بقلم: جيني سميث
رسوم: فيكتور سوما
عادت الساعات إلى الوراء، تاركة الكثير منا يلجأ إلى القهوة فيما تكافح ساعات أجسامنا للتكيف. ولكن هناك العديد من جوانب النوم التي لا تزال تحيّر الخبراء…
تخيل حيوانين، من النوع نفسه، يعيشان في بيئة خطرة حيث الغذاء نادر. يقضي الأول من يومه في البحث عن الطعام وعن زوج، وتجنب الحيوانات المفترسة. وعند حلول الليل يأخذ قسطاً من الراحة، ومع أنه يكون بلا حراك، غير أنه يظل مستيقظا يراقب حتى الفجر. ويتبع الثاني السلوك نفسه، لكن أثناء الراحة، يفقد الوعي، ويجهل ما يجري في العالم من حوله تقريباً. أي منهما تعتقدون سيكون لديه فرصة أفضل للبقاء؟
إذا أجبتم الحيوان الأول؛ فتهانينا! لقد اكتشفتم المفارقة التي تحيط بتطور النوم.
يحتدم النقاش حول سبب تطور جميع الحيوانات، باستثناء أبسطها، لقضاء الكثير من حياتها دون وعي. إحدى الأفكار هي أن النوم يحافظ على الطاقة، ولكن الدراسات أظهرت أننا نحرق عدداً كبيراً من السعرات الحرارية أثناء النوم كما نفعل عندما نكون مستيقظين، لذلك يبدو ذلك غير مرجح. ويخبرنا التطور بأنه في حالة وجود مخاطرة، مثل النوم، يجب أن تكون هناك فائدة منه تفوق هذا المخاطرة. فما الفائدة التي يجلبها النوم؟
ربطت عقود من البحث بين النوم ومعالجة الذاكرة والاستقرار العاطفي وحتى ‘دورة شطف’ الدماغ. ولكن ما لا نعرفه هو ما إذا كنا ننام لأن هذه العمليات يجب أن تحدث، أو ما إذا كنا قد تطورنا لتنفيذها أثناء النوم لأن ذلك أكثر كفاءة من القيام بها أثناء النهار.
من الواضح أن الأرض لها إيقاع، ودورة من الضوء والظلام، وجميع الحيوانات تقريباً لها إيقاعات الساعة البيولوجية Biological clock الخاصة بها، أو ساعات الجسم. ومعظمها يضبط على أساس مستويات الضوء، ولكن حتى أجسام أسماك الكهوف العمياء في المكسيك، التي عاشت تحت الأرض لآلاف السنين، لديها ساعات.
د. أندي بيل Andy Beale، زميل ما بعد الدكتوراه في جامعة كيمبريدج University of Cambridge، يدرس هذه الحيوانات. ويقول إن كل خلية في الجسم لها إيقاع، لذلك من الضروري أن تكون لدى الكائنات طريقة لمزامنة Syncronise هذه الخلايا، حتى لو لم تستخدم الشمس لفعل ذلك. لذلك ربما يكون النوم قد نشأ كوسيلة لتجميع عمليات الجسم؛ مما يضمن أن جميع الخلايا تنفذ عمليات صيانتها في وقت واحد، بدلاً من أن تتعارض مع بعضها بعضاً.
لسوء الحظ، من الصعب إثبات نظريات التطور، لذلك في الوقت الحالي نظل نتساءل: كيف ظهر النوم في المقام الأول؟
يظهر أن عدداً من العائلات مصابة بسوء الحظ. فعند منتصف العمر، يعاني العديد من أفرادها أعراضاً غريبة: التعرق، والرجفة، والأكثر إثارة للقلق هو الأرق الكامل والمدمّر. فهذه أعراض مرض نادر جدا يسمى الأرق العائلي القاتل Fatal and devastating (اختصارا: القلق FFI).
يؤدي تحور جيني لدى مرضى الأرق العائلي القاتل إلى تراكم بروتينات غير سوية في الدماغ، الأمر الذي يؤدي إلى إتلاف المهاد thalamus، وهو مفتاح التحكم في الاستيقاظ والنوم. من دون منطقة الدماغ هذه، يكون النوم مستحيلاً. ومن دون النوم، يقع المصابون في غيبوبة استيقاظ. منذ ظهور الأعراض، نادراً ما يعيشون لأكثر من عام.
وبينما توجد العديد من النظريات حول سبب حاجتنا إلى النوم، لكن الحرمان من النوم الذي يمكن أن يقتلك لا يزال لغزاً. وهناك دراسة حديثة ربما وجدت مفتاحاً لحل اللغز. فقد اكتشف الباحثون أن الخلايا الموجودة في أدمغة الفئران النائمة تتقلص؛ مما يسمح للسائل النخاعي cerebrospinal fluid – وهو السائل عديم اللون الذي يدور في الدماغ والحبل الشوكي – بالتدفق بسهولة أكبر، فيزيل الحطام الذي يتراكم حول الخلايا النشطة خلال اليوم. يُحمل ذلك إلى الغدد اللمفاوية ويُطرد خارج الجسم. لذلك، قد يكون النوم أمراً حيويّاً؛ فمن دونه تتراكم هذه المخلفات السامة في الدماغ.
من الصعب اختبار فكرة أن النوم ينظِّف أدمغتنا، ودراسة الأشخاص الذين يعانون الأرق العائلي القاتل لا يمكن أن تمدنا بجميع الإجابات. ولا يمكننا حتى أن نعرف على وجه اليقين ما إذا كان الحرمان من النوم نفسه، أو تلف الدماغ الذي يسببه، هو الذي يقتل المصابين.
توفر الدراسات الحيوانية مفتاحاً آخر لحل اللغز. إذ أظهرت التجارب أن الفئران المحرومة من النوم تموت في غضون شهر واحد، لكن مرة أخرى، من الصعب إثبات أن قلة النوم هي التي تسببت في قتلها؛ بل قد يكون بدلاً من ذلك الضغط الناجم عن الإيقاظ المتكرر.
إن أطول فترة مسجلة لليقظة عند الإنسان السليم هي 11 يوماً، وصاحبها هو الطالب راندي غاردنر Randy Gardner. ففي النهاية، عانى انخفاض الوظائف المعرفية cognitive functions، وتقلب المزاج وحتى الهلوسة. وعلى الرغم من ذلك، فقد تعافى خلال يوم أو يومين، ولم يواجه أي مشكلات صحية طويلة المدى. لكنه ربما لم يكن مستيقظاً تماماً طوال 264 ساعة.
أظهرت الأبحاث أن البشر المحرومين من النوم يعانون «فترات نوم متناهية الصغر» Microsleeps، لا يدركون حدوثها. وقد تستمر هذه الفترات فقط لأجزاء من الثانية، ويمكن أن تحدث في جزء واحد من الدماغ فيما يكون الشخص «مستيقظاً» ويعمل.
فهل يمكن للحرمان من النوم أن يقتل شخصاً معافى؟ أم أن الدماغ سيكافح لحماية نفسه؟ الجواب ببساطة هو، أننا لا نعرف…
أدهش الحلم العلماء والفلاسفة لآلاف السنين، وما زال يحيرنا حتى اليوم. في الأصل، كان يعتقد أن الحلم يحدث فقط أثناء مرحلة نوم حركة العين السريعة (REM)، ويبدو أن هذه هي المرحلة التي تحدث فيها معظم الأحلام المركبة. لكن يمكنك أن تحلم خلال المراحل الأخرى أيضاً – تميل هذه الأحلام إلى أن تكون أشبه بلقطات سريعة، تصاحبها مشاعر قوية. ولكن لماذا نفعل ذلك؟
من الأفكار المطروحة أن الحلم يساعد على وظيفة النوم الخاصة بمعالجة الذاكرة. وبعد تعلم إيجاد طريقها عبر متاهة، تقوم أدمغة الفئران النائمة بتنشيط الخلايا العصبية (العصبونات) Neurons نفسها التي استخدمتها خلال النهار، كما لو كانت تمارس المرور عبر المتاهة أو تستعيد ذلك. نعتقد أن الشيء نفسه يحدث لدى البشر: إن أخذ غفوة، خصوصاً إذا كان يشمل نوم حركة العين السريعة (REM)، يمكن في الواقع أن يحسن من القدرة على حل المشكلات. وأثناء النوم تقوم أدمغتنا بفرز المعلومات التي التُقطت خلال النهار، وتقرير ما يتم تخزينه منها، والربط بين الحقائق والذكريات الجديدة. ومن الممكن أن تساعد الأحلام على هذا الأمر، وهو ما قد يفسر سبب شيوع الحلم بالتجارب الحديثة، ولكن أيضاً لماذا تتضمن الأحلام في كثير من الأحيان روابط غريبة لا يمكن أن يولدها دماغك اليقظ بتاتاً.
تفيد نظرية أخرى أن الأحلام تساعد على المعالجة العاطفية. وعندما نخزن ذاكرة ما لأول مرة، تكون العواطف المرتبطة بها حية، ولكنها تخبو بمرور الوقت. وهذا هو السبب الذي يجعلنا أكثر قدرة على تحمل آلام الفقد والصدمات مع مرور الوقت (ما لم يتم تعطيل هذه العملية، كما هي الحال في اضطراب ما بعد الصدمة Post Traumatic Stress Syndrome (اختصارا: الاضطراب PTSD). ربما يساعد الحلم على فك هذا الترابط، من خلال السماح بمعالجة الذكريات وإزالة بعض الارتباطات العاطفية.
بدلاً من ذلك، قد توفر الأحلام طريقة آمنة لاختبار ردود أفعال الدماغ تجاه الأحداث السلبية أو المهدِّدة، التي قد تكون السبب في أن الأحلام تكون عاطفية في أكثر الأحيان. ومن خلال التدرب على الهروب من وحش الأحلام، فأنت تعرف ماذا تفعل إذا حدث ذلك في الحياة الحقيقية!
أو قد يكون ما في الأمر أن النوم مهم والأحلام هي مجرد ناتج ثانوي لعقل قُطعت عنه المدخلات الخارجية، مثل حافظ شاشة التوقف screensaver على جهاز حاسوبك. ومن المثير للاهتمام، أن بعض الأدوية تكبح نوم حركة العين السريعة، ويبلغ المرضى عن أحلام أقل، لكن لا يبدو أنهم يعانون أي أثر سلبي… لذا، فإن لغز الحلم لم يُحل بعد.
هل السهر في الليل سيِّئ لصحتك؟
هناك لغز آخر محيِّر هو لماذا ينهض بعض الأشخاص من الفراش في السابعة صباحاً، مفعمين نشاطاً وحيوية مستعدين لمواجهة ما يحمله النهار، في حين يواصل آخرون مراراً وتكراراً إسكات المنبه قبل أن يتعثروا وهم مجهدون في طريقهم لإعداد القهوة. هذا هو السؤال الذي يحاول الإجابة عنه د. سام جونز Sam Jones، الباحث في مجال النوم في جامعة إكستر University of Exeter. من خلال فحص المعلومات الوراثية وسلوك نحو 700,000 شخص، اكتشف د. جونز وفريقه أكثر من 300 جين يبدو أن لها دوراً في جعلك شخصاً صباحيّاً أو مسائيّاً. ولكن استعدادنا لذلك ليس أمراً نهائيّاً. فقد أشارت أبحاث سابقة إلى أن جيناتنا مسؤولة بنسبة نحو %25 فقط عما إذا كنا نستيقظ مبكرين مثل طيور «القُـبرة» أو نحب السهر مثل طيور «البوم».
يقول جونز: «يبدو أن الأمر يعود في الأغلب إلى العادات والبيئة. ليست الجينات هي التي تحدد «نمطك الزمني» Chronotype إلى حد كبير، وإنما عاداتك وأسلوب حياتك وما تأكله ومقدار التحفيز الذي تحصل عليه في المساء، وما إلى ذلك. ويبدو أنه بالأحرى أمر قابل للتعديل».
وإضافة إلى فهم الأنماط الزمنية بحد ذاتها، يبحث جونز في كيفية تأثيرها في حياة الناس، ويوفر البحث المبكر تلميحات محيِّرة. وعلى سبيل المثال، يبدو أن الأشخاص المسائيين أكثر عرضة للإصابة بالفصام Schizophrenia في وقت لاحق من الحياة. ويظهر التحليل الدقيق أن هذا لا يرتبط فقط بالتأثيرات المتعددة للجينات – وإنما يوجد شيء ما في السهر الليلي أو عيش نمط طائر البوم يعرضك لخطر أكبر للإصابة بالمرض. وفي المتوسط، يعاني من يسهرون في الليل تراجعَ وضعهم الصحي ويكونون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب. لا نعرف على وجه اليقين سبب ذلك، لكن جونز يعتقد أنه من المحتمل ألا يكون السهر مضراً بحد ذاته، وإنما محاولة التكيف مع مجتمع أعد ليلائم من ينشطون في النهار. وهذا يعني أن الأشخاص الذين ينتمون إلى نمط طيور «البوم» يعانون باستمرار اختلاف التوقيت، الأمر الذي قد يعرض أجسادهم وأدمغتهم لضغوط. ولهذا السبب، يروج بعض الناس لفكرة يوم عمل أكثر مرونة. لكن إلى أن يتم إجراء مزيد من الأبحاث، لا نعرف ما إذا كان هذا سيؤدي في الواقع إلى تحسين حياة من يحبذون سهر الليل، أو جعله أقل عرضة للمعاناة من المشكلات الصحية.
لقد التقينا بهم جميعاً، وهم أشخاص يفعلون أكثر في يوم واحد مما يبدو ممكناً أن يؤديه بشر عاديون. وعندما يُسألون عن سر ذلك، يقولون بفظاظة: «أنام فقط لمدة أربع ساعات في الليلة. هذا كل ما أحتاج إليه»، وتكسو وجوههم نظرة متعالية. ولكن هل يحتاجون بالفعل إلى نصف فترة النوم التي ينامها معظمنا؟ أم أنهم يُراكمون مشكلات سيواجهونها في وقت لاحق من حياتهم؟
في عام 2009 وجد فريق بحثي قادته البروفيسورة ينغ-هوي فو Ying-Hui Fu من جامعة كاليفورنيا University of California في سان فرانسيسكو، أن حاملي جين معين ينامون لمدة ساعتين أقل من غيرهم في المتوسط. ولكن بعد ذلك اكتشفوا عائلة فيها ثلاثة أجيال من الذين ينامون لمدة أقصر ولا يحملون هذا الجين. وعبر جدولة جينومهم، اكتشف الفريق طفرة أخرى تبدو مرتبطة بالنوم القصير. وكانت الفئران التي عدلت لتحمل هذا التغيير الوراثي نفسه أسهل في الاستيقاظ. لا يبدو أن هؤلاء الذين ينامون وقتاً أقصر بشكل طبيعي يعانون مشكلات صحية مرتبطة عادةً بقلة النوم.
لكن لابد من الحذر هنا. فقد تقصت الدراسة الجديدة عائلة واحدة، ووجد فريق يقوده باحث النوم د. سام جونز في جامعة إكستر الطفرة نفسها ولكنه لم يجد أي علاقة لها بطول النوم. ويعد جونز وفريقه ورقة بحثية لتحدي نتائج فو، على الرغم من أن جونز يوافق على وجود من ينامون بشكل طبيعي لمدة قصيرة.
ويقول: «يبدو أن بعض الأفراد قد يكتفون بفترة قصيرة من النوم، وذلك ببساطة بسبب عوامل وراثية تجعلهم مستعدين لفترة نوم أقصر أو أطول»، ويضيف قائلاً: «أعتقد أنه ربما يكون هناك حدّ، ربما في مكان ما بين ست ساعات ونصف الساعة إلى ثماني ساعات، ولكن أي شيء أكثر من ذلك سيثير شكوكي».
مرة أخرى، من المرجح أن العوامل الوراثية تؤدي دوراً صغيراً فقط، وأن للبيئة دوراً أساسيّاً. قد يكون من ينامون لمدة قصيرة في الواقع ينامون بشكلٍ فعال. ومعظم الناس لا يقضون طوال الليل في نوم عميق ومجدِّد للنشاط. فقد يؤخُر النومَ تسارعُ الأفكار أو قد يوقظك ضجيج أو الحاجة لإفراغ مثانتك. تناول الطعام في وقت متأخر قبل النوم قد يقلل من جودة النوم، وقد يكون للتحديق في الشاشات تأثير أيضاً. ربما لم يكن هؤلاء الأشخاص مدهشين في قدرتهم على النوم لفترة أقصر، ولكن في قدرتهم على النوم بصورة جيدة.
لكن هذا لا يجعلهم أقل جدارة بالدراسة. في الواقع، قد يجعلهم أكثر أهمية. لا ندري لماذا ينام بعض الأشخاص في اللحظة التي يضعون فيها رأسهم على الوسادة، في حين يقضي آخرون ساعات يتقلبون، أو لماذا يستطيع البعض النوم في أي مكان وفي أي وقت، في حين يحتاج الآخرون إلى ظلام دامس ليغفوا. ربما يساعدنا تعلم المزيد عن هؤلاء الذين ينامون لفترة قصيرة وبصورة فعالة على تحسين نوعية النوم التي نحصل عليها كل ليلة.