة جيدة جداً في مقاومة أي فطريات وأي بكتيريا، وكذلك أي آكلات للعشب، لأن من شأنها أن تعطل عمل ميكروبيومها Microbiome [الميكروبات المتعايشة معها].

يقيم النمل القاطع للأوراق علاقة تبادلية مفيدة مع الفطريات التي تؤدي العمل الشاق المتمثل في هضم الأوراق له

ولكن ستستنبط وسيلة دفاع أخرى ضد فطريات أخرى. ستجد داخل أوراق النبات ما نسميه نابوتً داخلياً (كَثيماً) Endophyte. وهذه هي الفطريات التي تقيم، في معظم الحالات، عملية تبادلية مع النبات لحمايته من الحيوانات العاشبة. فهي لن ترغب في تناول فطريات أخرى في طعامها!

أظهرت الدراسات التي أُجريت على النمل القاطع للأوراق أنه عند تقديم أوراق مصابة بنابوتات داخلية للنمل فإنه يختار دائماً الأوراق التي تحتوي على أقل عدد منها. لأنه بخلاف ذلك قد تحصل منافسة بين فطرياته والفطريات الموجودة في الورقة.

كيف يعرف النمل ذلك؟

سؤال جيد. نعتقد أن النمل يمكنه شمها. ليس لدى النمل أنف بالطبع، ولكن يمكنه بفضل قرون الاستشعار التقاط الروائح والمواد الكيميائية والمواد المتطايرة التي تطلقها النباتات أو تأتي من الفطريات. هذه طريقة أخرى يستخدمها الفطر للتواصل مع مستعمرة النمل التي يعيش فيها. قد يقدم النمل شيئاً للفطر، ويمكن للفطر أن يصدر إشارة تقول: ”هذا لا يعجبني“.

خلال دراسات أجرتها مجموعة في ألمانيا أعطيت للنمل قطعٌ صغيرة من الأوراق المعالجة بمبيدات الفطريات. بعد 24 ساعة، توقف النمل عن جلبها إلى مستعمرة الفطريات. ليس الأمر أن النمل هو الذي تعرف على مبيد الفطريات، لكنه أدرك أن شيئاً ما ليس على ما يرام لأن الأوراق لم تعجب الفطريات. هناك تفاعل قوي حقاً بين الفطر والنمل.

د. بيبين كويج

بيبين هو باحث في مختبر علم البيئة الفطرية والنظاميات Laboratory of Fungal Ecology and Systematics من جامعة إستدوال باوليتسا Universidade Estadual Paulista في ريو كلارو في البرازيل. يبحث كويج حالياً في تأثيرات تغير المناخ في النمل الذي يربي الفطر. عمل سابقاً في الحدائق النباتية الملكية، كيو، مع فريق من المتخصصين في الفطريات يسمون علماء الفطريات Mycologists.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى