أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم النفس

الحياة من دون عين العقل

بقلم: د. لوسي مادوكس رسوم: جيمس مينشال

لا يمكن لبعض الناس تخيل وجه أفضل أصدقائهم، أو حتى منازلهم. ويطلق على غياب عين العقل هذا اسم «أفانتازيا» Aphantasia (اللا تخيّل)، الذي لم يبدأ الباحثون إلا مؤخراً باكتشاف المبادئ العلمية الكامنة وراءه.

تخيّل تفاحة. ما لونها؟ ماذا عن استحضار وجه أمك إلى ذهنك؟ ما تعبيرها؟ ماذا عن عطلتك الأخيرة؟ هل يمكنك تصوّر المكان الذي مكثت فيه؟ بالنسبة إلى بعض الأفراد، هذا مستحيل. لا يمكنهم استدعاء صور الأشياء المألوفة أو الأشخاص إلى «عين عقلهم»، فهم لا يمتلكونها في الواقع. لم يبدأ البحث في هذا الاختلاف الحاسم في الطريقة التي يرى بها الأفراد العالم إلا في السنوات القليلة الماضية. كيف مضت هذه الفترة الطويلة من تجاهل هذا الاختلاف في كيفية معايشتنا لعوالمنا الداخلية؟

عمى العقل
أفانتازيا Aphantasia هو الاسم الذي يُطلق على عدم القدرة على استدعاء صورة إلى الذهن. صاغ الاسم في عام 2015 البروفيسور آدم زيمان Adam Zeman، اختصاصي علم الأعصاب المعرفي والسلوكي في جامعة إكستر University of Exeter. لاحظ زيمان بهذه الظاهرة لأول مرة عندما أحيل إليه مريض «فقد» تصوّره البصري بعد خضوعه لجراحة في القلب.
ويتذكر زيمان «كان لديه تصوّر شديد الوضوح في السابق. اعتاد أن يساعد نفسه على النوم بتخيّل الأصدقاء والعائلة. بعد الجراحة القلبية، لم يستطع تصور أي شيء، وصارت أحلامه دون صور، وقال إن القراءة صارت مختلفة؛ لأنه اعتاد الدخول بها إلى عالم بصري وهو ما لم يعد يحدث. وحفز هذا تفكيرنا».
بحث زيمان في الأدبيات عن فقدان التصور المرئي، فلم يجد سوى القليل. يقول: «هذا أمر غريب، فهناك فجوة في معرفتنا. في ثمانينات القرن التاسع عشر، نشر العالم الفيكتوري الموسوعي فرانسيس غالتون Francis Galton ورقة بحثية عن التصور الذهني، فذكر أن عدداً ضئيلاً من الأشخاص الذين لا يستطيعون التصوّر. منذ ذلك الحين، واصل الباحثون دراسة الصور المرئية لكنهم لم يهتموا بالنهايات المتطرفة لطيف التصور. وقبل أن يبدأ زيمان بدراستها، لم يكن هناك حتى اسم للتجربة. توصل زيمان وصديق دارس للكلاسيكيات إلى «أفانتازيا»، استناداً إلى مصطلح أرسطو Aristotle «لعين العقل».
أثار تقييم زيمان لمريضه أسئلة أكثر من الإجابات. كان بوسع الرجل أن يصف قلعة، ويمكنه القول ما إذا كان العشب أو شجرة الصنوبر خضراء داكنة، لكنه أبلغ عن معرفة هذه الإجابات، وليس تخيل موضوعاتها.

أشار تصوير الدماغ إلى أنه لم يتمكن من الوصول إلى المناطق المرئية عندما حاول تخيل الصور أو تذكرها.
نشرت دراسة زيمان لحالة مريضه في مجلة ديسكفر Discover في مقال للصحافي العلمي كارل زيمر Carl Zimmer. وعلى مدار العامين التاليين، تواصل 20 شخصاً مع زيمان لإبلاغه بأنهم قرؤوا المقالة وأنهم مصابون بغياب الصور نفسه، لكنهم عايشوا الحالة طوال حياتهم. ومع تزايد ما يُكتب عن تلك النتائج، تواصل أعداد أكبر من الأفراد معه. ولدى زيمان الآن 12,000 متطوع مصابين بالأفانتازيا. ويقدر أن نحو %2 من سكان العالم لديهم تصوّر بصري ضئيل أو منعدم.

ومع ذلك، ليست كل حالات الأفانتازيا متشابهة. يعاني كثيرون فقدانَ القدرة على التصور منذ الولادة، لكن آخرين طوّروا الحالة بعد إصابة في الدماغ، أو في بعض الأحيان بعد فترات من الاكتئاب أو الذهان Psychosis. ولا يحلم بعض الأفراد بالصور، مثل مريض زيمان الأول، لكن آخرين يمكنهم ذلك، على الرغم من عدم قدرتهم على التصوّر وهم مستيقظون.
أظهرت دراسات التصوير الدماغي على البشر شبكة من المناطق الدماغية المكتنفة في التصور. وتشمل هذه القشرة البصرية الأولية Primary visual cortex ومنطقة في المغزل Fusiform قريباً من المنطقة المعنية بالتعرف على الوجوه. تضم الشبكة أيضاً أجزاء من الفصين الجبهيين والجداريين، المكتنفين عادة في اتخاذ القرار والذاكرة العاملة والانتباه. أما المناطق المعنية بالذاكرة، بما في ذلك الحصين Hippocampus والفص الصدغي الإنسي Medial temporal lobe؛ فتبدو مهمة بدورها. وإضافة إلى مناطق الدماغ المحددة هذه، فإن «شبكة العقدة الافتراضية» Default node network أو شبكة «أحلام اليقظة» مكتنفة أيضاً.

عادة ما تكون هذه المناطق نشطة في الدماغ المسترخي وعندما نشرع في التأمل. ويقول زيمان: «إذا كنت مسترخياً في الماسح الضوئي، فهذه هي المناطق الأكثر نشاطاً. اتضح أنها تشبه شبكة من أحلام اليقظة، تفعّل عندما تفكر في الماضي، أو تتوقع المستقبل». يعتقد زيمان أنها قد تكون مكتنفة في التصور المرئي؛ لأننا عندما نتخيّل فنحن ننتبه للمحفزات الداخلية بدلاً من العالم الخارجي.
ويوضح زيمان: «لذلك نحن نعلم بوجود هذه الشبكة الكبيرة: الرؤية، وصنع القرار، والذاكرة العاملة، والانتباه، والذاكرة الطويلة المدى والتأمل. كلما وجدت شبكة، فإنه يمكنك التنبؤ بأنها قد تتعطل بعدة طرق مختلفة؛ مما يساعد على توضيح سبب وجود أكثر من نوع واحد من الأفانتازيا».
فمثلا، أظهر مريض زيمان تفعيلاً طبيعيّاً للدماغ عندما كان ينظر إلى الوجوه، لكنه لم يستطع تفعيل مناطق الدماغ نفسها عندما حاول تخيّل الوجوه. بالنسبة إليه، ربما كان هناك فقدان في الاتصال بين مناطق صنع القرار والمناطق البصرية. ربما حدث هذا نتيجة لسكتة دماغية صغيرة خلال الجراحة القلبية. بالنسبة إلى غيره من مصابي الأفانتازيا، يرجّح أن يكون الأساس العصبي مختلفاً.

عالم الأحلام
ماذا عن الأشخاص الذين يمكنهم الحلم بالصور ولكنهم لا يستطيعون استدعاء الصور إلى الذهن عندما يكونون مستيقظين؟ لا يعتقد زيمان أن هذا أمر غريب كما يبدو، فيقول: «ما يفعله الدماغ في حالتي اليقظة والحلم مختلف». ويصف زيمان الحلم بأنه عملية تتم «من القاعدة إلى القمة» وينظمها جذع الدماغ Brainstem، في حين أن التصوّر الواعي هو عملية تتم «من الأعلى إلى الأسفل» وتنظمها القشرة المخية Cortex. وهو يعتقد أن السبب المحتمل لذلك هو الأختلاف بين قدرات بعض الأفراد على التخيّل أثناء حالتي الحلم والاستيقاظ.

ولكن ما الذي يحدث في أدمغة المصابين بالأفانتازيا مدى الحياة؟ لم تُجر أي دراسة منشورة بعد، لكن العلماء يأملون بالحصول على بعض الإجابات قريباً. انتهى فريق زيمان حديثا من دراسة 20 شخصاً لديهم تصورات بصرية عالية، و20 شخصاً من دون تصور بصري و20 شخصاً في المنتصف، مستخدمين اختبارات نفسية وعصبية. يقول زيمان: «لذلك قد نحصل على إجابة في غضون بضعة أشهر».
بغض النظر عما يحدث على المستوى العصبي، يبدو أن الحالة وراثية إلى حد ما، ويرجح أن يكون لدى مصابي الأفانتازيا قريب من الدرجة الأولى (الوالد أو الأخ أو الابن) يجد بدوره صعوبة في التخيّل.
وأحد الأسباب التي أدت إلى عدم تسمية الأفانتازيا أو عدم دراستها لفترة طويلة هو أنها ليست مشكلة بالضرورة. في حين أنها تجعل رسم الأشياء من الخيال مستحيلاً، ولا يمكن استخدام استراتيجيات التخيّل للحفظ، غير أن هناك طرقاً أخرى لتمثيل المعلومات ذهنياً. ويستخدم بعض الأشخاص الكلمات أو الرموز، في حين يذكر آخرون وجود «أذن العقل» Mind’s ear أو «أنف العقل» Mind’s nose جيدة بدلاً من «عين العقل»، أو يقولون إن لديهم تصوراً حسي الحركة Kkinaesthetic (يستند إلى الحركة).

وعلى الرغم من أن بعض مصابي الأفانتازيا أبلغوا عن صعوبات في الذاكرة، فهذا لا ينطبق على الجميع. هناك توجه لعمل مصابي الأفانتازيا في المهن الأكاديمية والمتعلقة بالحواسيب، أما المصابون بفرط التخيّل فيميلون إلى العمل في المجالات الإبداعية. ولكن هناك استثناءات. هناك فنانون مصابون بالأفانتازيا، يعمدون إما إلى تصوير الأشياء التي يرونها، أو يستخدمون الصور التي يرسمونها على الورق كمحفز للتفكير فيها. ويقول زيمان: «من الممكن تماماً أن تكون مبدعاً ومبتكراً من دون تخيّل».

لا يعتقد زيمان أن الأفانتازيا بحاجة إلى تشخيص وعلاج. يقول: «إنه تباين مثير للاهتمام في التجربة الإنسانية، وليس اضطراباً». في الواقع، فقد وصف العالم كريغ فنتر Craig Venter، أول شخص فك تشفير الجينوم البشري، إصابته بالأفانتازيا بأنها مفيدة إذ ساعدته على التركيز على المشكلات العلمية.
يكشف وجود مجتمع كبير ومختفٍ سابقاً لمصابي الأفانتازيا عن كيف يمكننا أن نرى العالم بشكل مختلف دون أن ندرك ذلك. وقد يساعدنا تصوير الدماغ على فهم التنوع العصبي Neurodiversity بجميع أنواعه، لكننا لن نعرف سوى أن هناك اختلافات ينبغي استقصاؤها إذا لم نفترض أنك ترى ما أراه، ونطرح بدلاً من ذلك أسئلة مستكشفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى