أيها المريض، شخِّصْ حالتك!
تشتد الحاجة إلى معالجي الصحة العقلية، وكذلك الإقبالُ على الحصول على خدماتهم. تلبيةً للطلب المتنامي. وبنيَّة حسنة تشكلت مجموعات على الإنترنت لتقديم الدعم والمشورة، وحتى التشخيص لمن يحتاجون إليها. ولكن هل هذا آمن؟
د. دين بيرنيت
الرسوم التوضيحية: إلينا غالوفاروبانش
إذا كنت تعاني صعوبات في صحتك العقلية Mental health، فماذا يمكنك أن تفعل حيال ذلك؟ بفضل عديد من الحملات الهادفة، يتزايد ”الوعي“ بالمخاوف المتصلة بالصحة العقلية. وهذا أمر جيد. من المستحسن أن نقول للناس إن الوقت قد حان للتحدث عما يقلقهم، أو التأكيد على أن لا عيب في طلب المساعدة، ولكن ماذا لو أن الحصول على تلك المساعدة غير ممكن في وقت قريب؟
هذا ليس افتراضياً. منذ سنوات عدة تعاني خدمات رعاية الصحة العقلية في المملكة المتحدة نقصاً شديداً. وتُظهر الإحصائيات أن 40% من جمعيات ومؤسسات رعاية الصحة العقلية تعاني نقصاً كبيراً في الموظفين. إذ أفاد 14% فقط من المرضى الذين يعانون أزمة صحية عقلية بأنهم لا يتلقون الرعاية التي يحتاجون إليها كاملة. إذ تمتد أوقات الانتظار في أكثر الأحيان إلى أكثر من عام، وهذا يعني أن 75% من مرضى الصحة العقلية يضطرون إلى اللجوء إلى خدمات الطوارئ التي تعاني بالفعل ضغطاً شديداً وهي غير مجهزة للتعامل مع مثل هذه الحالات. وعلى الرغم من أن 1 من كل 6 أشخاص يعانون مشكلات الصحة العقلية التي تزداد سوءاً بمرور الوقت، هناك القليل من الحماس لدى السلطات المعنية للتعامل مع القضية بطريقة مجدية، خلافاً للشعارات والوعود الفارغة.
نتيجة لذلك لا عجب في أن ينتهي الأمر بعديد من الأشخاص إلى السعي للحصول على المساعدة والدعم خارج أنظمة الرعاية الصحية الحكومية. وسواء لجؤوا إلى مجتمعات المرضى أو مواقع على الإنترنت أو إلى التقنيات الحديثة أو العلاجات البديلة، أو أي شيء آخر، لا يمكن حقاً إلقاء اللوم على من يقررون تولي أمر معالجة صحتهم العقلية بأنفسهم. فأي خيار لديهم غير ذلك؟
ولكن النتيجة الحتمية لكل ذلك هي أن عديداً من الأشخاص ينتهي بهم الأمر لدى الاستعانة بالموارد المتاحة إلى تشخيص حالتهم بأنفسهم، وماذا يفعلون حيال ذلك. يمكن القول إن هذا هو مجرد مظهر آخر من مظاهر العلاج الذاتي، وهي ممارسة قائمة منذ ما قبل ظهور خدمات الطب الرسمية. ولكن، للأسف، يمكن أن يؤدي العلاج الذاتي في كثير من الأحيان إلى جعل الأمور أسوأ. يمكننا فقط أن نتخيل عدد حالات الإدمان التي تنبع من حاجة شخص ما إلى الشعور بالراحة من حالة مَرضية كان يعانيها مسبقاً.
المعضلة هي أنه في حين أن التشخيص الذاتي لمشكلات الصحة العقلية أمر لا مفر منه، وفي كثير من الحالات ضروري، فإن ما يحصل في كثير من الأحيان، نظراً إلى الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا، هو التغاضي عن النتائج السلبية والضارة لمثل هذا التشخيص. خاصة في عالمنا التكنولوجي الحديث.
صعوبة التشخيص
إن المعاناة بسبب مشكلة تتعلق بالصحة العقلية أمر صعب بما يكفي في حد ذاته، ولكن عدم معرفة ماهية هذه المشكلة يخلق قدراً كبيراً من عدم اليقين الذي يجهد أدمغتنا إلى حد كبير. والإجهاد Stress هو العامل الرئيس الكامن وراء عديد من مشكلات الصحة العقلية الشائعة. لذلك فإن أي شيء يزيل أو يقلل من عدم اليقين يمكن أن يساعد على تخفيف الإجهاد الناتج عنه.
”تشخيص الحالة الصحية العقلية هو عملية صعبة، حتى بالنسبة إلى المهنيين“
التشخيص الطبي هو إحدى الطرق لتحقيق ذلك. إذا حصلت فجأة على تسمية لمجمل الأفكار المُنهِكة أو الحالة المزاجية المضطربة التي تواجهها وعلى مجموعة من المعايير التي حددها كبار الخبراء في العالم، فهذا أمر مطمئن. يمكن أن يجعل ذلك الناس يشعرون بأن مشكلاتهم طبيعية ومفهومة.
لكن تشخيص الحالة الصحية العقلية عملية صعبة ومعقدة، حتى بالنسبة إلى المهنيين المدربين. ومن ثم عندما يُدلي من يُنصبون أنفسهم ”خبراء العلاج النفسي“ المتحمسين بدلوهم، نادراً ما ينتهي الأمر على خير.
إذا انتهى الأمر بالناس إلى التكيف مع سلوكهم وتغييره للتعامل على نحو أفضل مع التشخيص الذاتي للصحة العقلية، مهما كانت الطريقة التي توصلوا بها إلى ذلك، فهذا أمر مفهوم. لكن ماذا لو كان التشخيص خاطئاً؟ ربما وفر مع ذلك الراحة من حالة عدم اليقين، ولكن أي تغييرات تجري بناءً عليه يمكن أن تزيد من حالة الإرباك، إن لم تجعلها أسوأ.
مثلاً قد يعمد شخص ما إلى تشخيص نفسه على أنه مصاب بالاكتئاب، ومن ثم يقاوم أو يتجاهل مشاعره السلبية ”غير المنطقية“ Irrational. هذا ممكن، أليس كذلك؟
ولكن ماذا لو كان مصاباً في الحقيقة بالاضطراب ثنائي القطب Bipolar disorder؟ حتى المهنيون المدربون يخطئون في تشخيص ذلك في أحيان كثيرة. وإذا كان هناك ما من شأنه أن يجعل نوبة الهوس Manic episode أسوأ، فهو كبت أي شعور بأنك تفعل شيئاً على نحو خاطئ.
هذا مثال بسيط جداً، ولكن الطبيعة المعقدة والمتغيرة لاضطرابات الصحة العقلية (ومدى فعالية التدخلات) تعني أن التشخيصات والتدخلات المحددة ذاتياً يمكن أن تنتهي إلى نتيجة غير محمودة بطرق عدة.
السيناريوهات الأسوأ
حتى مع توافر حسن النية، فإن توقع أن يكون شخص يعاني مشكلات في الصحة العقلية ولم يحظَ بتدريب إكلينيكي موضوعي وشامل وعقلاني في أثناء الخوض في بحر من المعلومات المعقدة والمتضاربة في كثير من الأحيان، في محاولة للتشخيص الذاتي، هو مهمة عصية وغير معقولة.
من بين الأمور الأخرى سيكون الناس حتماً عرضة للتحيز التأكيدي Confirmation biases – حتى الأطباء الذين يحظون بتدريب مكثف يمكن أن يقعوا في ذلك. وهذا يعني أنه عند البحث عن إجابات، فإن المعلومات التي تتطابق مع ما يريد الناس سماعه و/أو ما يفكرون فيه بالفعل، سوف يُنظر إليها على أنها هي ”الأصح“. وسيكون التشخيص الذاتي الذي ينتهون إليه هو نتيجةً لهذا العيب في التحليل.
لن يكون هذا بالضرورة تحيزاً ”إيجابياً“. وكما يعلم أي شخص مطلع على ظاهرة ”الدكتور غوغل“ Doctor Google، فإن التشخيص الذاتي [ص 67] غالباً ما يميل إلى تبني السيناريو الأسوأ. قد ينبع هذا من التحيز السلبي المتأصل في الدماغ، وهذا معناه أن انتباهنا ينجذب على نحو غريزي إلى الاحتمالات السلبية أو الخطرة. تبحث آليات الدفاع الذاتي في دماغنا باستمرار عن أكبر التهديدات والمخاطر. هذا هو السبب في أننا ننجذب إلى عبارة ”ثلاثة أسابيع للعيش“ بدلاً من ”رد فعل تحسسي معتدل“ عند البحث على غوغل عن الأعراض.
أيضاً الاكتئاب، وهو الاضطراب العقلي الأكثر شيوعاً، يضخم هذا التحيز السلبي، ومن هنا يتزايد احتمال الوصول إلى التشخيص الذاتي غير المفيد لأسوأ سيناريو ممكن.
التشخيص الذاتي، القيمة الذاتية
على الرغم من تراجع وصمة العار المحيطة بالصحة العقلية، فهي ما زالت تمثل مشكلة كبيرة في بعض الثقافات أو المجتمعات. من بين جملة أمور أخرى يعني ذلك أن أولئك الذين يعانون مشكلات في الصحة العقلية يحصلون على مساعدة واهتمام أقل مما يستحقون، وهذا يؤدي إلى تفاقم الأمور. ولكن إضافةً إلى ذلك، فإن البشر مخلوقات جد اجتماعية، مما يعني أننا نجد الرفض مؤلماً نفسياً ومكدِّرا، إلى درجة أنه يمكن أن يزيد الاضطرابات والمشكلات العقلية سوءاً.
ومجتمعات المرضى Patient communities تشكِّل جانباً مهماً من تجربة الرعاية الحديثة للصحة العقلية. وتتمثل إحدى إيجابيات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في أنها تربط – بسهولة – الأشخاصَ الضعفاء والمعزولين الذين يمكنهم حالياً بسهولة وأمان، مشاركةُ تجاربهم مع أشخاص يشبهونهم في تفكيرهم ومواقفهم، ومروا بتجارب مماثلة. ومهما قلنا فلن نبالغ في سرد الفوائد التي يعود بها ذلك عليهم.
ولكن في حين أن مثل هذه المجتمعات يمكن أن تكون مصدراً مهماً يحصل منه الناس على مساعدة مهمة للتعامل مع حالتهم، فإن الانتماء إلى مجموعة كبيرة ومتحمسة ومتشابهة التفكير له تأثيرات غريبة في البشر.
تصير المجموعة أو المجتمع الذي نشعر بأننا جزء منه، وعلى نحو منتظم، جزءاً لا يتجزأ من هويتنا. ولكن نظراً إلى أننا نرغب في إثارة إعجاب الآخرين الذين نتماثل معهم، فإننا نميل إلى تضخيم الصفات التي نمتلكها والتي توافق عليها المجموعة والمبالغة فيها، وذلك لتحسين مكانتنا ضمن هذه المجتمعات. إذا كنا جزءاً من مجموعة لإنقاص الوزن، فإننا نعمل بجد أكبر لفقدان أكبر قدر من الوزن. وإذا شاركنا في مجتمع المعجبين بحرب النجوم Star Wars، فإننا نبذل قصارى جهدنا لإظهار أننا نحب حرب النجوم أكثر من غيرها.
للأسف يمكن أن يؤدي هذا إلى حالات متطرفة غير منطقية وحتى ضارة. هناك أمثلة لا حصر لها على الإنترنت لشخصيات بارزة، من مختلف الانتماءات الأيديولوجية والثقافية، انتقلت من كونها طبيعية نسبياً إلى التفوه بأكثر الآراء المربكة أو البغيضة، وذلك بفضل سنوات من التحفيز المستمر من مؤيديهم وأقرانهم الذين يتفقون معهم ويشجعونهم، ومن ثم يعززون مثل هذه المواقف والآراء.
مجتمعات الصحة العقلية معرضة تماماً لهذه الظاهرة مثلها مثل أي مجتمع آخر. ومن المتوقع أن يعرف كثيرون شخصاً واحداً على الأقل تحولت مشكلات صحته العقلية من ”مشكلة يرغب في معالجتها“ إلى ”السمة الرئيسة لهويته“.
لا يوجد ما هو خطأ بطبيعته في هذا، ولكن يمكن أن يؤدي إلى مواقف وسلوكيات غير صحية من رفض العلاجات أو التدخلات الأخرى إلى المبالغة في الأعراض وضرب مثال سيئ للأشخاص الآخرين الضعفاء، وغير ذلك.
ومن المؤكد أن ذلك يمكن أن يزيد الطين بلة بالنسبة إلى من هم في حالة ضعف ويبحثون عمن يشرح لهم سبب مشكلاتهم المحتملة. قد يكون التفكير في أن ”هذا التشخيص يشرح ما أواجهه“ أقل إقناعاً من القول بأن ”هذا التشخيص الآخر يعني أنني مقبول ومحبوب من قِبل هذه المجموعة المعينة“. وهذا ليس بالضرورة خياراً أفضل.
التاريخ حافل بأمثلة عن الأمراض النفسية الجماعية، حين تنتشر الأعراض بين أفراد مجتمع أو مجموعة ما، على الرغم من عدم وجود مسببات مرضية أو سبب عضوي لذلك. تأخذ هذه الأعراض عادة شكل اضطرابات جسدية (الرقص، والإغماء، والصراخ، مثلاً)، وتحدث حصرياً في المجتمعات التي تعيش في مكان واحد أو قريبة بعضها من بعض.
وما زال هذا يحدث، على ما يبدو. كشفت تقارير أخيراً عن ظاهرة نفسية المنشأ تصاب خلالها فتيات صغيرات بتشنجات لاإرادية تشبه أعراض متلازمة توريت Tourette، على الرغم من عدم وجود أي من السمات المعروفة لتلك المتلازمة لديهن. يُجمع الخبراء على أن تطبيق تيكتوك TikTok هو سبب هذه الأعراض في الواقع، فقد ذكرت عديدٌ من الفتيات المصابات أنهن شاهدن مقاطع فيديو لمؤثرين ادعوا أنهم مصابون بمتلازمة توريت وعرضوا تلك الأعراض.
أدمغة في طور النمو
قبل أن يبدأ أي أحد في الصياح حول إفساد وسائل التواصل الاجتماعي للشباب، علينا أن نعرف أن هذا ليس مفاجئاً. إن تقليد البشر لا شعورياً لحركات الآخرين وإيماءاتهم وكلامهم يحدث على نحو يومي، وذلك عائد إلى الطريقة التي تعمل وفقها أدمغتنا.
إضافة إلى ذلك فإن المراهقين، وهم قاعدة مستخدمي تيكتوك الرئيسة، هم في مرحلة رئيسة من النمو العصبي. عواطفهم قوية، ورفاهيتهم العقلية ضعيفة، وما زالوا يكتشفون هويتهم العامة ويشكلونها، وهم حساسون بنحو خاص لنيل موافقة الأقران Peer approval.
لذلك، عند مواجهة شخصية غريبة كاريزمية ومتعاطفة وتفاعلية على منصة بارزة (وهذا ينطبق على عديد من المؤثرين في مجال الصحة العقلية) ويسهل التعلق بها، فمن المرجح بنحو خاص أن يتجاوب المراهقون بقوة معها، وربما يقلدونها عن غير قصد. وإذا عرضت الشخصية المؤثِّرة سمات جسدية، مثل التشنجات اللاإرادية… فهذا في الأساس مثالي للتشخيص الذاتي الخاطئ.
صحيح أن متلازمة توريت هي حالة عصبية Neurological condition وليست عقلية. لكن غالباً ما تُستخدم التصنيفات ”العصبية“ Neurological و”النفسية“ Psychiat والمتشعبة من مرض عصبي Neurodivergent استخداماً متبادلاً الواحدة محل الأخرى عبر الإنترنت، وهذا يزيد من إرباك الأمور.
يكشف هذا عن جانب آخر يستدعي القلق: عندما يحاول الناس تشخيص أمراضهم تشخيصاً ذاتياً، فمن أين يستقون معلوماتهم؟ بالنسبة إلى الأطباء المحترفين، هناك عديد من الأسس واللوائح المعمول بها، ويجب اعتماد المعلومات التشخيصية من قبل عدد لا يُحصى من الخبراء.
الحال ليست كذلك في عالم الإنترنت. إذا كنت تشاهد مؤثراً في الصحة العقلية يشرح الأشياء على تيكتوك، فهل هو محترف مدرَّب؟ هل لديه خبرة واسعة في حالة معينة عايشها وهو يشارك وجهة نظره؟ أو إنه ربما كان شخصاً يبالغ (أو يكذب عن قصد) بشأن حالة معينة فقط للحصول على عدد كبير من نقرات الإعجاب والتعليقات؟ إن التمييز بين كل هؤلاء هو مشكلة كبيرة تزداد صعوبة يوما بعد يوم. ويبدو أن أياً من منصات التواصل الاجتماعي الرئيسة لا تخضع إلا لإشراف ضئيل جداً. وكيف يمكن لأي شخص إجراء تشخيص ذاتي دقيق عندما يقدم الأشخاصُ الذين يستمع إلى أفكارهم وآرائهم معلوماتٍ محرَّفة أو غير موثوق بها؟ أو عندما يكون هؤلاء الأشخاص هم أكثر اهتماماً بتعزيز صورتهم، بغض النظر عن التأثيرات التي قد تُحدثها في الصحة العقلية للآخرين؟
هذا مهم، لأن التشخيص الذاتي الخطأ يمكن أن يلحق بصاحبه الضرر. ليس فقط لأنه قد يؤدي إلى سلوكيات غير مفيدة وإلى التفكير بطريقة ضارة، ولكن لأن هناك دليلاً يشير إلى أن محاكاة شخص لحالة صحية عقلية، لأي سبب كان، يمكن أن تؤدي في الواقع إلى تطورها لديه فعلياً. هكذا هي الأمور مع مشكلات الصحة العقلية: إذا ظننت حقاً أنها مشكلة، فهي إذن كذلك، وإلى حد غير بسيط.
ماذا نستطيع أن نفعل؟
خلاصة، يمكن أن يؤدي التشخيص الذاتي غير الدقيق إلى عدد من النتائج الضارة، بما في ذلك تطوير أعراض هذا التشخيص الخاطئ بنحو حقيقي.
لحسن الحظ، هناك بعض الطرق الممكنة للتدخل هنا. مثلاً إذا كان من الممكن جعل الفرد يدرك أن تشخيصه الذاتي ”غير دقيق“ ويتقبل ذلك، فيمكن أن يعزز ذلك من فعالية العلاجات التي توصف له.
ولكن حتى إن لم ينجح ذلك، إذا صاروا مقتنعين بأن تشخيصاً معيناً لصحتهم العقلية صحيح، فإن علاجات هذا التشخيص تبدو فعالة أيضاً، سواء كانت معرفية أو دوائية أو أي نوع آخر من التدخل.
ففي الحقيقة ما زالت الآليات الأساسية المسببة للاضطرابات النفسية قيد الدراسة، لذا فإن الأدلة على فعالية العلاجات محدودة نوعاً ما.
على هذا النحو، فإن نهج الوقاية سيكون خيراً من العلاج. إن زيادة الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات، لمنع المعلومات المضللة أو سيئة النية من تشويه المعلومات المهمة التي يقدمها الخبراء المعنيون، أو على الأقل تعزيز القدرة على التعرف على مثل هؤلاء الأشخاص، ستكون بداية جيدة.
وبوجه عام، فإن ما قد يساعد على تحسين الأمور على نحو أفضل هو إتاحة الوصول إلى موارد البيانات والآراء الأكثر موثوقية ورجاحة حول الصحة العقلية على أن يكون من السهل التعامل معها وفهمها بالنسبة إلى الأشخاص العاديين الذين يبحثون عن إجابات.
ونأمل تعزيز هذا على نحو أفضل بإدخال البرمجيات العلاجية واعتمادها على نطاق واسع. أوصى المعهد الوطني للتميز في الرعاية الصحية National Institute for Health and Care Excellence (اختصاراً: المعهد NIHCE) أخيراً بعديد من العلاجات الجديدة الممكَّنة رقمياً. إذا صارت هذه وغيرها من البرمجيات التي هي قيد التطوير متاحة وأكثر تقبلاً، فهذا يعني أن الأشخاص الذين يعانون مشكلات في الصحة العقلية سيصيرون أقدر على استخدام الموارد المهنية والفعالة، من دون الحاجة إلى مغادرة منازلهم.
ستصير مشكلات وقضايا التشخيص الذاتي عبر الإنترنت أقل انتشاراً، على نحو بديهي، إذا أتاحت الإنترنت نفسُها أيضاً أدوات الصحة العقلية القوية والموثوق بها بسهولة أكبر، ويمكن تمييزها عن غيرها. ومع ذلك دعونا نوضح أمراً مهماً: فخلال سنوات عديدة ساد فيها في الطب النفسي ”نموذجُ المرض“ Disease model (بمعنى أن دور المرضى كان سلبياً وكان عليهم أن يخضعوا للعلاج)، خلال هذه السنوات كان النهج الطبي لتشخيص حالات الصحة العقلية بعيداً عن الكمال.
”كثيرون لديهم تحفظات بشأن النهج غير المرن والمحدود للتشخيص الطبي، وهم محقون في ذلك“
كثيرون لديهم تحفظات بشأن النهج غير المرن والمحدود للتشخيص الطبي، وهم مُحقون في ذلك. بعض هؤلاء هم علماء نفس إكلينيكيون يتبعون نهجاً مختلفاً بنحو ملحوظ. لذلك، حتى إن كان نظام الصحة العقلية الطبي ممولاً بالكامل ومتاحاً (وهو بعيد عن أن يكون كذلك في المملكة المتحدة)، فإن الاستكشاف والتحليل الذاتي من قبل الأفراد المتأثرين بمشكلات الصحة العقلية سيبقيان مفيدين جداً، إن لم يكونا ضروريين.
ولكن، كما رأينا، يأتي التشخيص الذاتي مع بعض المخاطر. قد لا يكون الأسلوب الطبي مثالياً، ولكنه لا يتبع تلقائياً النهج الذي يدعو إلى التخلص من كل شيء بما في ذلك ما هو مفيد. في عالم مثالي يمكن أن يتعايش الفهم الطبي والإشراف في وئام تام مع المسارات الفردية والاستكشافات التي يضطلع بها المرضى بأنفسهم، وستعمل كلها معاً لفهم حالات الصحة العقلية وتشخيصها والتعامل معها. بالطبع، في عالم مثالي، لن أحتاج حتى إلى الإشارة إلى ذلك. هذا هو تشخيصي على الأقل.
د. دين بيرنيت (@garwboy)
يناقش عالم الأعصاب دين عدوى العواطف والاضطرابات عبر التكنولوجيا بعمق أكبر في كتابه الأخير: الجهل العاطفي Emotional Ignorance (منشورات: Guardian Faber)