أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تدقيق الحقائقتعليق

المناخ: هل يمكن أن تصير 50 درجة سيليزية هي الوضع الطبيعي؟

خلال موجة الحر الأخيرة في يعقوب آباد بباكستان، سُجلت درجات حرارة قياسية بلغت 51 درجة سيليزية، قريبة على نحو ينذر بالخطر من الحد الذي يمكن معه للبشر البقاء على قيد الحياة

تُحطم موجات الحر باستمرار مزيداً من الأرقام القياسية كل عام. في صيف 2022، شهدنا درجات حرارة قصوى بلغت نحو 51°س في وسط باكستان، في حين شهد العام 2021 تحطيم نحو 5°س فوق الرقم القياسي السابق لدرجات الحرارة في غرب كندا. وبالنسبة إلى بعض موجات الحر في الهند، قدَّر العلماء أن تغير المناخ جعلها مئة مرة أكثر احتمالاً، وبحلول نهاية القرن، نتوقع أن تكون درجات حرارة موجة الحر البالغة °50س حدثاً سنوياً تشهده المنطقة. تختلف الأرقام تبعاً لمكان وجودك على الكرة الأرضية، لكنّ هناك أمراً واحداً أكيداً هو أننا سنشهد مزيداً من درجات الحرارة القصوى.

لا يعتمد الشعور بالحرارة أو البرودة على درجة الحرارة فحسب، بل على مجموعة من الظروف الجوية. يمكن أن نضيف إلى ذلك الرطوبة وسرعة الرياح والإشعاع الشمسي، أو نطرحها من درجة الحرارة التي نشعر بها، وعندما تجتمع بعض هذه العناصر معاً، فإنها يمكن أن تكون مميتة.

بصيلة رطبة، بصيلة جافة

في قلب هذا المزيج تكمن ”درجة حرارة البصيلة الجافة“. هذا ما نفكر فيه عادةً عندما نقول درجة الحرارة، وما الذي سنقيسه إذا وضعنا مقياس حرارة فوق رؤوسنا وقرأنا مستوى الزئبق. لكن غالباً ما يفضل علماء الأرصاد استخدام ”درجة الحرارة المحسوسة“، وهي تُعرَف باسم درجة حرارة البصيلة الرطبة والتي تُقاس أيضاً بميزان حرارة، ولكنها ملفوفة بقطعة قماش رطبة، لتقليد عديد من عمليات نقل الحرارة نفسها التي تنظمها أجسامنا.

يعرف معظمنا الشعور غير المريح بعدم القدرة على تبريد الجسم في ليلة رطبة، الآليات نفسها تعمل هنا. وهذا منطقي من الناحية الفسيولوجية. يتعرق البشر – وكذلك جميع الثدييات – لتبريد أجسامهم، وهي عملية نفقد خلالها الرطوبة من أجسامنا. إذا كانت الرطوبة عالية جداً، لا يمكن للعرق أن يخرج من جلدنا، ومن ثم تتعطل آلية التبريد هذه.

نحن نعرف جيداً مستوى تحمل الإنسان، إنها درجة حرارة بصيلة رطبة تبلغ 35°س. عند هذه النقطة لا يمكن للبشر البقاء على قيد الحياة أكثر من بضع ساعات لأننا لا نعود قادرين على نقل الحرارة من أجسامنا إلى البيئة المحيطة. قد لا يبدو هذا كثيراً، لكن القيمة الرقمية للبصيلة الرطبة تكون دائماً أقل من قيمة البصيلة الجافة (باستثناء عندما تكون الرطوبة النسبية %100). هذا يعني أن درجة حرارة بصيلة رطبة من 35°س يمكن أن تعادل بسهولة درجة حرارة بصيلة جافة تزيد على 50°س، حتى في مستويات الرطوبة المعتدلة.

إذن، هل تجاوزنا في أي وقت عتبة درجة حرارة بصيلة رطبة من 35°س؟ الجواب نعم، لكن نادراً جداً. جرى الإبلاغ عن نحو 10 حالات فقط، جميعها في الشرق الأوسط وفي الهند وحولها وفي أستراليا والمكسيك. حتى عندما لا تصل درجات حرارة البصيلة الرطبة إلى هذا المستوى المرتفع، فإن المدن الكبيرة المزدحمة والمكتظة في هذه المناطق تؤدي إلى تفاقم المشكلات الصحية المتصلة بالحرارة، لذا فمن الشائع تسجيل مئات الوفيات المرتبطة بالحرارة كل عام في بعض المراكز الحضرية الرئيسة.

بوجه عام، كلما كانت المدينة أكثر ثراءً وحداثة، قلّت المشكلة وبعض المدن الكبرى في الشرق الأوسط تعلمت كيف تتكيف جيداً مع الأمر. في الواقع يرتدي سكان شبه الجزيرة العربية ملابس دافئة في ذروة الصيف، لأنهم يتنقلون بالسيارة من مبنى إلى آخر، مع تشغيل مكيف الهواء إلى الحد الأقصى، ومن دون الحاجة إلى السير في الخارج.

لكن هل سيزيد تغير المناخ هذا الأمر سوءاً؟ نظراً إلى الزيادة في درجات الحرارة، نتوقع زيادة تجاوزات عتبة القدرة على البقاء البالغة °35س في المستقبل، ولكن من المرجح أن تبقى هذه الحالات نادرة، وأن تستمر فقط بضع ساعات في كل مرة. نتوقع أن تقتصر على مواقع في المناطق المدارية وشبه المدارية، وحتى حينها خلال سنوات معينة فقط. نتوقع أن يتضاءل احتمال حدوث هذه التجاوزات بقدر كبير إذا تمكنا من الالتزام بأهداف اتفاقية باريس المناخية Paris Agreement climate، أي إبقاء الزيادة في متوسط درجة الحرارة العالمية من دون درجتين سيليزيتين.

ولكن، حتى إن لم تتجاوز درجات الحرارة حدود القدرة على البقاء، يمكن للحرارة أن تقتل. إن التكيف مع متوسطات الحرارة الجديدة أمر لا مفر منه، ولكن ما يدعو إلى التفاؤل هو أن لدينا بالفعل ثروةً من استراتيجيات الحد من الحرارة المتاحة لنا. حتى في أوروبا، نرى عديداً من الشوارع محاطة بصفوف شاهقة من المباني القادرة على أن تفرد ظلها ليحتمي به السكان من تسلُّل أشعة الشمس. كما نرى المباني مطلية بألوانٍ أفتح تعكس حرارة الشمس وتوفر بيئة أكثر برودة.

بالنسبة إلى البلدان الأقرب من خط الاستواء، تُتبع تدابير أكثر جدية. مكيفات الهواء، حيث يمكن تحمل نفقاتها مالياً، خيار ممتاز، لكن عديداً من البلدان الفقيرة لا تمتلك البنية التحتية للطاقة لجعل الاعتماد على هذه التكنولوجيا ممكناً. تتمثل إحدى الاستراتيجيات شبه العالمية التي ثبت نجاحها في تخصيص مزيد من المساحات الطبيعية المزروعة بالأشجار والمسطحات المائية في المدن. في حين أنه ليس ممكناً دائماً إذا كان المناخ ليس مناسباً لمثل هذه النظم البيئية، فقد ثبت أنها توفر ثروة من الفوائد الصحية الجسدية والنفسية حيث جرى إنشاؤها.

في عالم يتسارع فيه البناء الحضري ويتسع باستمرار، أمضينا عقوداً ونحن نحول المساحات الطبيعية إلى طرق وعمارات، وقد حان الوقت لنسمح للطبيعة بأن تستعيد شيئاً مما أخذناه منها.

البروفيسور دان ميتشل Prof Dann Mitchell

دان أستاذ علوم المناخ من كلية العلوم الجغرافية بجامعة بريستول University of Bristol School of Geographical Sciences

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى