أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
تعليق

دفعة من ”الغرابة الكمية“ تضيف بُعداً جديداً مثيراً للاهتمام إلى نظرية التطور

إذا افترضنا أن البقاء للأصلح يحتوي على عنصر كمي، فماذا يعني ذلك للحياة على الأرض؟

في العام 1990، عندما كنتُ في كلية هافرفورد Haverford College، شرعتُ في مغامرة أكاديمية محورية لدراسة الفيزياء الحيوية Biophysics، ذاك التقاطع الجذاب بين الفيزياء وعلم الأحياء.

خلال هذا الوقت تعمقتُ في الفكرة المحيرة المتمثلة في عمل ميكانيكا الكم داخل الكائنات الحية.

لم أكن أدرك أن هذا الاستكشاف سيترك بصمة دائمة على رحلتي العلمية، ويولد لدي شغفاً بالفيزياء الحيوية مدى العمر. في نهاية المطاف ركزتُ في مساري البحثي على علم الكون الكمي Quantum cosmology لكن أصداء الفيزياء الحيوية ظلت ترافقني.

إن إحدى أقوى الاستراتيجيات في الكشف عن حقائق جديدة في الفيزياء تنشأ من المبادئ التي تُوحد ظواهر تبدو متباينة. مثلاً نجح مبدأ النسبية لآينشتاين في التوفيق بين الكهرومغناطيسية ونسيج الزمكان رباعي الأبعاد.

وبالمثل حقق فيزيائيون مثل ريتشارد فاينمان Richard Feynman وبول ديراك Paul Dirac إنجازات رائعة من خلال الجمع بين مبادئ متباينة وتوحيد نظرية الكم مع النسبية ليولد منظور جديد للمجال الكمي. أدى هذا إلى تنبؤات مثل وجود ضديد المادة Antimatter والنموذج القياسي للجسيمات الأولية Standard Model of elementary particles والتي أمكن التحقق من صحتها منذ ذلك الحين في مسرِّعات (معجِّلات) Accelerators الجسيمات حول العالم.

خلال فترة عملي أستاذاً للفيزياء في كلية دارتموث Dartmouth College، التقيت الدكتورَ سلفادور ألماغرو مورينو Salvador Almagro-Moreno، عالم الأحياء الجزيئية المتميز. ومن خلال عديد من الحوارات الفكرية، اكتشفنا أنا وسلفادور خيطاً مشتركاً يجمع مجالاتنا المتمايزة: التفاعل المتبادل بين الفيزياء والبيولوجيا.

لقد نشأ ابتكارنا المشترك من خلال تلاقي نظرية داروين Darwin’s theory في الانتخاب (الانتقاء) الطبيعي Natural selection ومبدأ التراكب الكمي Quantum superposition principle. أدى هذا إلى نسج محرك التطور الذي لا يهدأ مع السلوك الغامض للكيانات الكمية.

تعتمد نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي إلى حد كبير على الاختلافات الجينية والبقاء والتكاثر. فالانتخاب الطبيعي يفضل الكائنات الحية التي تمتلك سمات مفيدة، ومن ثم يدفع التطور قُدما.

وعلى العكس من ذلك، فإن مبدأ التراكب الكمي يسلط الضوء على القدرة الغريبة للكيانات الكمية، مثل الإلكترونات أو الجزيئات، على الوجود في حالات متعددة في وقت واحد، وهو مفهوم يتحدى الفيزياء الكلاسيكية.

لقد أطلقنا على ابتكارنا اسم ”مبدأ التحسين الحيوي الديناميكي“ Bio-dynamic optimisation principle. ويؤكد في جوهره أن الأنظمة الحية تتطور للاستفادة من أي جانب من جوانب الفيزياء التي تمكِّن من استكشاف جميع “الظروف الملائمة للبقاء” Fitness landscapes أو البيئات التي يمكن للكائنات الحية التكيف معها والبقاء على قيد الحياة.

”الظروف الملائمة للبقاء“ هي تمثيل مرئي أو مفاهيمي في علم الأحياء والتطور يوضح كيف تعتمد قدرة الكائن الحي على البقاء أو نجاحه على سماته الجينية وكيف تتفاعل تلك السمات مع البيئة المحيطة.

إنها في الأساس خريطة تساعدنا على فهم السمات المفيدة أو الضارة للبقاء والتكاثر في بيئة معينة. تُمثلُ القمم العالية في الرسم البياني لظروف البقاء السماتِ التي تعزز القدرة على البقاء والنجاح، في حين تمثل الوديان سمات أقل فائدة.

يساعد هذا المفهوم على شرح كيف يعمل الانتخاب الطبيعي وكيف تتطور الأنواع. وقد تنفح الفكرة حياةً جديدة في دور ميكانيكا الكم داخل البيئات الديناميكية الحرارية للكائنات الحية.

فلنأخذ مثلاً اليراع. تعتمد هذه الحشرات المُضيئة على التحولات الكمية لتوليد الضوء، وهي استراتيجية حيوية للبقاء. قد يخمن المرء أن البيئة المضطربة لعلم الأحياء من شأنها أن تؤدي إلى تآكل مثل هذه الظواهر الكمّيّة الدقيقة. ومع ذلك، فإن مبدأ التحسين الحيوي الديناميكي الذي وضعناه يشير إلى خلاف ذلك.

وهو يفترض أن الانتخاب الطبيعي يتصرف مثل حارس يقظ، يحافظ على التماسك الكمي الضروري للأنشطة الكمّيّة المرتبطة بالبقاء، مثل التلألؤ البيولوجي Bioluminescence في اليراعات. يبدو أيضاً أن الكم في الحياة له دور في عملية البناء (التمثيل) الضوئي Photosynthesis، ويسمح للطيور بالتنقل وربما يؤثر أيضاً في الدماغ.

”مبدؤُنا يفتح آفاقاً واعدة للاستكشاف“

يفتح مبدؤُنا طرقاً واعدة للاستكشاف، مثلاً: التواصل الكمّي الميكانيكي Quantum-mechanical communication (الأنظمة الحية، مثل سرب من البكتيريا وحيدة الخلية، قد تسخِّر التواصل الكمّي من أجل إرسال إشارات فعالة)؛ والاستشعار المعزز الكمّي Quantum-enhanced sensing (يمكن للكائنات الحية الاستفادة من الظواهر الكَمّية لتطوير أجهزة استشعار شديدة الحساسية للكشف عن التغيرات البيئية الدقيقة)؛ والمرونة الكمّية Quantum resilience (بسبب الانتخاب الطبيعي، ربما طوَّرت بعضُ أشكال الحياة آلياتٍ للتحمل والصمود أمام فقدان التماسك الكمّي Quantum decoherence انهيار الخصائص الكمّية عندما تتفاعل الجسيمات مع محيطها وضمان استمرار المزايا الكمّية في مواجهة الشدائد).

يعمل مهندسو الكم مثل البروفيسورة كلاريس أييلو Clarice Aiello من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس UCLA على تجارب تستكشف التأثيرات الميكانيكية الكمّية. أحد أهداف بحثها هو معرفة كيف اخترقت البيولوجيا ميكانيكا الكم، وهي معلومات يمكن أن تساعد المهندسين على تصميم حاسوب كمي أفضل.

إن اندماج حكمة داروين التطورية مع عالَم ميكانيكا الكم الغامض يشير إلى تأثيرات عميقة في جوهر الحياة نفسها.

ربما يكون مبدأ تحسين العمليات الديناميكية في الكائنات الحية ومجال علم الأحياء الكمّي Quantum biology بمنزلة شهادة على الجاذبية الدائمة للعلم، حين تُشكل الروابط غير المتوقعة والأفكار المبتكرة باستمرار فهمَنا للكون وعجائبه والإعجاز فيه.

ستيفون ألكسندر (@stephstem)
ستيفون عالم فيزياء نظرية متخصص في علم الكون وفيزياء الجسيمات والجاذبية الكمّية ويعمل في جامعة براون Brown University، رود آيلاند. كما يستكشف الصلاتِ بين الموسيقى والفيزياء والرياضيات والتكنولوجيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى