أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تعليق

الطاقة المعتمة تطرح تحديات جديدة أمام المُنظِّرين

هل تُعَد الظاهرة الأكثر غموضاً في الكون للكشف عن مفاجأة أخرى؟

”لقد أفلتت الطاقة المعتمة من كل محاولة بذلناها لتصويرها أو التقاطها“

لا بد أن تزهو ببعض الغرور تسميةُ مشروع جديد باسم أداة التحليل الطيفي للطاقة المعتمة Dark Energy Spectroscopic Instrument (اختصاراً: الأداة DESI). فالطاقة المعتمة (أو الطاقة المعتمة) هي في الحقيقة غير مرئية على الإطلاق، فهي لا تُصدر أي ضوء يمكن جمعه وتحليله باستخدام جهاز قياس الطيف. في الواقع هذه المادة لم نرَها على الإطلاق – لقد أفلتت من كل المحاولات التي بذلناها لتصويرها أو التقاطها حتى باستخدام التلسكوبات المتطورة والتجارب التي تعتمد على الكاشفات الأكثر تقدماً للرصد والتحليل.

ما يمكننا قولُه أن الطاقة المعتمة هي شيء لا يمكن تمييزه أو رؤيته، وهي موزعة على نحو متجانس تماماً في معظم أنحاء الفضاء، ولا تتفاعل على الإطلاق مع المادة أو الضوء. وظيفتها الوحيدة هي جعل الفضاء يتمدد بوتيرة متزايدة باستمرار عبر آليات لم يتوصل العلم إلى تحديدها بعد.

إذن، كيف يمكن أن يؤدي صدور أولى البيانات عن الأداة DESI على الفور، كما وعد مخترعوها، إلى تغيير فَهمنا للطاقة المعتمة؟

ليس لدينا سوى عدد قليل من أدوات وأجهزة الرصد التي يمكننا استخدامها للحصول على معلومات حول شيء مراوغ وصعب الفهم مثل الطاقة المعتمة. وبما أن كل ما تفعله الطاقة المعتمة هو توسيع الزمكان Space-time، فإن اختبار النظريات المختلفة لطبيعة الطاقة المعتمة يتضمن أن نفهم كيف يحدث هذا التمدُّد عبر الزمن الكوني. إحدى الطرق الممكنة هي إنشاء رسم بياني لتاريخ توسُّع الكون، وتتعلق طريقة أخرى بالنظر في مدى سرعة تراكم المادة لتكوين المجرات وعناقيد المجرات في نقاط مختلفة في ماضينا الكوني.

يعتمد قياس معدل التوسع بوجه عام على إنشاء خرائط ثلاثية الأبعاد دقيقة جداً للمادة في الكون؛ وتحيد مواقع كثير من المجرات البعيدة والكوازارات (النجوم الزائفة) Quasars (الانبعاث الساطع من محيط الثقوب السوداء الهائلة) أو الغاز بين المجرات، ومعلومات حول حركة كل جسم. وهنا يأتي دور التحليل الطيفي. من خلال تحليل طيف الضوء، يمكننا أن نرى مدى تمدُّدِه فيما يسحب التوسع الكوني مصدر الضوء بعيداً عنا. إن ربط معدل التوسع Expansion rate المَقيس ذاك بمسافة مادية دقيقة يمكن أن يوفر لنا معلومات لا تُقدر بثمن حول تطور كوننا (إلى جانب بعض الخرائط الرائعة حقاً). أحدثت نمذجات الأداة DESI الصادرة حديثاً ضجة كبيرة من خلال التلميح إلى أن الطاقة المعتمة قد يكون لها تاريخ أكثر تعقيداً مما نفترض عادةً. إذا تبين أن هذه التلميحات صحيحة، فإنها يمكن أن تعيد تشكيل فهمنا ليس فقط لتاريخ الكون، ولكن أيضاً لما قد يكون عليه مصيرنا النهائي في هذا الكون.

يُلخص نموذج التوافق في علم الكونيات نموذجنا الحالي الذي يعتمد على أفضل التخمينات حول الكون ومكوناته. في هذا النموذج تُصوَّر الطاقة المعتمة على أنها ثابت كوني Cosmological constant: أي خاصية متأصلة في الزمكان، متجانسة ولا تتغير وهي في الأساس تُحدث قليلاً من التمدُّد في كل جزء من أجزاء الفضاء. مع اعتبار الطاقة المعتمة ثابتاً كونياً، تظل كثافة الطاقة المعتمة المرصودة كما هي على الدوام مع مرور الوقت. وهذا خلافاً لما يحدث للمادة التي تتخفف أو تقل كثافتها عندما يكبر الفضاء الذي توجد فيه من خلال التوسُّع الكوني، بينما في حالة الثابت الكوني أو الطاقة المعتمة، فإن زيادة الفضاء تعني ببساطة وجود مزيد من هذا الثابت الكوني أو هذه الطاقة في ذلك الفضاء. لو كانت الطاقة المعتمة ديناميكية، بمعنى أن كثافتها أو سلوكها يتغيران بمرور الوقت، لكان هذا التغيُّر ملحوظاً في القياسات التفصيلية لتاريخ توسُّع الكون عبر الزمن.

تميل الأداة DESI والمسوحات الأخرى إلى الإبلاغ عن نتائج الطاقة المعتمة من خلال ما يُسمى معلمة ”معادلة الحالة“ Equation of state، التي يُرمز إليها بالحرف w. إذا كانت الطاقة المعتمة بالفعل ثابتاً كونياً، فإننا نتوقع أن تكون قيمة معادلة حالتها w تساوي -w = 1 بالضبط في معظم الأوقات. أما إذا كانت قيمة w أي شيء آخر غير -1، أو إذا بدا أنها تتزايد أو تتناقص، فهذا يعني أن الطاقة المعتمة هي شيء آخر.

تطرح نتائج الأداة DESI معضلة مُحيرة. عندما يُفترض أن قيمة w ثابتة، فإن القيمة -1 تناسب النتائج تماماً. ولكن عندما يتغير التحليل لنأخذ في الاعتبار احتمال تغيُّر القيمة w، تبدو نتائج الأداة DESI الجديدة مختلفة. وبدمجها مع مجموعات بيانات أخرى من مسوحات السوبرنوفا (المستعرات العظمى)، يبدو أنها تشير إلى أن القيمة w المتغيرة التي كانت أقل في الماضي وستكون أعلى في المستقبل، تطابق البيانات على نحو أفضل.

ما يعنيه هذا بالنسبة إلى كوننا غيرُ واضح. في حالة كانت w ثابتة، فإن أي شيء أقل من -1 يُسمى ”الطاقة المعتمة الوهمية“ أو ”الطاقة المعتمة الشبحية“ Phantom dark energy، ونُسبت إليها هذه التسمية المشؤومة لأنها تشير إلى أنه في مستقبل بعيد ستمزق هذه الطاقة المعتمة حرفياً المجرات والمجموعات الشمسية والنجوم وحتى الكون نفسه. لا يستسيغ المُنظِّرون الطاقة المعتمة الوهمية لأنها تخرق على ما يبدو بعض المبادئ الأساسية المهمة حقاً والتي يعتمد عليها فهمُنا للكون في الوقت الحالي. وفي حين أن النتائج الجديدة التي توصل إليها العلماء تشير إلى الابتعاد عن نظام الطاقة المعتمة الشبحية، إلا أنها تُلمِح ضمناً إلى أن هذه المبادئ ربما انتُهكت في وقت ما في الماضي الكوني، الأمر الذي من شأنه أن يطرح تحديات جديدة أمام كثير من المنظرين.

إذا كانت القيمة w تتزايد بالفعل، فقد يشير ذلك إلى أن أهمية الطاقة المعتمة تتراجع بمرور الوقت. يمكن أن يغير ذلك مستقبلنا الكوني على نحو غير ملحوظ ولكن مثير للاهتمام، وربما يؤدي إلى مستقبل يكف فيه توسُّع الكون عن التسارُع (على الرغم من أنه ربما لن يسمح للتوسع بأن يعكس اتجاهه أو يتوقف تماماً). ما زالت نتائج الأداة DESI مجرد تلميحات قد تختفي في الدراسات المستقبلية. ومع ذلك من الممكن أن تُخبئ الطاقة المعتمة مفاجأةً لنا.

د. كيْتي ماك (@AstroKatie)
كاتي عالمة فيزياء فلكية نظرية. وهي تشغل حالياً منصب كرسي هوكينغ في علم الكون Hawking Chair in Cosmology والتواصل العلمي في المعهد المحيطي للفيزياء النظرية The Perimeter Institute for Theoretical Physics

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى