قطة شرودنغر الحقيقية
بقلم: براين كليغ
في عام 1935، ابتكر إرفين شرودنغر تجربته الفكرية الشهيرة التي تضمنت قطة ميتة وحية في الوقت نفسه لإظهار وجود خلل مُدرك في الحقل الناشئ لنظرية الكم. بعد نحو قرن من الزمن، لم تثبت الفكرة سخافتها كما أُريد لها في الأصل …
في عام 1935 افترض ألبرت آينشتاين Albert Einstein وزملاؤه أن نظرية الكم تنبأت بوجود صلة بعيدة بين الجسيمات، تعرف بالتشابك الكمي Quantum entanglement. كره آينشتاين الفكرة على الفور، واصفاً إياها بأنها «عمل مُرعب يتم عن بُعد». وأعرب عن أمله بأن وجود التشابك الكمي في نظرية الكم، التي لم يكن متحمساً لها كثيراً في البداية، يعني أن النظرية معيبة إلى حد ما، أو أنها ليست مفهومة تماماً بعد.
التشابك الكمي هو فرع غريب من نظرية الكم، يقول إن بعض خصائص زوج من الجسيمات تصبح مرتبطة معاً لدرجة أنك إذا قست قيمة أحدهما، فستعرف حالة الآخر على الفور، حتى ولو باعدت بينهما مسافات كونية. غريب، أليس كذلك؟ من المحزن بالنسبة إلى آينشتاين ثبوت صحة التشابك الكمي عدة مرات، ولكن حتى ذلك الوقت على المستوى تحت الذري Subatomic level فقط.
تصف نظرية الكم كيفية عمل أصغر المكونات المعروفة للكون، فتتنبأ بسلوك الإلكترونات والذرات والجسيمات وفوتونات الضوء. وهي بذلك تصف بذلك بدقة مذهلة: أشار الفيزيائي البارز ريتشارد فاينمان Richard Feynman إلى أن نظرية الكم دقيقة جدّاً بحيث تُشبه توقع المسافة بين نيويورك ولوس أنجلوس بدقة تصل إلى عرض شعرة بشرية. ومع ذلك، فالجسيمات الكمية تتصرف على العكس تماماً من الأمور اليومية الجارية على نطاق بشري أكثر.
غريبة جدّاً حتى لآينشتاين
إحدى الأفكار الأساسية وراء نظرية الكم هي فكرة أن الجسيم يمكنه أن يوجد في أكثر من مكان في أي وقت بعينه. من الغريب أنها عندما لا تتفاعل مع العالم من حولها، أو تُقاس مواقعها المحددة، فإن الجسيمات الكمّية لا يكون لها موقع محدد. وبدلاً من ذلك، كل ما هنالك هو مجموعة من الاحتمالات حول المكان الذي قد يوجد فيه الجسيم في أي وقت بعينه- وهو ما يسمى تراكب الحالات Superposition of states. وهذه الظاهرة هي ما يؤدي إلى كون قطة شرودنغر (انظر: الصفحة المقابلة) حية وميتة في الوقت نفسه.
يعطينا هذا فرقاً محيراً بين الكائنات المجهرية اليومية، التي تتوافق مع الدقة المتوقعة «للفيزياء الكلاسيكية»، والعالم المجهري للأجسام الضئيلة – «فيزياء الكم» – حيث تزداد الاحتمالية. وكان آينشتاين يتخوف جدّاً من هذه الفكرة مما جعله يقول: «أفضل أن أكون إسكافياً، أو حتى موظفاً في صالة قمار، من أن أكون فيزيائياً».
عندما طرح آينشتاين اعتراضاته على التشابك في ثلاثينات القرن العشرين، لم يكن بالإمكان التحقق منها تجريبيّاً. ولكن بحلول سبعينات القرن العشرين، صار ذلك ممكناً، وأُجري عدد من تجارب التشابك الناجحة منذ ذلك الحين، بل إن هناك العديد من التطبيقات العملية للتشابك، منها التشفير الكمي Quantum encryption. ويستلهم الأمر فكرة للمصرفي وخبير التشفير الأمريكي فرانك ميلر Frank Miller، الذي كان يعمل على وضع شيفرة لا يمكن فكّها تسمى «منصة لمرة واحدة» One-time pad منذ نحو مئة سنة. وتمثلت فكرته بإعطاء كل من المرسل والمستقبل مفتاحاً يتكون من قيم عشوائية، لكن هذا النهج لم يكن آمناً بنسبة %100 لأنه يجب إرسال هذا المفتاح إلى كل من المرسل والمستقبل، ومن ثم يمكن اعتراضه. ومع ذلك، نظراً لأن التشابك الكمي يوفر تلقائيّاً قيماً عشوائية حتى في المواقع الشديدة التباعد، كما أنه يسمح بالتحقق مما إذا كانت الجسيمات ظلت متشابكة، فإن ذلك يجعل من المستحيل على أي طرف ثالث قراءة المفتاح العشوائي قبل أن تصل الجسيمات إلى وجهتها. وقد اختبر الباحثون الصينيون هذا المبدأ، فأرسلوا فوتونات متشابكة إلى مواقع تفصل بينها مسافة 1,200 كم.
أداة النقل عن بُعد
التشابك الكمي يجعل الانتقال الكمي عن بُعد Quantum teleportation ممكناً. من دون تشابك، لا يمكن نسخ جسيم كمي؛ لأن مراقبته ستغير خصائص الجسيم إلى حالة معينة. ولكن التشابك الكمّي قد ينقل الحالة من جسيم إلى آخر دون تغييره. ويشبه هذا إصداراً صغيراً من ناقل مسلسل الخيال العلمي ستار تريك Star Trek transporter، فعلى الرغم من أن النقل الفعلي يصنع نسخة بعيدة، فإنها تخلط النسخة الأصلية بدلاً من تحريكها.
وفي الممارسة العملية سيكون استخدام النقل عن بعد على الأشخاص غير عملي لأن أجسامهم تحتوي على كثير من الذرات. ولكن هذه العملية قد تنقل المعلومات الكمية من مكان إلى آخر، وهو أمر ضروري عند بناء الحواسيب الكمّية. وفي الحوسبة القياسية تكون قيمة البتات Bits 0 أو 1. أما في الحوسبة الكمّية، فتستبدل البتات بالبتات الكمية Qubits، التي تجمع بين احتمالي 0 و 1 في الوقت نفسه؛ مما يتيح للبرامج الخاصة أن تعمل بوتيرة أسرع بكثير من الحاسوب التقليدي. وحتى خارج المختبر تحدث الظواهر الكمّية طوال الوقت. أي تفاعل بين المادة ومادة أخرى أو الضوء هو عملية كمية. وتعتمد جميع الأجهزة الإلكترونية على الظواهر الكمّية، وحتى الشمس لن تعمل لولا الطبيعة الاحتمالية لموقع الجزيئات الكمّية التي تمكِّن أنوية الهيدروجين من الاقتراب من بعضها بعضا بما يكفي لاندماجها وتوليد الطاقة. وهناك أيضاً وعي متزايد بالعمليات الكمّية في البيولوجيا. فمثلا، يبدو أن البناء الضوئي Photosynthesis، الذي تستخدمه النباتات لتوليد الطاقة من الضوء، يستخدم التأثيرات الكمّية لتوجيه الطاقة إلى الجزء المناسب من النبات. وكذلك قد يمكّن التشابك طيور الحمام وأبي الحناء Robins من التنقل. وتكتشف هذه الطيور المجال المغناطيسي للأرض، وهو يرجع على ما يبدو إلى التشابك الكمّي في أعينها الذي يعزز الضوء القادم إلى العين من طاقة الإلكترونات. وبعد ذلك تتأثر خاصية للإلكترونات تعرف بـ«الدوران المغزلي» Spin بالتغيرات الضئيلة في المجال المغناطيسي للأرض، ويعتقد أن التشابك الكمّي يمكّن الطائر من بناء صورة عن طريق ربط الإلكترونات المختلفة ببعضها البعض.
تكبير المقياس
لكن، هل يمكن أن تنطبق الظواهر الكمّية على كائنات أكبر من الذرات أو الجزيئات الضئيلة؟ يبدو أن الجواب هو نعم. ربط الدكتور سايمون غروبلاشر Simon Gröblacher من جامعة دلفت للتكنولوجيا Delft University of Technology مع زملائه قضباناً مجهرية من السيليكون. وتبلغ قياسات هذه القضبان 10×1×0.25 من مليون جزء من المتر؛ مما يجعلها أدق من الشعرة البشرية. وتوجد بداخلها جيوب صغيرة تمتص الطاقة من ضوء الليزر؛ مما يجعلها تهتز. وصمّم ضوء الليزر بطريقة تجعل الحالات الاهتزازية لتلك القضبان مرتبطة عبر التشابك الكمّي. وهو أمر غير معتاد على الإطلاق. وعادة في أي شيء بهذا الحجم، فإن التفاعل بين الذرات المختلفة بداخله، ومع أي ذرات يتلامس معها، يدمر التشابك في عملية تعرف بـ«فك الارتباط» De coherence. لذلك إذا كان من الممكن ربط زوج من قضبان السيليكون، فما أقصى حجم يمكننا أن نصل إليه؟ هل يمكننا إخضاع الكائنات الحية للتشابك؟
لا تزال بيولوجيا الكم Quantum biology حقلاً محدوداً، ولكن باستلهام تجارب مثل تجربة غروبلاشر، يطور بعض العلماء تجارب لاستخدام التأثيرات الكمّية لإنتاج تراكبات وتشابكات للكائنات الحية. وتعتقد إحدى تلك المجموعات البحثية أن هذا حدث بالفعل. ففي عام 2016 مرّر الدكتور ديفيد كولز David Coles من جامعة شيفيلد University of Sheffield وزملاؤه ضوءاً وثّاباً عبر فجوة ضيقة بين مرآتين، عبر بكتيريا الكبريت الخضراء Green sulphur bacteria. ووضعت التجربة لدراسة البناء الضوئي، ولكن عند تحليل بياناتها لاحقاً، اكتشفت مجموعة تقودها فيزيائية الكم الدكتورة شيارا مارليتو Chiara Marletto من جامعة أكسفورد University of Oxford دليلاً على أن الجزيئات الموجودة في بكتيريا الكبريت الخضراء صارت متشابكة مع فوتونات الضوء.
ولكن الباحثين ليسوا متأكدين بنسبة %100 من تأثير ذلك؛ لأن إثبات التشابك يتطلب إجراء قياسات مستقلة للفوتونات والبكتيريا، ولم يكن هذا ممكناً في تجربتهم. وتعترف مارليتو بأن التعامل مع الكائنات الحية أصعب بكثير من الجزيئات الكمّية، وتقول: «في البيولوجيا الكمّية، تكون الجزيئات فوضوية جدّاً، ومن ثم يصعب إجراء قياسات دقيقة. وما يجب علينا فعله هو عزل جزيء حيوي Biomolecule واحد [جزيء في كائن حي بيولوجي] بداخل البكتيريا وإثبات أنه متشابك مع الضوء».
التطبيق في العالم الحقيقي
لكن إذا حدث مثل هذا التشابك بالفعل، فقد يُحتمل أن يكون آلية للبقاء تستخدمها البكتيريا لتجميع الضوء النادر في أعماق المحيطات. وإذا ثبت وقوع التشابك، فسيفتح عدداً كبيراً من الاحتمالات الأخرى.
تقول مارليتو: «دار جدل طويل حول ما إذا كانت نظرية الكم تنطبق على جميع الأحجام. وتظهر التجربة أن الجزيئات الحيوية في الكائنات الحية قادرة تماماً على إظهار التأثيرات الكمية من خلال التشابك مع الضوء. وتمثل الأمر الرائع بأن البكتيريا ظلت حية طوال التجربة».
لمزيد من استقصاء هذه الظاهرة، اقترح الدكتور تريستان فارو Tristan Farrow، أحد زملاء مارليتو، إجراء دراسة جديدة لتشبيك إحدى الخواص الكمية في زوج من البكتيريا. وعلى الرغم من أنها اقتصرت في البداية على خاصية واحدة، فإن فارو يعتقد أنه يمكن توسيع نطاق التجربة، ويقول: «إن تشبيك البكتيريا الحية هو الخطوة الأولى نحو تقييم جدوى تنفيذ النقل عن بعد في البكتيريا. منذ فترة طويلة، يُعتقد أن الأنظمة الكبيرة والساخنة والفوضوية، مثل الجزيئات الحيوية، ناهيك عن الكائنات الحية، هي بيئات معادية تمنع الحالات الكمية من البقاء على قيد الحياة لأي فترة زمنية معتبرة. لا نعرف ما إذا كان هذا صحيحاً دائماً، أو إذا كان بوسع بعض البنى الفرعية بداخل هذه الجزيئات المعقدة حماية الحالات الكمية من تلك البيئة المعادية».
وقد تكون هناك تطبيقات عملية لذلك أيضاً. إذ يقول فارو: «تعد الحوسبة الكمية المستوحاة بيولوجياً جانباً تطبيقياً لبحثنا، يهدف إلى عكس هندسة البنى الاصطناعية المستوحاة من البيولوجيا. ومن الأمثلة الرئيسية على ذلك صنع أوراق شجر اصطناعية لجني الطاقة الضوئية بكفاءة قصوى، مستوحاة من كيفية استخدام الجزيئات القائمة بالبناء الضوئي لبعض التراكبات الكمية لنقل الطاقة المُلتقطة من أشعة الشمس».
يهتم غروبلاشر أيضاً بالتجارب التي تتضمن كائنات حية، ويعكف حاليّاً على إدخال صفيحة من النتريد في تراكب للحالات. وباستخدام الليزر يمكننا من الناحية النظرية إدخال غشاء مرئي بالكاد من نتريد السيليكون Silicon nitride، يبلغ قطره نحو 1مم، إلى تراكب من الاهتزازات ذات السعات المختلفة. وترتبط السعة Amplitude بكمية الطاقة التي تحملها الموجة، وهي القياس من الموقع الثابت إلى ذروة الموجة. وإذا طبّقت مزيداً من القوة، فإن الذروة- ومن ثم السعة- تزداد. ويعتقد غروبلاشر أنهم سيتمكنون في غضون بضع سنوات من تحقيق تراكب الاهتزازات هذا.
ويقول: «ستسمح لنا حالة تراكب هذه الأغشية بإثبات أن الأشياء المرئية للعين المجردة لا تزال تتصرف كمّيّاً، وأننا نستطيع اختبار التماسك حقاً- وهو الحالة الانتقالية بين الميكانيكا الكلاسيكية والكمّيّة».
وبعد ذلك، يأمل بتوسيع نطاق التجربة عن طريق وضع كائنات حية ضئيلة تسمى دببة الماء (انظر: الصفحة المقابلة) على غشاء من نتريد السيليكون، ووضعها في حالة تراكب أيضا. ومن بين الخصائص المميزة لدببة الماء قدرتها على البقاء بعد تجفيفها. وستكون دببة الماء في حالتها المجففة أثناء التجربة حتى لا يكون لها أي تأثير في خصائصها البيولوجية. فإذا نجحت التجربة، ستكون دببة الماء التي اختبرها غروبلاشر أقرب ما يمكن من رؤية كائن حي في حالتين متزامنتين- أي قطة شرودنغر حقيقية.