هل نحن وحدَنا في الكون؟
يتسارع البحث عن حياة في الفضاء. ولكن ماذا لو أننا، عوضاً عن البحث عن إشارات بيولوجية، بحثنا عن شيء مألوف أكثر: حضارةٍ خارج كوكب الأرض.
في رواية آرثر سي كلارك الشهيرة الصادرة في العام 1973، موعد مع راما Rendezvous With Rama، دخلت مركبة فضائية غامضة أسطوانية الشكل وطولها 50 كيلومتراً المجموعة الشمسية. نُظمت بعثة فضائية لاعتراضها ودراستها قبل أن تطير وتختفي في ظلام الفضاء الكوني.
حالياً، وعلى نحو استثنائي، يتحول الخيال العلمي إلى حقيقة علمية. يعتقد عالم الفيزياء الفلكية البروفِسور آفي لوب Avi Loeb من جامعة هارفارد Harvard University أنّ ”أومواموا“ Oumuamua، وهو جِرمٌ غامضٌ بين نجمي حلق عبر المجموعة الشمسية في العام 2017، ربما كان مركبة فضائية تشبه راما. لكن نظراً إلى أنه عالم وليس كاتب خيال علمي، فهو يريد بيانات تثبت ذلك. يقول: ”مع وضع ذلك في الاعتبار، اضطلعتُ بإعداد مشروع غاليليو Project Galileo. هدفه هو مسح السماء بحثاً عن الأومواموا المقبل وإرسال بعثة فضائية للتحليق بجواره وتصويره“.
يشارك أكثر من 100 عالم، بقيادة لوب، في مشروع غاليليو. وهم ينقلون بمهارةٍ تركيزَ البحث عن حياة ذكية خارج الأرض Search for Extraterrestrial Intelligence (اختصاراً: البحث SETI)، الذي يجري على أساس البحث عن إشارات بيولوجية فضائية أو إشارات كهرومغناطيسية، إلى البحث عن أشياء تمثل أدلة على تكنولوجيا فضائية. يعتقد لوب أنه تغيير طال انتظاره.
يقول: ”على مدار 70 عاماً، كنا نتمسك بالأمور الخاطئة“، في إشارة إلى السبعين عاماً التي بحث خلالها علماء الفلك عن إشارات لاسلكية ذكية من مجرتنا. ويضيف: “يعتمد ذاك البحث على افتراض أن الكائنات الفضائية تتواصل عبر موجات الراديو، وهي تقنية استخدمناها أكثر من قرن بقليل، وربما تخلت عنها الكائنات الفضائية المتقدمة قبل فترة طويلة… أعتقد أن الاستراتيجية الأفضل هي البحث عن أشياء صنعتها: عن تكنولوجيا فضائية”.
”القمر بمنزلة متحف. علينا أن نمشط سطحه بحثاً عن معدات لم نرسلها“
لا يتفق الجميع على هذا التحول في تركيز البحث عن حياة ذكية خارج الأرض. يقول البروفِسور جيسون رايت Jason Wright، عالم الفلك والفيزياء الفلكية من جامعة ولاية بنسلفانيا Pennsylvania State University: ”ولكن يمكن أن أتفق على أن ما يسمى بالبحث عن تكنولوجيا من صنع حياة ذكية خارج الأرض اكتسب مزيداً من الاهتمام أخيراً“. ولكنه يشير إلى أن ”البحث الجاري قليل جداً“.
يقول لوب إن أفضل مكان للبحث عن تكنولوجيا من صنع حياة ذكية هو المجموعة الشمسية– إنها ”صندوق بريدنا“ حيث أمكن لـ”حزم“ عائدة لكائنات فضائية أن تتراكم على مدى 4.55 بليون سنة.
مارمايت ومونوليث
يمكن أن ينتهي الأمر بوصول التكنولوجيا الفضائية إلى فنائنا الخلفي إما عن قصد وإما عن طريق المصادفة. ففي العام 1996، أشار د. أليكسي أركيبوف Alexey Arkhipov من معهد علم الفلك الراديوي Institute of Radio Astronomy في خاركيف بأوكرانيا، إلى أن أجزاء من تكنولوجيا الفضاء التي صنعناها تُطرَد لا محالة من المجموعة الشمسية بفعل أحداث مثل الاصطدام في الفضاء والانفجارات، ولا بد أن يحدث الشيء نفسه في الاتجاه المعاكس، وأن ينتهي الأمر بوصول مواد من حضارات فضائية ترتاد الفضاء إلى المجموعة الشمسية. من خلال تقدير أن 1% من النجوم القريبة كانت موطناً لحضارات أنتجت تكنولوجيا خاصة بها، وأنها على مدار تاريخها حولت 1% من مادة كويكباتها إلى ما يعادلها من السلع الاستهلاكية بمفهوم الكائنات الفضائية، خلص أركيبوف إلى أن الأرض كانت ستجمع في تاريخها نحو 4,000 قطعة من أشياء صُنعت خارج الكوكب بحجم جرة مارمايت [الجرة سعتها 250 غراماً والمارمايت تُعد من مستخلص الخميرة لها مذاق مميز قوي ومالح].
الأرض لها طقس وتشهد نشاطاً جيولوجياً يعيد تشكيل سطحها، لذلك سيكون من الصعب جداً العثور على أدوات من صنع كائنات فضائية عليها. لكن الأجسام الأخرى في المجموعة الشمسية التي لا تتغير أسطحها، مثل القمر، ستكون مكاناً أفضل للبحث. يقول لوب: “القمر هو بمنزلة متحف. علينا أن نمشط سطحه بحثاً عن معدات لم نرسلها”.
يستحضر هذا حتماً صوراً من الفيلم المستوحى من قصة أخرى من قصص كلارك، وهو 2001: ملحمة في الفضاء 2001: A Space Odyssey، وفيه نُقِّب عن صخرة مونوليث فضائية مدفونة في فوهة تيخو Tycho على القمر. تركت كائنات فضائية مرت عبر المجموعة الشمسية قبل ملايين السنين هذه الصخرة لتكون بمنزلة ”جهاز تنبيه“ لتحذير صانعيها متى ظهرت الحياة على الكوكب الثالث من الشمس من مهدها الأرضي وعبرت الخليج الفضائي الذي يفصلها عن القمر. يقول لوب إنه ليس مولعاً بالخيال العلمي. ومع ذلك فإن كثيراً من هذه الأمور طرحها كُتّابٌ مثل كلارك.
قد لا يكون التعرف على تقنية غريبة بالأمر السهل. يمكن أن تكون الحضارات الفضائية بعيدة عنا من الناحية التطورية بقدر بُعدنا عن النمل، أو حتى عن البكتيريا. ومع ذلك يقول لوب إنه إذا التقط رجل كهف هاتفاً محمولاً، فسيعلم أنه ليس حجراً وإن ظل الغرض منه غامضاً بالنسبة إليه. ويضيف: ”بالمثل، يجب أن نبحث عن أشياء تختلف عن الصخور“. وهو لا يقصد فقط على سطح الأجرام في المجموعة الشمسية، بل يعني أيضاً الفضاء ما بين الكواكب.
مشكلة ”أومواموا“
في ذاك المكان رَصد أومواموا في أواخر العام 2017 تلسكوب المسح البانورامي ونظام الاستجابة السريعة Panoramic Survey Telescope and Rapid Response System (اختصاراً: التلسكوب Pan-STARRS) في مرصد هاليكالا Haleakala Observatory في هاواي. سرعان ما عرف الفلكيون أنه يبحر بسرعة أكبر بكثير من جرم تحاصره جاذبية الشمس. غيَّر أومواموا بقدر كبير كمية الضوء المنعكس عنه، ما عنى أنه كان ذا شكل متطرِّف، أشبه بفطيرة مسطحة بحجم ملعب كرة قدم.
الأمر الأكثر إثارة للدهشة في أومواموا هو أنه لم يكن يتحرك كجرمٍ متأثر فقط بجاذبية الشمس، كان هناك شيء ما يدفعه بعيداً عن الشمس. تنفث المذنبات مادة غازية وهذه تعمل مثل عادم صاروخ وتدفعها في الاتجاه المعاكس. لكن لوب يقول إن أومواموا لم يُظهر ما يدل على أنه يطرد أي مواد.
لكن آخرين يرون أن من المستحيل استبعاد ذلك. يقول البروفِسور كريس لينتوت Chris Lintott، عالم الفلك من جامعة أكسفورد University of Oxford: ”ربما كانت كمية الغازات اللازمة لتفسير التسارع قليلة جداً بحيث لا يمكن اكتشافها“. ويشير أيضاً إلى أنه، تاريخياً، وُصفت أرصاد عدة على أنها دليل على وجود كائنات فضائية قبل أن يتبين أنها طبيعية. على سبيل المثال كان يُعتقَد أن قمري المريخ فوبوس وديموس أجوفان بسبب تدني كثافتهما، في حين أُطلق على نجوم البلسار (النابضة) اسم LGMs، اختصاراً لعبارة الرجال الخضر الصغار Little Green Men.
إنّ وجود جرمٍ واحد مثل أومواموا من خارج المجموعة الشمسية يعني أنه يجب أن تكون هناك أجرامٌ أخرى مماثلة. كما أنه في سبتمبر 2020، اكتشف التلسكوب Pan-STARRS الجرم 2020 SO.
مثل أومواموا، جرى دفعه بعيداً عن الشمس من دون أن تُرصد غازات صادرة منه كما يمكن أن يفعل المذنب. ومع ذلك عندما تتبع علماء الفلك مداره عبر الزمن، وجدوا أن الحضارة الذكية التي أتى منها لم تكن سوى… حضارتنا! يبدو أن الجرم 2020 SO هو المرحلة العليا المطروحة من صاروخ سنتور Centaur الذي حمل مركبة الهبوط سورفيور – 2 Surveyor 2 التي أطلقتها الوكالة ناسا إلى القمر في العام 1966.
ليس من المستغرَب أن يثير اقتراح لوب بأن أومواموا أداة صنعتها حضارة فضائية كثيراً من الجدل. لكن لوب وجد أن من الغريب أن علماء الفلك كانوا مستعدين لاقتراح أشياء غريبة لم يسبق أن رُصدت من قبل مثل جبل جليدي من الهيدروجين أو شريحة من النتروجين المجمد أو سحابة من جزيئات الغبار أقل كثافة بمئة مرة من الهواء، لكنهم انزعجوا من الاقتراح القائل إن أومواموا قد يكون أتى من حضارة فضائية.
يقول لوب: ”حتى إن أحد علماء الفلك قال: أومواموا غريب جداً. أتمنى لو لم يكن موجوداً“. في هذه الأثناء كان لوب يتساءل: ”من صنع أومواموا؟ هل يمكن أن يكون مجرد خردة؟ هل يمكن أن يكون مجرد غلاف عربة كبيرة تحطمت؟“.
المستكشفون
يعرب لوب عن اقتناعه بأن البحث داخل المجموعة الشمسية عن مزيد من الأشياء التي تشبه أومواموا- وحتى أصغر بكثير منه- يستحق العناء. وهو لديه حالياً المال ليفعل ذلك. حصل ذلك لأن بيل نيلسون Bill Nelson، رئيس وكالة ناسا، ألقى خطاباً في 3 يونيو 2021 قال فيه إن هناك حاجة إلى تحليل علمي للظواهر الجوية غير المعروفة Unknown Aerial Phenomena (اختصاراً: الظواهر UAP) التي اكتشفتها أدوات عدة. UAP هي في الواقع أجسام طائرة غير معروفة، أو ما اصطلح على تسميتها يوفو UFOs، ولكن أعيدت تسميتُها UAP تفادياً للوصمة التي لحقت بها. وصف الرئيس السابق باراك أوباما مشروع الظواهر UAP بأنه ”مسألة جدية“. في 5 يونيو أرسل لوب بريداً إلكترونياً إلى وكالة ناسا ليقترح مشروعاً علمياً على منوال ما دافع عنه نيلسون لكنه لم يتلقَّ رداً.
لكن في حين بقي أحد الأبواب مغلقاً، فُتح آخر. كانت إجراءات الإغلاق بسبب كوفيد-19 فرصة رائعة للوب ليبقى في المنزل ويفكر. فقد كتب عديداً من الأوراق العلمية، وألَّف كتاباً كان بين الأكثر مبيعاً عن أومواموا بعنوان جسم فضائي Extraterrestrial وكتاباً مدرسياً ضخماً بعنوان الحياة في الكون: من التوقيعات الحيوية إلى التوقيعات التقنية Life In The Cosmos: From Biosignatures To Technosignatures، مع باحث ما بعد الدكتوراه السابق ماناسفي لينغام Manasvi Lingam من معهد فلوريدا للتكنولوجيا Florida Institute of Technology. يقول: ”من أجمل الأشياء أن عديداً من الناس زاروا شرفة منزلي… أحدهم، وقد جاء بعد أسابيع قليلة من إرسال بريدي الإلكتروني، كان فرانك لاوكين Frank Laukien، الرئيس التنفيذي لشركة بروكر Bruker Corporation، وهي شركة مصنِّعة للمعدات العلمية مقرها ماساتشوستس“.
تبرع لاوكين وزوار آخرون بما مجموعه مليونا دولار، وهو المبلغ الذي استخدمه لوب لإنشاء مشروع غاليليو الذي أُعلنه في 26 يوليو. والمشروع ذو شقين: الأول، الذي يتصور لوب أن تكلفته 100 مليون دولار، هو تحديد طبيعة الظواهر UAP. سيجري تركيب مجموعة من كاميرات الفيديو البصرية العاملة بالأشعة تحت الحمراء وأجهزة استشعار بالراديو والصوت على سطح مرصد كلية هارفارد Harvard College Observatory في ربيع العام 2022 لمراقبة السماء على مدار 24 ساعة في اليوم، على أن تتعرف خوارزميات الذكاء الاصطناعي على العناصر الموجودة في البيانات. والهدف هو نصب عديد من المجموعات المماثلة حول العالم، ومسح أكبر مساحة ممكنة من السماء. يسميها لوب ”بعثة صيد“، ويقول إنها محاولة لإعمال الفكر في الموضوع عبر جعله أحد المواضيع العلمية المتداولة.
تتقدم الأمور على جبهات أخرى أيضاً. في ديسمبر 2021، أنشأ الرئيس جو بايدن مكتباً جديداً، تحت إشراف وزارة الدفاع، لتجميع البيانات من جميع فروع الحكومة لفهم الظواهر UAP.
”إذا اكتشفنا شيئاً داخل المجموعة الشمسية، فسنضطر إلى التحرك بسرعة كبيرة. فقد رحل أومواموا قبل أن نحظى بالوقت لدراسته“
أما الجزء الثاني من مشروع غاليليو، الذي يُتوقع أن تبلغ تكلفته بليون دولار، فهو أكثر طموحاً. إنه البحث عن الأومواموا الجديد وإعداد مهمة روبوتية لاعتراض مساره وتصويره من قرب. هذا، كما يعترف لوب، سيكون صعباً: ”إذا رصدنا إشارة راديو ذكية من أقرب نجم، فسيكون الاستعجال في الرد غير كبير لأن الوقت الذي يستغرقه الاتصال ذهاباً وإياباً سيكون عقداً من الزمن… ولكن إذا اكتشفنا شيئاً داخل المجموعة الشمسية، فسنضطر إلى التحرك بسرعة كبيرة. لقد رحل أومواموا قبل أن نحظى بالوقت لدراسته“.
حتى أنه قد لا يُستبعَد إرسال بعثة للهبوط على أومواموا آخر. حققت وكالة ناسا هذا في العام 2018 بهبوط مركبتها الفضائية أوزيريس ريكس OSIRIS-Rex على كويكب بينو Bennu وأخذ عينة منه ستعود بها إلى الأرض في العام 2023.
يقول لوب: ”إذا كانت هناك تقنية فضائية، فقد تمثل أكثر من مجرد فرصة علمية… يمكن أن تكون أيضاً فرصةً تجاريةً لاستيراد التكنولوجيا الجديدة إلى الأرض!“.
يقول لينتوت: ”إذا حمّس مشروع غاليليو الناس لفهم الأجرام البين نجمية التي تدخل المجموعة الشمسية فسيكون ذلك رائعاً“، موضحاً أن وكالة الفضاء الأوروبية تخطط بالفعل لإرسال بعثة معترض المذنبات Comet Interceptor mission التي ستكون قادرة على الطيران إلى جرم مثل أومواموا. ويقول إن ”الخطة هي أن تكمنَ في الفضاء في انتظار هدف مناسب، سواء اتضح أن ذلك كان مذنباً يزور الجزء الداخلي من المجموعة الشمسية أول مرة، أو جرماً بين نجمي“.
قد يبدو كل هذا التركيز على المجموعة الشمسية كحالة رجلٍ فقد مفاتيح سيارته في منتصف الليل ويبحث عنها في ضوء مصباح الشارع، ليس لأن هذا هو المكان المحتمل أن يعثر فيه عليها ولكن لأن هذا هو المكان الوحيد الذي يمكنه أن يرى فيه. مع ذلك يعتقد لوب أن الأمر يستحق إجراء بحث شامل في فنائنا الخلفي لأن أحداً لم يفعل ذلك بعد.
ويقول: ”وفق تعبير روبرت فروست Robert Frost، هذا يعني أن نسير على ‘الدرب الذي قلما سلكناه’، وفي أي وقت فعلنا ذلك، يحتمل دائماً أن نعثر على فاكهة متدلية يمكننا قطفها“.
الفضاء العميق
يزداد الأمر صعوبة لدى النظر أبعد من المجموعة الشمسية. لكن لوب يعتقد أن البحث عن بصمات تقنية ما زال رهاناً أفضل من البحث عن بصمات حيوية ميكروبية الذي هو الهدف الرئيس لعلماء الأحياء الفلكية. المؤشرات الحيوية الرئيسة هي الأكسجين والميثان، وكلاهما يمكن أن يوجد في الغلاف الجوي لكوكب ما فقط إذا جرى تجديدهما باستمرار. نعرف حالياً أكثر من 4,000 كوكب خارج مجموعتنا الشمسية. وهي فيما تدور حول نجومها الأم، يمر بعضها بين نجمه والأرض، ومن ثم يمر ضوء النجم عبر غلافها الجوي. يمكن رصد الأكسجين والميثان في الضوء النجمي بفضل أطوالها الموجية المميزة التي تمثل ”بصمتها الطيفية“ Spectral fingerprints. يقول لوب: ”المشكلة هي أنه خلال أول بليوني سنة من الحياة على الأرض، توافر قليل من الأكسجين في الغلاف الجوي. ويمكن أن يأتي كل من الأكسجين والميثان من مصادر غير حية“.
يعتقد لوب أن أفضل رهان هو ألا نبحث عن الآثار الكيميائية لحياة بيولوجية، بل عن الآثار التكنولوجية. وهو يقترح مركَّبات مثل مركَّبات الكلوروفلوروكربون CFCs– استُخدمت في الماضي على الأرض كمبرِّدات وعبوات دافعة للرش، وتُعرف بخصائصها المدمرة لطبقة الأوزون. ويقول إنه ”يمكن رصدها في الغلاف الجوي لكواكب حول نجوم قريبة بواسطة التلسكوب جيمس ويب الفضائي James Webb Space Telescope التابع لناسا والبالغ قطره 6.5 م“.
ولكن هناك علامات أخرى لها، مثل بنى عملاقة في الفضاء الخارجي. خلال بعض الوقت، بدا كأن النجم KIC 8462852، المعروف أيضاً باسم نجم تابّي Tabby’s Star، كان سطوعه شديد التقلب، وقد تدور حوله مثل هذه البُنى التي ربما تكون جامعاتٍ عملاقة للضوء النجمي. لكن تبين أن سلوك النجم كان ناتجاً عن الغبار في المجموعة الشمسية.
يقول لوب إن الأشرعة الخفيفة التي تدفعها بنى ليزر ضخمة هي وسيلة معقولة للتنقل بالنسبة إلى حضارات خارج الأرض، وقد نرصد ما يفيض من مثل هذا الضوء. أيضاً، إذا جمعت حضارة فضائية ضوء النجوم من خلال تغطية كوكبها بألواح كهروضوئية، فسوف يسبب ذلك أن يعكس سطحُه الضوء على نحو مختلف عن انعكاسه عن الصخور والمحيطات. لحسن الحظ رصد العلماء كوكباً حول النجم الأقرب إلينا وهو بروكسيما سنتوري Proxima Centauri. والكوكب بروكسيما سنتوري بي Proxima Centauri b أقرب 20 مرة إلى نجمه مقارنة بالمسافة بين الأرض والشمس. ولكن نظراً إلى أن بروكسيما سنتوري هو نجم قزم أحمر بارد وأقل سطوعاً بمقدار 500 مرة من الشمس، فمن المحتمل أن يكون كوكبه صالحاً للسكنى. كما هي حال قمرنا، الكوكب في حالة تقييد مدِّي (انغلاق مداري) Tidally locked، مما يسبب بقاء أحد جانبيه في نهار دائم في حين أن الآخر في ليل دائم. يقول لوب: ”قد تعيش حضارة فضائية في الجانب الليلي، لكنها تغطي الجانب المضيء بألواح كهروضوئية“. نحو 0.1% من سطح الأرض مضاء بأضواء اصطناعية، لكن لوب يقدر أنه إذا كان 10% من الجانب الليلي من بروكسيما سنتوري بي مضاء بالطريقة نفسها، فسيكون من الممكن رصد ذلك من الأرض بواسطة التلسكوب جيمس ويب الفضائي، الذي أطلق في يوم عيد الميلاد في 2021.
فضائيون خجولون
يتقبل لوب احتمال أن يكون من الصعب العثور على كائنات فضائية. قد يكونون مختبئين، على سبيل المثال، لأن الكون خطر، وفي حال كشفت عن وجودك، فسيُقضى عليك. إذا كان الأمر كذلك، فقد يكون الوقت قد فات بالنسبة إلينا لأن البث الإذاعي لدينا وصل إلى آلاف النجوم القريبة!
”ربما قرر سكان الفضاء البقاءَ في موطنهم والعيش في شرنقة سيبرانية، مثل الميتافيرس الذي اقترحته فيسبوك“
ولكن حتى لو لم يختبئ هؤلاء، فربما قرروا البقاء في موطنهم والعيش في شرنقة سيبرانية، مثل الميتافيرس الذي اقترحته شركة فيسبوك. هذا احتمال آخر توقعه كلارك في روايته القصيرة في العام 1949، أسد كومار The Lion Of Comarre، التي وصفت مستقبلاً يكون فيه العالم الافتراضي بالنسبة إلى كثيرين أكثر إغراءً من الواقع.
لكنَّ الكائنات الفضائية التي تسبقنا بملايين أو حتى بلايين السنين من منظور تطوري من المرجح أنها، كما لاحظ كلارك ببلاغة، ”لا يمكن تمييزها عن السحر“.
يقول لوب: ”قد تكون لدى الذكاء المتقدم بدرجات كافية قدراتٌ فائقة… قد يكون قادراً على خلق حياة من جماد وربما حتى التلاعب بقوانين الفيزياء لصنع أكوان جديدة“.
فما فوائد العثور على معدات متطورة من صنع كائنات فضائية خارج كوكب الأرض؟ حسناً، سنعرف أنه من الممكن النجاة من كوارث يمكن أن تهدد كوكباً بكامله مثل الاحترار العالمي Global warming. نأمل أن تكون مصدر إلهام لنا لمواصلة دفع حدود المعرفة العلمية قدماً.
الأهم من ذلك، كما يقول لوب، هو أنّ العلم بوجود حضارة فضائية من شأنه أن يجعل الاختلافات بين الناس على الأرض تبدو تافهة. يوضح: ”في القرن العشرين، سبب إنكار ذلك وفاة 3% من سكان العالم على أيدي النازيين وغيرهم. قد يؤدي ظهور كائنات فضائية إلى توحيدنا أكثر من أن يفرقنا“.
أما بالنسبة إلى فرصة العثور على معدات من صنع كائنات فضائية، فيقول رايت ببساطة: ”لا أعرف!“. لكن لوب يبدو أكثر تفاؤلاً. يقول: ”تشكلت معظم النجوم قبل الشمس ببلايين السنين. لهذا السبب، أعتقد أن الفرصة جيدة جداً“.
بُنى عملاقة
مثلما تتزايد احتياجاتنا العالمية إلى الطاقة باستمرار، يُفترض أن تزداد احتياجات أي حضارة فضائية متقدمة إليها. في العام 1960، اقترح الفيزيائي الأنغلو أمريكي فريمان دايسون Freeman Dyson أنه، في النهاية، سوف يرغب سكان الفضاء في استخدام كامل الطاقة التي ينتجها النجم الذي يدورون حوله. وذهب إلى أنهم قد يفعلون ذلك عن طريق تفكيك حزام الكويكبات وإعادة بنائه على شكل قوقعة كروية تحيط تماماً بشمسهم. لن يوفر لهم هذا كميات هائلة من الطاقة فحسب، بل سيوفر مساحة هائلة- الجزء الداخلي من القوقعة– كمكان للعيش. قد يكون الشكل الكروي الذي اقترحه دايسون غير مستقر، لكن في إمكان حزام استوائي أو كوكبة ضخمة من الأقمار الاصطناعية اعتراض كميات هائلة من الطاقة النجمية. قد تكون مثل هذه البُنية قابلةً للاكتشاف لأن قوانين الديناميكا الحرارية تتنبأ بأن ضوء النجوم المعترَض يُبعث على شكل إشعاع حراري أو أشعة تحت الحمراء بعيدة. كما قد يحجب وجود عدد كبير من الأجرام في مدار حول نجم ضوءَه، مما يؤدي إلى تذبذبه على نحو قوي ومتكرر. شوهد هذا في حالة KIC 8462852 أو “نجم تابّي” Tabby Star. على الرغم من أن هذا قد فُسِّر بأنه ناجم عن الغبار داخل مجموعتنا الشمسية، يبقى احتمال أن ضوء النجوم الأخرى قد يكون متغيراً بطريقة غير عادية ولا يمكن تفسيره إلا من خلال وجود بُنى عملاقة في مدار قريب.
عناصر كيميائية صناعية
تضخ الحضارة البشرية مواد كيميائية ملوِّثة في الغلاف الجوي للأرض، وقد تفعل الحضارات خارج كوكب الأرض الشيء نفسه. لا يمكن اكتشاف مثل هذه المواد الكيميائية فحسب، بل يمكن كذلك التعرف عليها على أنها من أصل ذكي بشكل لا لبس فيه.
إذا رصدنا كوكباً في مجموعة شمسية ما، فيما يتحرك الكوكب بيننا وبين نجمه الأم، سيمر ضوء النجم عبر غلافه الجوي وستُلتقط أجزاء من الضوء ذات أطوال موجية مميزة للمواد الكيميائية الموجودة في الغلاف الجوي. يسمح هذا لعلماء الفلك بتحديد المواد الموجودة في الغلاف الجوي للكوكب. يقول عالم الفيزياء الفلكية البروفِسور آفي لوب إن بعض المواد الكيميائية الصناعية الواعدة التي يجب البحث عنها في هذه الأجواء الغريبة هي رباعي فلورو الميثان (CF4) وثلاثي كلورو فلورو الميثان (CCl3F). كلتا المادتين الكيميائيتين هي مادة مبرِّدة، وهما أسهل نوعين من مركبات الكربون الكلورو فلورية (CFCs) التي يمكن رصدها.
يقول لوب: “إذا كان كل من CCl3F وCF4 موجوداً بعشرة أضعاف المستويات الأرضية الحالية، فيجب أن يكونا قابلين للاكتشاف خلال 1.2 و1.7 يوم من المراقبة، على التوالي، باستخدام التلسكوب جيمس ويب الفضائي [الذي أُطلق في يوم عيد الميلاد 2021]”.
أشرعة الشمس
سيواجه الفضائيون المشكلة نفسها التي نواجهها لدى عبور الفضاء بين الكواكب أو الفضاء بين النجوم. هناك حاجة إلى كميات كبيرة من الوقود لتسيير مركبة فضائية. لكن هذه المشكلة تختفي إذا تُرك مصدر الطاقة التي تزود بها سفينة الفضاء في الوطن.
كان هذا اقتراحاً تقدم به روبرت فوروارد Robert Forward من مختبرات أبحاث هيوز في ماليبو Hughes Research Laboratories in Malibu، بكاليفورنيا. فقد وصف في العام 1984 شراعاً شمسياً مدفوعاً بالليزر. وفي نموذجه تُرفق حمولة بشراع كبير ورقيق جداً من مادة عاكسة ويدفعهما ليزر يعمل بالطاقة الشمسية متمركز في المجموعة الشمسية. ووفقاً لحسابات فوروارد يمكن تسريع مسبار وزنه طن واحد متصل بشراع شمسي يبلغ عرضه 3.6 كم بواسطة ليزر بقوة 65 غيغاوات إلى 11% من سرعة الضوء ليطير نحو أقرب نظام نجمي هو ألفا سنتوري Alpha Centauri، في خلال 40 عاماً فقط.
أعيد إحياء هذه الفكرة أخيراً في إطار برنامج بريك ثرو ستارشوت Breakthrough Starshot programme. ما زال البرنامج في مرحلة مبكرة، ولكن الهدف هو استخدام مصفوفة ليزر بقوة 100 غيغاوات لدفع حمولة أكثر تواضعاً، زنتها غرام واحد (!) إلى 20% من سرعة الضوء لتحلق بالقرب من الكوكب وتضطلع بتصويره حول النجم بروكسيما سنتوري Proxima Centauri. إذا استخدمت كائناتٌ فضائية أشرعةً ضوئية مماثلة مدفوعة بالليزر للتنقل حول أنظمة كوكبها أو في المجرة، فقد نتمكن من التقاط ومضات الضوء عند تشغيل ذاك الليزر وإيقاف تشغيله.
الانتقال عبر الثقوب الدودية
قد تتمكن حضارة متقدمة إلى حد كبير من تطويع الزمكانSpace-time نفسه لإنشاء ممرات أو ثقوب دودية Wormholes. يمكن لهذه الممرات المختصرة عبر الزمكان- التي تسمح بوجودها نظرية النسبية العامة التي وضعها آينشتاين للجاذبية- أن تمكِّن من عبور مجرة في طرفة عين. لكن الثقب الدودي غير مستقر في الجوهر ويحتاج إلى ”أشياء“ ذات جاذبية طاردة لإبقاء فتحتيه مفتوحتين ولطاقة مكافئة لتلك المنبعثة من جزء لا بأس به من النجوم في مجرة ما. نحن نعلم أن مثل هذه الأشياء موجودة لأنها تسرِّع من تمدد الكون على شكل طاقة معتمة Dark energy، على الرغم من أن جاذبيتها أضعف من أن تفتح ثقباً دودياً.
إذا تمكنت كائنات فضائية من إنشاء شبكة من الثقوب الدودية، فقد يمكن اكتشافها عن طريق ظاهرة عدسة الجاذبية Gravitational microlensing. يحدث هذا عندما يمر جرم سماوي بيننا وبين نجم بعيد وتُضَخِّم جاذبيته ضوء النجم فترة وجيزة. إذا كان الجرم عبارة عن ثقب دودي، فإن نمط إشراق واضمحلال النجم يختلف اختلافاً واضحاً، وفقاً للبروفِسور فوميو آبي Fumio Abe من جامعة ناغويا Nagoya University في اليابان. يقول آبي: ”إذا كانت للثقوب الدودية فتحتان يتراوح نصف قطرهما بين 100 كيلومتر و10 ملايين كم، وكانت مرتبطة بمجرتنا وشائعة مثل النجوم العادية، فقد نتمكن من اكتشافها عن طريق إعادة تحليل البيانات السابقة“.